
مراسلة من هولندا: محمد الطلحاوي
تصوير: مارتن فان در فولف
في الرابع من ماي، وخلال مراسيم رسمية بهولندا لإحياء [ذكرى]article: ضحايا الحرب العالمية الثانية، ألقى أحمد مركوش، ابن الريف وعمدة مدينة أرنهيم، خطابًا مؤثرًا أمام الحاضرين، استحضر فيه آلام الماضي وربطها بمآسي الحاضر، وعلى رأسها ما يحدث اليوم في غزة.
كلماته القوية، التي ترجمناها لكم إلى العربية
تصوير: مارتن فان در فولف
في الرابع من ماي، وخلال مراسيم رسمية بهولندا لإحياء [ذكرى]article: ضحايا الحرب العالمية الثانية، ألقى أحمد مركوش، ابن الريف وعمدة مدينة أرنهيم، خطابًا مؤثرًا أمام الحاضرين، استحضر فيه آلام الماضي وربطها بمآسي الحاضر، وعلى رأسها ما يحدث اليوم في غزة.
كلماته القوية، التي ترجمناها لكم إلى العربية
مضى ثمانونَ عاماً على انقشاعِ نشيد الحرب في أراضي هولندا، ومع ذلك لا يزالُ صدى صدمة الحرب العالمية الثانية يرن في أذهان كثيرين منكم. فذكرياتُكم الخاصة، أو رواياتُ آبائكم وأجدادكم، لا تزالُ تنطوي على آثارِ المقاومةِ والخسارةِ معاً.
كما في قصةِ بيتي فوسدينغ، مصممةِ النُصْب اليهودي القريب منا. نشأت على ما رواه والدُاها بحقبةِ فرَايزلاند حين كانا مختبئين، ونجيا من ويلاتِ الحرب. ثمانيةٌ من إخوَةِ والدتها ذُبِحوا لمجردِ كونهم يهوداً. مرّت السنينُ، إلا أن الجراحَ بقيتْ تنزف.
نجتمعُ اليوم عند نصبِ “الإنسانُ ضدَّ السلطة” لنعيد إحياءَ وجوهِ الظُّلمِ والتضحيات التي رويتْها الحكايا. ومن خلالَ هذا اللقاءِ الجماعيّ، نعالجُ جراحَ الحربِ العالميةِ الثانيةِ والمحرقةِ التي خلّفتْها.
نُذكرُ أولئك الذين سُلِبوا إنسانيتَهم، وطُرِدوا وهُدِموا: اليهودَ، والرومَ والسِّنتي، والمضطهَدين لميولهم الجنسية، فضلاً عن مقاومي الاحتلالِ، وحلفائِنا، وسائر الضحايا الذين وقعوا تحت وطأة عنفٍ بربريٍّ أعماه العقلُ.
«لَنْ يَتَكرَّرَ ذلك»؛ هذه عهدُنا التي لا تُبدَّل.
تشكلُ الحربُ العالميةُ الثانيةُ المِحْكَةَ الأخلاقيةَ لحضارتِنا. فمن رمادِها بزغت دولتُنا القانونيَّةُ الديمقراطيةُ. ومع ذلك، لا تزالُ أصداءُ التعصبِ تتردّدُ، في وطنِنا وأوروبا والعالمِ كلِّه، إذ ترى دوافعَ الماضي تعود مجدداً.
نلمسُ بوادرَ التعصّبِ والعنفِ حين يُصنَّفُ الناسُ كبشعُزٍّ يُرجمُ به الآخرون؛ نجدُ اليهودَ والمسلمينَ، ولاجئينَ ومهاجرين، هدفاً لذلك. ونشهدُ زعماءَ القوةِ الذين يجندون الحربَ والجوعَ والدمارَ لتثبيتِ سيطرتِهم على الناس.
قبل ثلاثينَ عاماً، قالَ عمدةُ أمسترادم، شيلتو باتّين: «إذا كنا نفتخرُ بمسؤولياتنا الدولية، فلا يليقُ بنا أن ندّعي أن حرباً بعيدةً لا تهمُّنا. لا، فالتذكارُ ليس خياراً شخصياً، بل نداءٌ ملحٌّ لاستئصال شأفةِ الحربِ الدامية». كان يشيرُ إلى فظائعَ الحرب في البوسنة.
اليوم نعاينُ فظاعَتَها تكرّرت في غزة، حيث حُوصرَ أكثرُ من مليوني إنسانٍ في كابوسٍ دائم. أزهقت آلافُ الأرواح، جلُّ الضحايا منهم من النساءِ والأطفال، أبرياءٌ يعانون من الجوعِ والعطشِ ونقصِ الرعايةِ الطبيةِ والقصفِ المستمر.
إن منظمةَ الصحة العالميةَ تشهدُ بأنَّ الأطفالَ يُجوعون حتى الموت، جريمةٌ صريحةٌ ضد الإنسانية. لا يليقُ بنا أن نألفَ هذا الجنونَ غيرَ الإنساني. بل علينا أن نُقِيمَ عليه سداً منيعاً. فها هو “لن يَتَكرَّرَ ذلك” صارَ واقعاً يتطلبُ فعْلَ الحاضر.
حضراتُ السادةِ الحاضرون،
في أوكرانيا أيضاً، يعاني الناسُ منذ أكثرَ من ثلاثِ سنواتٍ من طغيانِ القوّةِ وإفرازاتِ العنفِ المدمر. في أوروبا، تستَجدُ التهديداتُ على الحريّةِ والأمنِ. والحكومةُ تدعونا إلى الصمودِ. ولكن ما معنى الصمودِ بحقٍّ؟
الصمودُ أسمى من حزمةِ إسعافاتٍ لأيامٍ معدودات. وأوسعُ من مجردِ تعزيزِ قدراتِ الدفاعِ. الصمودُ يقيمُ حدودَ المسموحِ به؛ إدراكٌ بأنَّ قيمَنا الديمقراطيةَ تستدعي منّا حمايتَها. والنهوضُ بشجاعةٍ لصدِّ سُمومِ الاستقطابِ والكراهية. وحمايةُ السلام الذي ضحّى من أجله الآخرونَ بالغالي والنفيس.
نكافحُ كلَّ أشكالِ التطرفِ، وكلَّ محاولاتِ تقويضِ دولتِنا القانونيةِ الديمقراطيةِ، وكلَّ دعواتِ تجريدِ الناس من إنسانيتِهم. ونحرصُ على اعتبارِ الآخرِ إنساناً فرداً له حقُّه في الكرامة.
وكذلك نرى في أنفسِنا الإنسانَ، بما يَحملهُ من مسؤوليةٍ أخلاقيةٍ فردية. فلا نجعلُ منّا ضبطاً في غُبرةِ ماكينةٍ لا تُبالي. بل ننبّهُ حين يعلو سلطانُ السلطةِ فوقَ الإنسان.
فهذا ما جرى في الثلاثينياتَ والأربعينيات: لم يكن الكراهية وحدها، بل اللامبالاةُ وفقدانُ اليقظةِ وربما الرُّخصةُ السهلة. ترك كثيرون العربةَ تمضي في طريقِها. وكانت النتيجةُ آلةُ الدمارِ الصناعيِّ التي طحنت ملايينَ الأرواحِ في الحرب العالمية الثانية؛ آلةٌ تستبدُّ بالإنسانِ، سلطةٌ تعلو على الإنسان.
غداً نحتفلُ بالحرية: ثمانون عاماً من الحرية! ولندركْ في يومِ التحريرِ—وكلَّ يومٍ يعقبهُ—أنَّ حريتنا حُمِيت ببطولةِ رجالٍ أمثالِ الراحلِ حديثاً مُقاتلِ “ماركت جاردن”، بيل لاردر، الذي نبَّهنا إلى أنَّ السلامَ ليس أمراً مفروغاً منه.
واجبُنا أن نستمرَّ في المقاومةِ ضدَّ التطرفِ العنيفِ والإرهابِ، وضدَّ اللامبالاةِ، وضدَّ كلِّ مسعىٍ لانتقاصِ الكرامةِ الإنسانية.
لن نُسكتَ. لن نَضعفَ. لن نسمحَ لسلطانِ السلطةِ أن يَعلو فوقَ الإنسان. سنتقدَّمُ بالتسامحِ على منطقِ كبشِ الفداء، والديمقراطيةَ والحريّةَ فوقَ الطغيانِ، والإنسانِيَّةَ فوقَ السلطة. هذه هي عهدُنا.
كما في قصةِ بيتي فوسدينغ، مصممةِ النُصْب اليهودي القريب منا. نشأت على ما رواه والدُاها بحقبةِ فرَايزلاند حين كانا مختبئين، ونجيا من ويلاتِ الحرب. ثمانيةٌ من إخوَةِ والدتها ذُبِحوا لمجردِ كونهم يهوداً. مرّت السنينُ، إلا أن الجراحَ بقيتْ تنزف.
نجتمعُ اليوم عند نصبِ “الإنسانُ ضدَّ السلطة” لنعيد إحياءَ وجوهِ الظُّلمِ والتضحيات التي رويتْها الحكايا. ومن خلالَ هذا اللقاءِ الجماعيّ، نعالجُ جراحَ الحربِ العالميةِ الثانيةِ والمحرقةِ التي خلّفتْها.
نُذكرُ أولئك الذين سُلِبوا إنسانيتَهم، وطُرِدوا وهُدِموا: اليهودَ، والرومَ والسِّنتي، والمضطهَدين لميولهم الجنسية، فضلاً عن مقاومي الاحتلالِ، وحلفائِنا، وسائر الضحايا الذين وقعوا تحت وطأة عنفٍ بربريٍّ أعماه العقلُ.
«لَنْ يَتَكرَّرَ ذلك»؛ هذه عهدُنا التي لا تُبدَّل.
تشكلُ الحربُ العالميةُ الثانيةُ المِحْكَةَ الأخلاقيةَ لحضارتِنا. فمن رمادِها بزغت دولتُنا القانونيَّةُ الديمقراطيةُ. ومع ذلك، لا تزالُ أصداءُ التعصبِ تتردّدُ، في وطنِنا وأوروبا والعالمِ كلِّه، إذ ترى دوافعَ الماضي تعود مجدداً.
نلمسُ بوادرَ التعصّبِ والعنفِ حين يُصنَّفُ الناسُ كبشعُزٍّ يُرجمُ به الآخرون؛ نجدُ اليهودَ والمسلمينَ، ولاجئينَ ومهاجرين، هدفاً لذلك. ونشهدُ زعماءَ القوةِ الذين يجندون الحربَ والجوعَ والدمارَ لتثبيتِ سيطرتِهم على الناس.
قبل ثلاثينَ عاماً، قالَ عمدةُ أمسترادم، شيلتو باتّين: «إذا كنا نفتخرُ بمسؤولياتنا الدولية، فلا يليقُ بنا أن ندّعي أن حرباً بعيدةً لا تهمُّنا. لا، فالتذكارُ ليس خياراً شخصياً، بل نداءٌ ملحٌّ لاستئصال شأفةِ الحربِ الدامية». كان يشيرُ إلى فظائعَ الحرب في البوسنة.
اليوم نعاينُ فظاعَتَها تكرّرت في غزة، حيث حُوصرَ أكثرُ من مليوني إنسانٍ في كابوسٍ دائم. أزهقت آلافُ الأرواح، جلُّ الضحايا منهم من النساءِ والأطفال، أبرياءٌ يعانون من الجوعِ والعطشِ ونقصِ الرعايةِ الطبيةِ والقصفِ المستمر.
إن منظمةَ الصحة العالميةَ تشهدُ بأنَّ الأطفالَ يُجوعون حتى الموت، جريمةٌ صريحةٌ ضد الإنسانية. لا يليقُ بنا أن نألفَ هذا الجنونَ غيرَ الإنساني. بل علينا أن نُقِيمَ عليه سداً منيعاً. فها هو “لن يَتَكرَّرَ ذلك” صارَ واقعاً يتطلبُ فعْلَ الحاضر.
حضراتُ السادةِ الحاضرون،
في أوكرانيا أيضاً، يعاني الناسُ منذ أكثرَ من ثلاثِ سنواتٍ من طغيانِ القوّةِ وإفرازاتِ العنفِ المدمر. في أوروبا، تستَجدُ التهديداتُ على الحريّةِ والأمنِ. والحكومةُ تدعونا إلى الصمودِ. ولكن ما معنى الصمودِ بحقٍّ؟
الصمودُ أسمى من حزمةِ إسعافاتٍ لأيامٍ معدودات. وأوسعُ من مجردِ تعزيزِ قدراتِ الدفاعِ. الصمودُ يقيمُ حدودَ المسموحِ به؛ إدراكٌ بأنَّ قيمَنا الديمقراطيةَ تستدعي منّا حمايتَها. والنهوضُ بشجاعةٍ لصدِّ سُمومِ الاستقطابِ والكراهية. وحمايةُ السلام الذي ضحّى من أجله الآخرونَ بالغالي والنفيس.
نكافحُ كلَّ أشكالِ التطرفِ، وكلَّ محاولاتِ تقويضِ دولتِنا القانونيةِ الديمقراطيةِ، وكلَّ دعواتِ تجريدِ الناس من إنسانيتِهم. ونحرصُ على اعتبارِ الآخرِ إنساناً فرداً له حقُّه في الكرامة.
وكذلك نرى في أنفسِنا الإنسانَ، بما يَحملهُ من مسؤوليةٍ أخلاقيةٍ فردية. فلا نجعلُ منّا ضبطاً في غُبرةِ ماكينةٍ لا تُبالي. بل ننبّهُ حين يعلو سلطانُ السلطةِ فوقَ الإنسان.
فهذا ما جرى في الثلاثينياتَ والأربعينيات: لم يكن الكراهية وحدها، بل اللامبالاةُ وفقدانُ اليقظةِ وربما الرُّخصةُ السهلة. ترك كثيرون العربةَ تمضي في طريقِها. وكانت النتيجةُ آلةُ الدمارِ الصناعيِّ التي طحنت ملايينَ الأرواحِ في الحرب العالمية الثانية؛ آلةٌ تستبدُّ بالإنسانِ، سلطةٌ تعلو على الإنسان.
غداً نحتفلُ بالحرية: ثمانون عاماً من الحرية! ولندركْ في يومِ التحريرِ—وكلَّ يومٍ يعقبهُ—أنَّ حريتنا حُمِيت ببطولةِ رجالٍ أمثالِ الراحلِ حديثاً مُقاتلِ “ماركت جاردن”، بيل لاردر، الذي نبَّهنا إلى أنَّ السلامَ ليس أمراً مفروغاً منه.
واجبُنا أن نستمرَّ في المقاومةِ ضدَّ التطرفِ العنيفِ والإرهابِ، وضدَّ اللامبالاةِ، وضدَّ كلِّ مسعىٍ لانتقاصِ الكرامةِ الإنسانية.
لن نُسكتَ. لن نَضعفَ. لن نسمحَ لسلطانِ السلطةِ أن يَعلو فوقَ الإنسان. سنتقدَّمُ بالتسامحِ على منطقِ كبشِ الفداء، والديمقراطيةَ والحريّةَ فوقَ الطغيانِ، والإنسانِيَّةَ فوقَ السلطة. هذه هي عهدُنا.