المزيد من الأخبار






خالد الحسناوي من هولندا يكتب: "جعدار" الناظور في بروكسل


خالد الحسناوي من هولندا يكتب: "جعدار" الناظور في بروكسل
خالد الحسناوي

من منا لا يعرف شخصية "جعدار" الناظور المشرد، الذي عاش في هدوء وتوفي في سرية تامة بفعل وفاعل مجهولين.

كلما كتبت مقالة حول موضوع الباعة المتجولين، او الباعة الجائلين بالناظور، إلا وحظرت أوصاف المتشردين والمشردين الآخرين في مخيلاتي. فنظرا لعدة اعتبارات منها سرعة مروري عبر هذه النقطة، ومنها قناعتي بعدم الدخول في تحليل جزئيات لم تكن من اولويات الحدث، فقد قررت حينئذ عدم استنباط المعاني من مغزى الموضوع. إلا انه، و انطلاقا من مبدأ حب المعرفة، أخذت على عاتقي مهمة الدخول في تحليل المفردتين: "المشرد" و "المتشرد" اعتمادا على ثقافتين و لغتين مختلفتين. وذالك لفهم المعنى و مغزى الكلمتين وبعدهما الثقافي والأخلاقي.

لهذا الغرض قمت بطرح بعض التساؤلات ووضعت بعض الاستفهامات حول الفرق بين هاتين المفردتين حتى أخلص إلى فهم لب الموضوع بكل جوانبه و بموضوعية تامة دون مزايدات أو نقصان.

ولفهم معنى هذه الكلمتين من زاويتين قمت ببحث في كل من معجم اللغة العربية "المعاني الجامع" و " المنهل" ومعجم اللغة الهولندية "Van Dale". فحاولت المقارنة بين المعنيين ومغزاهما الثقافي والتربوي والبعد الأخلاقي ثم خلصت إلى استنتاحات أبيت إلا أن أنشرها لأشارككم الفكرة لنستخلص العبرة وتعم الفائدة.

وأما قاموس اللغة الهولندية فهو يشرح كلمة "متشرد"
بذالك الشخص المتجول عبر شوارع البلد دون أن يأخذ مقر إقامة قار له. وقد تم تعزيز المعنى بالمثال الهولندي التالي: "اثناء العطل نتشرد شيئا ما عبر بلدان العالم".

اما قاموس اللغة العربية "معجم المعاني الجامع" فقد أعطى معنى آخر لهذه المفردة، حيث عرف كلمة "المتشرد" بمن لا مأوى له في بلد أو أسرة أو نحوها. اما قاموس "المنهل" فيعرف كلمة "متشرد" بالمتسول الذي يهيم في البلد ويضل الطريق.

وفيما يخص كلمة "مشرد" بتشديد حرف الراء وفتحه فلم أجد معناها في القاموس الهولندي ككلمة مستقلة بذاتها. اما في المعجم العربي فتدل هذه الكلمة على فعل التهجير "مهجر" بتشديد حرف الجيم وفتحه. وقد تم تعزيز المعنى بمثال فريد من نوعه: "شرد سكان القرية" يعني فرقهم وجعلهم بدون مأوى".

واضح إذن أن عملية شرح المفردات تعتمد على أرضية ثقافية معينة، تأخذ بعين الإعتبار أعراف المجتمع المتداولة وتقاليده، فمنها ماهو مستحب و منها ماهو ضروري والكثير منها منبوذ لا يصلح في عصرنا وزماننا هذا.

اما القاموس الهولندي، فيعتمد في شرحه على طبيعة العقلية والأعراف الهولندية، التي تعطي للإنسان حرية الإختيار، في ظل إطار عام تنظمه الدولة وتحفظ فيه كل الحقوق والواجبات. ففي معجم اللغة الهولندية لم أجد فعلا مبنيا للمجهول قائما بذاته ولا نائبا للفاعل. كل ما في ذالك أن الفعل فعل والفاعل فاعل دون نيابة ولا وساطة أو تصريف. والفعل يكون مبنيا للمجهول فقط إذا تم إضافة فعل آخر لتتمة المعنى. اما نائب الفاعل فهو غير متداول في قاموسها اللغوي والثقافي و الإجتماعي.

أستخلص من هذا كله، أن الفاعل إذا كان مجهولا، يعتمد على نائب له فان تحديد المسؤوليات ستكون مجهولة، وبالتالي لن تحدث المحاسبة. فإن عملية تركيب اللغة وبنيويتها ماهي إلا رؤية واضحة للتعامل والتواصل والأعراف الإجتماعية. وعلى هذه الأرضية تنكشف عملية تحديد الأفعال والفاعلين وتتضخ بذالك كل مسؤولية وتتم معرفة كل مهمة وكل من يتحمل مسؤوليتها. اما اذا كان الفعل و الفاعل مبنيان للمجهول فلن يتم تحديد المسؤولية ولن تتم المحاسبة، ومجزرة "خاشقجي" خير دليل على هذا.

فحين يعتمد القاموس الهولندي على هذه الأرضية على مستواه النظري فإنه يبني بنيته النظرية هاته على ماهو متعارف عليه في إطار منظم وواضح لا غبار عليه. وحين يعطي هذا القاموس شرحه لكلمة "متشرد" فإنه يعتمد على الفضاء الثقافي العام، وعلى قيم الإنسان المتعارف عليها والمقننة.

إن عملية التشريد في القاموس الهولندي، هي مهمة يختارها المتشرد نفسه. فرغم أن الدولة قد وضعت كل ظروف وشروط العيش والحياة السعيدة، رهن إشارة كل فرد، من سكن وشغل وصحة وتعليم، فإن الدولة تترك حق الإختيار للمواطن للإستفادة من هذه الحقوق أو عدم الإستفادة منها، ما دام الإختيار لا يخل بالنظام العام المتفق عليه. لذالك ترى ان عملية التشريد هنا تقع باختيار تام. فالمتشرد يعيش متجولا بين أحضان مدن وقرى البلد بإرادته وباختياره الشخصي، لكنه يستفيد بالرعاية المالية التي توفره له الدولة ما دام المتشرد لا يتوفر على شغل قار. فالدولة تتحمل المسؤولية، والمتشرد يتحمل مسؤولية توجهه الفكري ورؤيته إلى العالم وطريقة العيش فيه.

اما القاموس العربي فهو يعتمد هو الآخر على أرضية خصبة في شرحه للمفردات. فحينما يشرح المعجم العربي كلمة "متشرد" بمن لا مأوى له في بلد أو أسرة أو نحوها. فإن عملية الإختيار هنا منعدمة ومبنية للمجهول. فمن هو المسؤول على عدم وجود مأوى له؟ رغم ان الدولة تدعي في دستورها بحق السكن إلا ان المعجم العربي يصف المتشرد بالذي يضل الطريق وبالمتسول، دون ان يربط المفعول بالفاعل لأن الفاعل مبنيا للمجهول وتجعل بذالك صعوبة عملية المحاسبة.

فشرح كلمة "المتشرد" في المعجم العربي غير موضوعية لأن الظروف الموضوغية لهذه الكلمة غير موجودة. لهذا السبب لا أجد بدا من استعمال كلمة "المشرد"، بتشديد ونصب حرف الراء، مكان كلمة "المتشرد" لسبب واحد، و هو ان الحقوق غير محفوظة وبالتالي تكون عملية التشريد عنوة وغير اختيارية، ما دامت الحقوق، كالسكن والشغل والصحة غير محفوظة من طرف الدولة.

اما كلمة "المشرد" بتشديد ونصب حرف الراء، فهي كلمة موجودة معناعا غلى مستوى المعجم العربي كما سبق ذكره. إلا أن الفاعل يكون مبنيا للمجهول أو ينوب نائبا آخر على فعل الفاعل وبأمر من الفاعل حتى تصعب مهمة تحديد الفاعل وتتعثر مهمة المحاسبة.

اما المعجم الهولندي فهو ينطلق في عملية شرح المفردات على أن الكلمة لا تبنى على المجهول إلا إذا تمت إضافة كلمة أخرى كقرينة تدل على ذالك لتكمل المعنى. ضمنيا يعني أن كلمة "المشرد" بتشديد ونصب حرف الراء تدل على فعل التشريد إذا تم بقرينة أخرى أي بإضافة كلمة أخرى تعزز وتدل على المعنى. لهذا فان الأفعال المبنية للمجهول والقائمة بذاتها غير موجودة في القاموس الهولندي. فقط لسبب واحد وهو أن الفعل لابد من تحديد فاعله ولو بقرينة ليتضح المسؤول عن المهمة وتتم المحاسبة.

من لا يعرف "جعدار" الناظور المشرد الذي من خلال صورته ترى شوارع المدينة بضجيج اسواقها ومشادات كلامية هنا وهناك. "جعدار" يتجول بهدوء عبر ساحات وشوارع المدينة لا يتأثر بكل ما حوله. يطوف عبر كل جنبات المدينة حتى أصبح إسمه يشمل كل أركان مدينة الناظور.

ف"جعدار" هو ذالك الشخص المشرد الذي لا مأوى له والذي تم تشريده بعدم تشغيله وعدم توفير سكن لائق له، والذي ذهب ضحية فعل بناء الجسر المبني للمجهول، حيث صعب معه تحديد المسؤوليات لأن المهام كانت بفعل مبني للمجهول، والفاعل كان نائبا مجهولا، لهذا صعب على المحكمة النظر في القضية مادام المتهم مبنيا للمجهول.

المشردون الذين يغامرون بحياتهم عبر قوارب الموت وسط البحر وبين أمواجه المخيفة، ما هم إلا ضحايا أفعال مبنية للمجهول و مفعولا لفاعل يعتمد في قراراته على نائب الفاعل دون قرينة ولا وساطة لتتعقد عملية تحديد المسؤولية و يتم بذالك تغييب موضوع المحاسبة. إن المحاسبة لا يتم بنائها على أفعال مبنية للمجهول أبدا.

كان "جعدار" الناظور نموذجا لفعل التشريد، أثناء حياته، وضحية لفعل مبني للمجهول، أثناء مماته. وهذا يكمن في عملية بناء جسر لم يتم فيه احترام قواعد البناء ومقاييسه ليحفظ أمن المارة مشردين كانوا أم متشردين.
وأنا أكتب هذه الكلمات حول موضوع التشريد لغة وثقافة وعقلية واذا بالعالم الازرق يفاجئني بصورة "جعدار" الناظور وهو مكرم ومعزز من طرف فنان، وفيلسوف، وكاتب ورسام من بروكسل البلجيكية الأستاذ الصقلي عبد الرحمان.

فاعتبرت الموضوع أكثر من مقالة. انه تكريم لشخصية تحمل أكثر من معنى. شخصية عاشت بفعل التشريد وتوفيت ضحية فعل مبني للمجهول.

إلا أن لوحة الفنان لخصت كلماتي من خلال ألوانها الخلابة ومن خلال طريقة رسم جزيئات شخصية "جعدار" المعبرة.

فشكرا للأستاذ عبد الرحمان الصقلي الذي رسم شخصية لم يتم احترامها من طرف تلك الأفعال المبنية للمجهول ولا من طرف الفاعلين الذين يعتمدون على نواب لهم يتم فيه طمص الفعل وتتعقد فيه المحاسبة.

شكرا للاستاذ الذي حول ريشته الى فعل مبني للمعقول ليكرم شخصية "جعدار" في بروكسل عاصمة بلجيكا ومن خلاله موضوع التشريد المبني للمجهول. فإذا تم تشريد "جعدار" في حياته، و بنيت وفته على فعل مجهول، فإن ريشة الفنان قد كرمته وأعطت له قيمة إنسانية وردت له اعتباره بعد مماته.




1.أرسلت من قبل عبد العزيز في 29/12/2018 20:27 من المحمول
رحمه الله مسكين

2.أرسلت من قبل NAHARI EL HASSAN في 30/12/2018 09:23
Bonjour.
Merci bien mon cher ami une deuxième fois, vous m'avez bien rappeler des années 80 qu'on à passer ensemble à NADOR inoubliable les trois de la chambre
Salutations

3.أرسلت من قبل elhasnaoui abdelhak في 21/01/2019 11:13
sallam chokran 3ala almakal

تعليق جديد

التعليقات المنشورة لا تعبر بأي حال عن رأي الموقع وسياسته التحريرية
شكرا لالتزام الموضوعية وعدم الإساءة والتجريح