المزيد من الأخبار






الديمقراطية والأمراض الأرستقراطية.. تقديم كتاب الأحزاب السياسية لروبرت ميشلز


محمد الرضواني
أستاذ علم السياسة والقانون الدستوري - كلية الناظور
mredouani@yahoo.fr
- - - - - - - - - - - - - - - - -

أولا: أهمية الكتاب والكاتب
روبرت ميشلز عالم اجتماع ألماني، ولد بألمانيا في 9 يناير 1876 ومنها انتقل إلى إيطاليا حيث توفي في 3 ماي 1936. يعد من أهم المنظرين الأوائل لنظرية النخبة إلى جانب ولفريد باريتو (Vilfredo Pareto) وجيتانو موسكا (Gaetano Moska)، من خلال كتابه "الأحزاب السياسية" الصادر عام 1911. وقد اعتبر من أشد المعارضين للماركسية والليبرالية، إذ كان في الأصل اشتراكيا متطرفا ومن أتباع المذاهب النقابية لجورج سوريل (Georg Sorel) الاشتراكي الفرنسي الذي دافع عن الإضرابات العنيفة للجماهير كطريقة رئيسية للثورة، قبل أن يغير مواقفه، حيث سيعلن في العشرينيات من القرن الماضي دعمه للفاشية.
يعد كتابه "الأحزاب السياسية" من الكتب التأسيسية في نظرية النخبة التي توظف بشكل كبير لتحليل الأنظمة السياسية ومختلف البنيات المجتمعية الكبرى، ليس فقط لاستفادته في هذا الإطار من خلاصات رائدين آخرين من رواد نظرية النخبة، ألا وهما جيتانو موسكا،1 وولفريد باريتو،2 بل كذلك باعتماد روبرت ميشلز على طريقة منهجية متميزة، تجمع بين الملاحظة المبنية على مبدأ التجربة والاختبار،3 وتوظيف خلاصات علم النفس التي كانت رائجة آنذاك، يقول المؤلف في هذا الصدد: "وهنا بالذات تكمن التعاليم الأساسية لعلم النفس"،4 وسيكولوجية الجماهير حيث يعود إلى خلاصات غوستاف لوبون (G. Lebon) الذي يقول بأن "القائد الزعيم كان في البداية، وفي أغلب الأحيان مرؤوسا يقوده سواه، لقد كان هو نفسه منبهرا بالفكرة التي أصبح فيما بعد رسولا لها مبشرا".5 كما تجمع بين العودة إلى أرشيف عدد من الأحزاب السياسية، يقول ميشلز في هذا الإطار، "لقد أخذت على عاتقي مشقة استخلاص أسماء أولئك الذين كانوا لا يزالون في الصفوف الأمامية للمحاربين في العام 1910، من لوائح الحضور الخاصة بالمؤتمرات المنعقدة في العام 1893 من قبل الأحزاب الاشتراكية الدولية الثلاثة: "الديمقراطي الاشتراكي" في ألمانيا، و"الحزب العمالي" التابع لغيد (Guesde) في فرنسا، و"الحزب الاشتراكي الإيطالي"؛6 والمقارنة بين الأحزاب السياسية في أوربا؛ ألمانيا، وإيطاليا، وفرنسا، وهولندا، وانجلترا تظهر إطلاعه الكبير على الحياة الحزبية في هذه البلدان، ومعرفته بعدد من الناشطين الحزبيين. وقد ساهمت ولادته في ألمانيا وعيشه في إيطاليا في تغليب نظرته المقارنة.
إن دراسته للحزب الاشتراكي الألماني الذي بلغ عدد المنتسبين فيه حوالي ثلاثة ملايين اشتراكي ألماني في مطلع القرن العشرين، ومقارنته بالأحزاب الاشتراكية الأوربية آنذاك تجعل من الكتاب مرجعا مهما وغنيا عن وضعية الأحزاب الاشتراكية في أوربا في أوج صعود الحركة العمالية، وعن الديمقراطية الحزبية ومحدوديتها؛ مرجعا لا يفيد فقط في شرح وضعية الأحزاب في الزمن المدروس، بل أيضا تفسير وضعية الأحزاب في الوقت الحاضر، لما من أهمية للخلاصات التي توصل إليها روبرت ميشلز، والتي تشكل معادلة يصعب تجاوزها بسهولة في إطار التنظير النخبي.
ثانيا: حتمية ظاهرة الزعماء في التنظيمات: عوامل التفسير
ينطلق المؤلف من فكرة أساسية متمثلة في ضرورة التنظيم، إذ إن التعاون والدفاع عن المصالح يحتاج إلى تنظيم الأفراد باعتباره شرط حتمي لكل ديمقراطية، ومبدأ جوهري في حياة الطبقة العاملة، حيث يستحيل تحقيق النجاح دونه. فالتنظيم ضروري للدولة كما هو ضروري للجماهير في نضالها السياسي. غير أن التنظيم يحمل في طياته أخطار كثيرة على رأسها حتمية ظاهرة الزعماء، التي يرجعها إلى ثلاثة أنواع من الأسباب.
1- أسباب تنظيمية وفنية:
وتتمثل في استحالة حكم الجماهير آليا وفنيا. فإذا كان المثل الأعلى في الديمقراطية يتمثل في حكم الجماهير، فإن سيادة هذه الأخيرة يستحيل أن تتحقق على أرض الواقع آليا وفنيا سواء من الناحية الديمغرافية أو الطبوغرافية، إذ يستحيل جمع عدد كبير من الجماهير في مكان واحد وفي زمن واحد، كما يستحيل التوصل إلى حل الخلافات التي تبرز في صفوفها. وهو الوضع الذي تعرفه الأحزاب الديمقراطية الحديثة.
ونظرا لهذه الاستحالة تبرز الحاجة إلى اختيار ممثلين مفوضين عن الجماعات قادرين على تمثيل الجماهير والتعبير عن إرادتها. وهذا ما تعرفه الأحزاب الاشتراكية التي تركز في البداية على المساواة المطلقة بين أفرادها، لكنها تتحول في آخر الأمر إلى انبثاق نخبة من الزعماء المتخصصين في إدارة شؤون الحزب والتي تعد نتيجة حتمية للتنظيم ولا تسلم منها أية منظمة، سواء تعلق الأمر بدولة ديمقراطية أو حزبا سياسيا أو تحالفا من المقاومة البروليتاريا، ذلك أن نمو المنظمات واتساعها يؤدي إلى تعقد مهمة الإدارة مما يفرض تقسيم الاختصاصات، واستبدال الزعماء العرضيين بآخرين محترفين، وضعف رقابة الجماهير على الزعماء تدريجيا لتصبح مستحيلة التحقق.
2- أسباب نفسية:
أما الأسباب النفسية والمعنوية الموجبة لبروز الزعماء فيجملها روبرت ميشلز في خمسة وهي كالتالي:
- الحق المعنوي في التفويض: الذي ينتج عن التفويض الفعلي نفسه، حيث الزعماء الذين يمارسون مهامهم طبق التفويض من الجماهير وبهدف ضمان بقائهم، وتجاوز الانتقادات الموجهة إليهم، والتخلص من الرقابة وما يمكن أن ينتج عنها من مسؤولية يلجؤون إلى التهديد بالاستقالة كلما واجهوا أمورا من هذا القبيل، فهذا التهديد المغلف بشعار ديمقراطي يخفي في الحقيقة روحا سلطوية ونزعة أوليغارشية.
- حاجة الجماهير إلى الزعماء: إن ضعف مشاركة الجماهير في شؤون المنظمة ولا مبالاتها السياسية، وترك الأمر بيد فئة قليلة، يجعل الجماهير المنظمة في حزب سياسي تشعر بالفرح عندما يقوم أفراد بالاهتمام بشؤونها وتسيير أعمالها، فالجماهير تشعر بحاجة ماسة لمن يديرها ويوجه خطاها. ويرافق ذلك الشعور عبادة حقيقية للزعماء الذين يعتبرون أبطالا، لاسيما أنهم يقومون بوظائف ومهمات كثيفة وعديدة في الأحزاب الديمقراطية الحديثة، تزيدهم قوة ومجدا ونفوذا. هذه النزعة تظهر في مختلف الأحزاب السياسية لاسيما الاشتراكية، فالجماهير تتميز باستعدادها النفسي للخضوع، والتفاعل مع الخطباء ذوي المقدرة الخطابية الكبيرة، والأسماء الكبيرة.
- امتنان الجماهير السياسي: إن حشود الجماهير تبدي دائما امتنانا وعرفانا بالجميل تجاه الشخصيات التي تتحدث باسمها وتدافع عنها، والتي تتحمل في الغالب مشاق ومصاعب في سبيل ذلك، من قبيل الاضطهاد والقمع والسجن والنفي، فالكثير من الزعماء صنعوا شهرة كبيرة باعتبارهم مدافعين مخلصين عن قضايا الجماهير.
ويساهم بذلك العرفان بالجميل الذي يعتبر من قبل الجماهير واجبا مقدسا في ضمان تفوق وسيادة الزعماء داخل تنظيماتهم.
- حاجة الجماهير إلى التكريم: إن الجماهير داخل الأحزاب الاشتراكية وعلى رأسها الحزب الاشتراكي الألماني تعرف نوعا من عبادة المناضلين، وتنخرط في سلوكات تظهر حاجتها الكبيرة إلى تقديس الزعيم، تبلغ درجة التأليه، فلهجة التكريم التي يلفظ بها اسم الزعيم، والانقياد الأعمى وراء أية إشارة منه، والتعبير عن السخط حيال أي نقد له، ومظاهر الحماس المبالغ فيها التي تستقبل بها خطبه ولقاءاته وتقديسه حتى مماته.. مظاهر تعبر كلها عن انحناء الجماهير بشكل مثالي للأبطال الذين تراهم يحملون مثلها العليا، انحناء يستمر ويدوم بالرغم من كل التغيرات التي تعرفها طريقة تفكير الجماهير. وهذا ما يخلق زهوا للزعماء يكرس سيادتهم وسيطرتهم على التنظيم.
- مميزات الزعماء الإضافية: متمثلة أساسا في الموهبة والقدرة الخطابية للزعماء تجعلهم ينجحون في تفوقهم على الجماهير وتوجيههم دون أية مقاومة. ولا غرابة إذا كان السائد في الدول الديمقراطية أن موهبة الكلام وحدها "قادرة على أن تجعل من الشخص أهلا لإدارة الشؤون العامة"،7 وأن أغلب زعماء التنظيمات السياسية في بداية القرن العشرين هم خطباء وصحفيون منذ الولادة. وينطبق هذا على التنظيمات الاشتراكية والقومية على حد سواء. كما ينطبق على الدولة، فهذه بريطانيا مهد الديمقراطية الأوربية الحديثة يذهب بشأنها أحد الأدباء إلى القول: "إذا ما أراد فرد إنجليزي أن يصبح رجل دولة أو زعيما عمليا، وجب عليه، بادئ ذي بدء، أن يبرهن أنه خطيب ماهر".8 وهو ما يفسر خسارة عدد من الزعماء لمواقعهم في هولندا وألمانيا على زعامة الأحزاب، بالرغم من وزن عقيدتهم وقوة فكرهم لكن دون موهبة خطابية مؤثرة. إن الجماهير تقدر في الخطيب جمال وقوة الصوت، وسلاسة الروح والدقة واللطافة، التي تعبر عن قوة الإرادة، وتفوق المعرفة، وصلابة المعتقدات، وطيبة النفس والنزاهة.
3- أسباب ذهنية:
وتتمثل أساسا في التفوق الذهني للزعماء المحترفين وعدم أهلية الجماهير القطعية والحقيقية. إن الفارق بين الزعماء والجماهير يتعاظم عندما تنشأ وتخلق داخل الأحزاب الاشتراكية قيادة محترفة جديدة، حيث يبدأ التفوق الذهني والمعرفي يفعل فعلته داخل التنظيم، ذلك أن المناصب العديدة التي يتولاها الزعماء داخل الحزب الاشتراكي مكافأة على نضالهم الطويل، تحول العمال الذين يتحلون بقدر من الثقافة إلى مسلك البورجوازيين الصغار في حياتهم، وتتعمق معرفتهم بفضل معرفتهم بالماكينة الحزبية، وإطلاعهم على تفاصيل الحياة العامة، مما يسمح لهم بممارسة تأثير ليس فقط داخل الحزب، بل في المنظمة النقابية، وصحافة الحزب، والتمثيل البرلماني للحزب الذي يزيد من خبرتهم ويبعدهم في نفس الآن على جماهير. هكذا تتسع الهوة بين الزعماء البروليتاريين في الأصل والجماهير، وينتشر لجوء الزعماء إلى الحيل والمناورات التي تلقنوها داخل الوسط البرلماني في حياة الحزب، بشكل يمكنهم من الوقوف بسهولة في وجه كل معارضة داخلية. و"لاشك في أن الجماهير الديمقراطية تتحمل وتعاني هكذا من تقييد لإرادتها، عندما تكون مرغمة على منح زعمائها سلطة تهدم مع الوقت حتى مبدأ الديمقراطية. والصفة الأكثر فعالية بالنسبة للزعماء، إنما تكمن في عدم الاستغناء عنهم، لذلك فإن أيا كان يتمتع بهذا اللقب أو بهذه الصفة، بمعنى أنه لا يستغني عنه، يخضع لسلطته كل ذوي القدرة وكل أسياد الأرض".9
وتنتهي الديمقراطية بأن تتحول إلى شكل من حكم النخبة، إلى أرستقراطية ويصبح الزعماء هم الأكثر قدرة والأكثر نضجا، سواء من الناحية الموضوعية الظاهرة، أو من الناحية المعنوية.
ثالثا: تسلط الزعماء: التأثيرات النفسية لممارسة السلطة واستحالة
الحد من التسلط
إن ممارسة السلطة تؤدي إلى تغيير كبير على مستوى شخصية الزعماء ونفسيتهم، بشكل يستحيل معه مقاومة نزوعاتهم التسلطية.
1- مظاهر تسلط الزعماء:
ملاحظته للحزب الاشتراكي الألماني ومعرفته به ستقود روبرت ميشلز إلى حصر مظاهر تسلط الزعماء داخل هذا التنظيم في ستة:
- ثبات الزعماء: من أكثر الأمور التي تدعو إلى الدهشة في ألمانيا عند دراسة تاريخ الحركة العمالية الاشتراكية فيها، هو استمرار قيادة الحزب الاشتراكي وديمومتها لفترة طويلة من الزمن. فزعماء الاشتراكية في ألمانيا يعيشون في الحزب ويشيخون في خدمته، ويموتون كما عاشوا له. وهذا ينطبق على أغلب الأحزاب الاشتراكية في أوربا، إذ نادرا ما تصل شخصيات من الصف الثاني إلى زعامة الحزب. فمثلا زعيمي الحركة الاشتراكية الألمانية استمرا في الزعامة لأزيد من ثلاثين سنة.
إن الأحزاب الاشتراكية المتمتعة بتنظيم صلب، ينتصر فيها الشعور بأهمية التقاليد، والحاجة الفطرية لدولة مستقرة، يجعلان من القيادة تحظى بتأييد لا محدود ويجدد لها التفويض باستمرار.
وقد عارض الاشتراكيون الألمان بقوة فكرة طبقتها الأحزاب الديمقراطية متعلقة بتغيير كامل أعضاء قيادة الحزب كل سنتين. وحتى عندما طبقوا مبادئ ديمقراطية في هذا الإطار كانت خاضعة لتوجيهات وتأثيرات القيادة، وهو ما يجعل من الزعماء الديمقراطيين ثابتين في هيكل أرستقراطي، وتتجاوز مهمة استمراريتهم في وظائف القيادة متوسط مدة اشتغال الوزراء لمهامهم في الدول الملكية، حيث تتجاوز هذه المدة أربعين سنة متتالية.
وهذه الظاهرة ملاحظة كذلك في دول أخرى بنسب متفاوتة في إيطاليا وانجلترا وفرنسا وهولندا.10
- قدرة الزعماء والحزب المالية: تميز الحزب الاشتراكي الألماني، والحزب الاشتراكي البلجيكي، والاشتراكي الإيطالي، بوجود زعيم ثابت ووفي ومخلص، وبقلة انتقال القيادة وخروجها من الحزب إلى المعسكر البرجوازي، ومعارضتها للاشتراكية على عكس انجلترا وفرنسا. فالبروليتاريا الألمانية تتميز بالثقة اللامحدودة في زعمائها الأوفياء والمخلصين، وبغياب الانشقاقات. ولعل افتقار جماهير الحزب الاشتراكي إلى قدرة ثقافية، وافتقارها إلى الاستقلال الاقتصادي، يجعل القيادة بمنأى عن الصراعات الحادة مع الجماهير، لاسيما أن هذا الحزب يعرف تعلقا شديدا للرفاق، وحبا مكنونا للحزب.
هذه الأسباب، تتقوى بأسباب أخرى مادية يعرفها الحزب الاشتراكي متمثلة في عادة مكافأة الخدمات المقدمة للحزب، أو تعويض المستخدمين الذين قاموا بها، فمبدأ المكافأة المالية عن الخدمات المقدمة للحزب يحض القائمين بها، تجاه أية نوايا سيئة. فالعمل الاشتراكي في ألمانيا يرتكز على الوفاء، والشعور بالواجب، ويتم تشجيعه عن طريق التعويض المادي على عكس عدد من البلدان الأوروبية كهولندا وفرنسا، الذي يكون في الغالب مكافأة متواضعة مقارنة بالجهود التي يبذلها المناضل، إذ هناك تعويضات عن نشر أفكار الحزب عبر مطبوعات ومجلات والصحافة الاشتراكية، وعن كتابة ملاحظة بسيطة في الصحيفة الحزبية، وحتى عن إلقاء خطاب طويل أمام الجماهير.
إن مبدأ تعويض الخدمات المنفذة لصالح الحزب، يساهم بشكل كبير في تقوية بيروقراطية الحزب ويدعم مركزيته، إذ إن التبعية المالية إزاء الحزب؛ أي إزاء الزعماء الذين يشكلون أقلية داخل الحزب يفيد التنظيم، لذلك فالمحافظين الأكثر شكا في الحزب هم الأكثر تبعية له. وهذه التبعية عندما تبلغ درجة معينة تمارس تأثيرا عميقا على النفسية.
إن الحزب الاشتراكي الألماني تمتع بصندوق مالي مهم مكنه من دفع تعويضات موظفين أوفياء ومخلصين، كما مكنه من دفع تعويضات مالية لنوابه في البرلمان قبل أن تطبق الدولة مبدأ التعويضات البرلمانية لنوابها عام 1906، بشكل قيد زعماء الحزب من التحرر منه والانسحاب. فالازدهار الاقتصادي للحزب يسمح بإيفاء الزعماء حق قدرهم، لكنه في نفس الوقت يمكن من تعزيز سلطتهم، وتكريس تبعية الأعضاء، بسبب القوة الخفية لإله المال.
- الزعماء والصحافة: الاعتماد على الصحافة يمكن الزعماء في الحزب الاشتراكي من تقوية سلطتهم وتعزيزها والمحافظة عليها، ويدخل في هذا الإطار تقديم المقالات دون توقيع الأسماء؛ أي وكأنها مقدمة بصفة جماعية بالرغم من أنها مجهود فرد واحد، مما يمكن من تحقيق انتشار واسع والنظر إليها كإنجيل يصدر بشكل دوري.
فاضمحلال الشخصية في الصحافة الاشتراكية الألمانية عزز بقاء الصحافة بين أيدي الزعماء وليس بين أيدي الجماهير، وبالتالي تعزيز سلطتهم وقدرتهم المالية أيضا، باعتبارهم يتقاضون أجرا مقابل الأعمال المنفذة للحزب ومنها أعمال الصحافة.
- موقف الزعماء تجاه الجماهير: إن القيادة العليا للتنظيمات السياسية البروليتاريا يتألف قسم كبير منها من البرلمانيين، المتفوقين بقدراتهم وكفاءتهم، وتعزز سلطتهم من خلال تمكنهم بفضل العمل البرلماني من التخلص من رقابة الجماهير البروليتاريا ورقابة اللجنة الإدارية للحزب، وكذا من خلال شغل مناصبهم لفترة طويلة لا يمكن لأحد أن ينتزعها منهم، باعتبارهم حصلوا على تفويض من الناخبين.
وهو ما يقوي استقلاليتهم عن الجماهير، ويضاعف أهميتها، باعتبار اقتناع الجماهير الاشتراكية الألمانية بأن أشد المعارك تحدث داخل البرلمان، لذلك تتراجع حدة انتقاد الجماهير لها. كما تتنامى إجراءات إسكات الجماهير داخل الحزب بدعوى أن الزعماء هم الوحيدون المخول لهم اتخاذ القرارات النهائية، "فيتحولون علانية إلى أوليغارشية، ولا يعترفون للجماهير التي هي أساس كل مورد، إلا بحقها في الانحناء أمام قراراتهم".11
ذلك أن الزعماء بشكل عام ينظرون إلى الجماهير بتقدير قليل، ويعلنون باستمرار عجز الجماهير عن إدارة نفسها بنفسها وعن تفوق الزعماء الواقعي.
- الصراع على السلطة بين الزعماء: تبدو الجماهير في التنظيمات الديمقراطية على أنها مسيطرة على الزعماء غير أن الواقع هو عندما تهدد سلطة الزعماء، فإنها يعني أن هناك زعيما جديدا أو مجموعة جديدة من الزعماء تحاول فرض نفسها على الجماهير، ودفعها إلى معارضة القيادة القديمة، حينها تلجأ هذه الأخيرة إلى إظهار الموافقة على اقتسام السلطة مع الوافدين الجدد.. على أن هذا الانصياع في الحقيقة يعد فقط إجراء احتياطيا بهدف جعل تأثير المنافسين الشباب بدون فائدة، إذ الأمر يعد ديماغوجيا أكثر منه طاعة للجماهير، والهدف منه التقرب من الإرادة الشعبية، بهدف تثبيت سيطرتهم، وجعل الانحناء إلى الرفاق البروليتاريين آلية لجعل الجماهير في خدمة مخططاتهم.
إن أشد ما يهدد الأوليغارشية المنبثقة عن الديمقراطية، هما خطرين: ثورة الجماهير، ودكتاتورية زعيم يسخر الغضب العام لخدمة طموحاته الشخصية واغتصاب السلطة، فهذان الخطران ينتج عنهما غياب الأخوة الحقيقية داخل الأحزاب الشعبية الحديثة، وغياب الثقة، بحيث تعيش هذه الأحزاب في حالة من النزاع، وسيطرة الشك المتبادل ما بين الزعماء، وإعلان الحرب بين الزعماء والطامحين إلى مراكز القيادة، وغالبا ما تعرف مقاومة الزعماء القدامى لهذه الطموحات، مما يدفع بالطامحين إلى القيادة إلى تغيير خطتهم وتكتيكهم من خلال الانضمام إلى "عربة النصر التي لرجال السلطة والنفوذ".12
فالصراع القائم بين الزعماء المسنين والزعماء الشباب ينتهي بانتصار القدامى، واتحاد النخبة، ودمج العنصرين معا. "إن ثوريي اليوم هم رجعيوا الغد".13
- البيروقراطية: تشهد الأحزاب الاشتراكية، نتيجة الهرمية البيروقراطية نزاعات مطالبة باللامركزية التي تتحول في الأخير إلى بناء أوليغارشيات ذات انتشار ضيق وضمن دائرة محدودة، فالمطالبة باللامركزية لا تؤثر في المبدأ الأوليغارشي.
2- التأثيرات النفسية لممارسة السلطة
إن تولي الزعماء زمام القيادة والسلطة داخل الأحزاب السياسية يؤثر بشكل عميق في نفسيتهم.
يذهب ميشلز إلى أن الجماهير تتميز بالخمول والحاجة إلى من يقودها ويوجهها. الذي تجد فيه القيادة فرصة لإرواء تعطشها للسلطة، هكذا تنمو الأوليغارشية داخل التنظيمات مدعومة بالخصائص العامة للطبيعة الإنسانية. فالزعيم في بداية تحمله المسؤولية يكون مقتنعا بالمبادئ التي يدافع عنها، وبعظمة المسؤولية، لكن شيئا فشيئا وبشكل تدريجي ينفصل عن الجماهير، بطريقة لاشعورية، وهذا لا يعني أن جميع الزعماء كانوا وصوليين في بدايتهم، بل الوصول إلى مركز القيادة يجعل الزعيم وبمحض إرادته، لن يتراجع إلى الموقع الذي كان يشغله في السابق.
إن حيازة السلطة تمنح دائما لصاحبها اعتقادا بأنه رجلا عظيما، وتزداد لديه الرغبة في السيطرة، سواء من أجل الخير أو الشر، التي ترقد داخل كل نفس إنسانية، والتي تقابلها حاجة الجماهير إلى من يدير شؤونها، مما يوحي للزعيم بالنفوذ والتعالي، وبأنه شخص لا يمكن الاستغناء عنه. "إن أي شخص ينجح في الوصول إلى تسلم زمام السلطة، يسعى بشكل عام، لتقويتها وتوسيع رقعة نفوذها، كما يعمل على تحصين موقعه من كل جانب، بطريقة يصبح معها هذا الموقع منيعا، صعب المنال، وبعيدا عن مراقبة الجماهير".14
فالسلطة تغير الزعماء ونفسيتهم إلى درجة اعتبارهم السلطة شيئا من أشيائهم، إن كلما ارتقى فرد في حزبه إلى مركز أعلى يتغير عالمه النفسي والعقلي، يؤدي في الغالب إلى تحول تام لديه، وهذا ما يصيب الزعماء.
بالرغم من أن الكثير من الزعماء يعتمدون على الانتخابات للوصول إلى السلطة، إلا أنهم يتحولون إلى دكتاتوريين باسم سيادة الشعب، وهذا ما فعله نابليون الأول في فرنسا وكذا نابليون الثالث. حيث يقدم الزعيم نفسه بمثابة أداة لتنفيذ الإرادة الجماعية كما ظهرت في الانتخابات.
تبعا لذلك، تعتبر البونابرتية نظرية للسيطرة الفردية المستندة على ماضي ديمقراطي متمثل في الانتخابات لمواجهة أخطار الحاضر، بوسائل مناهضة للديمقراطية متمثلة في الشخصنة والحكم الفردي، حيث يتحول الزعيم إلى رجل معصوم، لا يمكن انتقاده.
وهنا يظهر المؤلف نقده للانتخابات والديمقراطية الليبرالية والانتداب والتنازل عن ممارسة السلطة مباشرة، القائمة على صناديق الاقتراع، التي تخلق زعماء فرديين يتحولون إلى دكتاتوريين متشبثين بالسلطة، وقمع المعارضة، باسم الإرادة الشعبية؛ باسم الانتخابات والاستفتاء.
إن مثل هذه الظواهر تعرفها كذلك الأحزاب والنقابات الحديثة، الديمقراطية منها والثورية، إذ إن البونابرتية تجد أرضا خصبة مناسبة لدى الجماهير الديمقراطية، حيث يتم إيهام الجماهير بأنها سيدة نفسها وأسيادها، ويتم ذلك بطرق قانونية ترضي الجمهور، حيث تتنازل عن ممارسة السلطة مباشرة، لكن في الواقع يتحول الأمر إلى دكتاتورية الأوليغارشية، لاسيما أن من الناحية النفسية الجماهير تقبل دون معارضة درجة معينة من الظلم والاستبداد.
وهو ما يولد ذهنية خاصة لدى زعماء الحزب، كما لدى زعماء النقابات، حيث يفرضون على الجماهير منحهم الطاعة، إضافة إلى قبول تنفيذ الأوامر المعطاة من قبلهم. مما يحول الزعماء إلى متسلطين.
إن هذه الوضعية يعرفها الحزب الاشتراكي الألماني ويوظف إستراتيجيات وتكتيكات لمواجهة المعارضة ومحركي القلاقل داخل الحزب لا تختلف عن تلك التي تقوم بها الدولة البورجوازية، وذلك بدعوى المحافظة على الحزب، فيتصرف زعيم هذا الأخير كما كان يتكلم "ملك الشمس" على حد ما قيل: "أنا هو الحزب".15 ويمزج مصالحه الشخصية مع مصالح الحزب، كما يعتبر كل نقد للحزب هو نقد شخصي له وإهانة له.


3- حدود آليات الحد من التسلط
إن الامتيازات التي تمنحها الزعامة لذويها، وقدرة الزعماء على الانفصال عن الجماهير وممارستهم لسلطات واسعة، تجعل تلك الآليات التي تلجأ إليها الأحزاب الاشتراكية للحد من تسلط زعمائها محدودة.
- الاستفتاء: بالرغم من أن الأحزاب الاشتراكية في أوربا طبقت مبدأ الاستفتاء للتقرير في بعض القضايا الهامة، أو التقرير في قضايا تنظيمية، في إيطاليا وإنجلترا وألمانيا وهولندا، فإن ذلك كان خلال فترة محدودة، وكان تطبيقه بشكل استثنائي. وفي الغالب أدت الاستفتاءات إلى نتائج سيئة، وفشلت كوسيلة للحد من سلطة الزعماء.
- بديهية الرفض: إن انحلال الضمير الديمقراطي لدى الزعماء يمكن تأخيره بواسطة عوامل فكرية أو إيديولوجية متمثلة أساسا في جعل العناصر المتحدرة من الوسط البورجوازي المتحولة إلى البروليتاريا، يرفضون بشكل قطعي كل عادات وأباطيل الحياة البورجوازية، ويظهرون العداء لكل ما هو بورجوازي ليس فقط خطابيا بل ممارساتيا بالانخراط في أعمال شاقة، وأعمال يدوية، وكل ذلك بهدف التنازل عن كل أشكال الوجود البورجوازي.
إن مثل هذه الإجراءات انتشرت في الحركة الاشتراكية الإيطالية والروسية وبدرجات أقل في الحركة الاشتراكية الألمانية، وكان الهدف منها الحد من النزوعات البورجوازية لدى العناصر المتحدرة من الوسط البورجوازي.
- الوقاية من النقابية: إن النزعة النقابية تستهدف وضع حد نهائي لازدواجية الحركة العمالية والدفاع عن إحلال النقابة محل الحزب الاشتراكي، باعتبارها المحرك الأول للعمل الاشتراكي. وقد دافع عدد من المفكرين والسياسيين على النقابية، للتخلص من الديمقراطية التسلطية، ومن سيطرة الأقلية على الأغلبية، عن طريق تطبيق تنظيم الحزب النقابي داخل الحزب الاشتراكي، غير أن الواقع أظهر أن حتى النقابات العمالية تعرف وضعية مشابهة للأحزاب الاشتراكية من حيث سيطرة الأقلية الأوليغارشية على الأغلبية، حيث إن النقابة تطلب من أعضائها الطاعة المطلقة لأوامر النخبة المنظمة.
- الوقاية من الفوضوية: الفوضويون هم أول من أثاروا النتائج الطبقية والأليغارشية للتنظيمات الحزبية، وحاربوا التسلط باعتباره مصدر كل عبودية، وعليه لتجنب هذا الخطر رفض الفوضويون تشكيل حزب سياسي بالمعنى الضيق للكلمة.
تبعا لذلك، يتميز الزعيم الفوضوي بصفات مختلفة عن الزعيم الاشتراكي أقلها الموضوعية، وعدم الانغلاق، وقربه من الحقيقة والتواضع.
ويذهب ميشلز إلى أن الواقع يظهر أن الزعماء الفوضويين تظهر لديهم صفات متشابهة للزعماء الاشتراكيين، فتحليل نفسي لمزاج الزعماء الفوضويين يقدم بسهولة بعض الدلائل، الفرق فقط يتمثل في أن أدوات السيطرة التي يستخدمها الزعيم الفوضوي، تعود لعصر تجاوزته الأحزاب السياسية؛ وهي أدوات ووسائل: القدرة البراقة للفكرة، وعظمة التضحيات، وعمق المعتقدات.. من خلالها يمارس الزعماء الفوضويين سيطرتهم ليس على التنظيم وإنما على النفوس. ومن ثم، فالنزعة الفوضوية لا يمكن أن تحل أمراض الأوليغارشية لأنها بقدر ما تقدم وتدافع عن تنظيم خال من كل سلطة، فإنه في الوقت نفسه لا تقدم أي عناصر منطقية لهذا النظام.
رابعا: التركيبة السوسيولوجية للزعماء: البرجزة وتأثيراتها
إن وجود بروليتاريا حديثة لا يكفي لوحده لخلق مسألة اجتماعية إذ إن الأمر يحتاج إلى أساس من الوعي والإدراك ضد الطبقات القديمة، التي تستمر بالرغم من أن النمط الاقتصادي الذي أنتجها لم يعد موجودا. وتلعب البورجوازية دورا مهما في إدراك الطبقة البروليتاريا لوضعها المقهور والمضطهد. ولكون البورجوازية عاجزة عن خوض صراعها ضد الطبقات القديمة، فإنها تتوجه إلى البروليتاريا والتماس مساعدتها، لتخوض هذه الأخيرة هذا الصراع. بالرغم من أن هذا الإدراك والوعي هو السلاح الذي سيوظف فيما بعد ضد البورجوازية.
ومن أجل توجيه صراع البروليتاريا تقوم البورجوازية بتقديم مجموعة من الرجال منها لخدمة الجماهير العاملة، وتعليمهم بمكامن ضعف النظام الاقتصادي والاجتماعي السائد. ويعتبر هؤلاء البورجوازيون الهاربون من طبقتهم الأصلية بمثابة الأداة الأولى لتوجيه غرائز البروليتاريا ونفض الغبار عنها نحو التحرر والانعتاق. لاسيما أن كبار مبشري الاشتراكية كانوا كلهم مفكرين بورجوازيين، فدخول عناصر بورجوازية في صفوف العمال المنظمين في حزب الطبقة وراءه أسباب نفسية، ويعبر عن تطور عفوي لنخبة معينة.
يقسم روبرت ميشلز الزعماء الاشتراكيون إلى فئتين حسب أصلهم الاجتماعي: زعماء منتمين إلى البروليتاريا؛ وزعماء منتمين إلى البورجوازية.
1- الزعماء المتحدرون من أصل بورجوازي:
بالرغم من أن الاشتراكية حركة تتعارض مصالحها مع مصالح الطبقة البورجوازية إلا أن الزعماء المتحدرين من الطبقة الأخيرة، ينشطون بحماس أكبر من الزعماء المتحدرون من أصل بروليتاري. والأمر يعود بالدرجة الأولى إلى سبب نفسي، لأن البورجوازي الصغير عندما ينفصل عن طبقته يتحمل ضررا اجتماعيا وماديا ونفسيا جسيما من جهة، ويلقى قبولا ضعيفا، بل تملصا من رفاقه الجدد من جهة أخرى، وهو ما يفرض عليه العمل أكثر لتعويض ما ضاع، وكسب رفاق جدد. بينما البروليتاري لا يعرف مثل هذه الوضعية لأنه ولد بروليتاريا واشتراكيا.
وإذا كانت الأضرار التي يتحملها البورجوازي المتحول إلى الاشتراكية جسيمة، فإن التساؤلات المطروحة، هي ما هي هذه الأسباب التي دفعته للتصرف هكذا؟
في هذا الإطار يقسم ميشلز البورجوازيين المتحولين إلى الفئات التالية:
- رجل العلم: الذي ينتمي إلى البروليتاريا نتيجة تماسك علمي وتحليل موضوعي وحب مجرد للاشتراكية، ويحقق له لذة وسرور باعتبار خدمة الاشتراكية تضاعف من اكتفاء رغباته الشخصية، إذ تضرره المادي يعوضه بفوائد معنوية؛ علمية ونفسية. لذلك نجد عدد من الفلاسفة في الحركات العمالية.
وقد تمتع المفكرون بتقدير كبير من طرف الجماهير في بداية نشأة الحركة العمالية، تحول إلى عداء كبير بعد تطور هذه الحركة. لكن الحزب الاشتراكي الألماني، بالرغم من صفته البروليتارية البحتة، على عكس الكثير من الحركات البروليتاريا في أوربا، لم يقص المفكرين ولم يبعدهم عن صفوفه، إذ شكل هؤلاء منظرون للحركة الاشتراكية الألمانية.
- الرجل العاطفي: الذي يعيش حياة عاطفية حميمية ويصبح اشتراكيا في شبابه، حيث اندفاعه ومثاليته تدفعانه إلى التضحية من أجل النضال ضد الظلم والتضحية من أجل المظلومين والمقهورين. وهذا ما يفسر عدد لا بأس به من الكهنة في بعض البلدان البروتستانتية كهولندا وسويسرا وأمريكا، الذين يلتحقون بالاشتراكية لشعورهم بالواجب نحو المظلوم، وكذا وجود عدد كبير من اليهود بين الزعماء الاشتراكيين والثوريين؛ اليهود الذين يتوقون إلى قيادة الجماهير، ونشر الدعوة، والتواجد دوما في الطليعة، ويملكون قدرة كبيرة على التلاؤم، والذين لعبوا دورا كبيرا في قيام الحركات الاشتراكية في أغلب الدول الأوربية.
- الفنيين: إضافة إلى ذلك يتحدث ميشلز عن فئة الأغنياء الذين يتحولون إلى الاشتراكية بسبب حب الخير للناس، وإحساسهم المرهف تجاه آلام الآخرين.
غير أنه إلى جانب هذه العناصر، ثمة عناصر أخرى أقل ليونة بين الاشتراكيين المتحولين، متمثلة في أولئك "الغاضبين بالمبدأ" واهنو الأعصاب، و"صعاب المراس"، المتمثلين في: الدجالين المشعوذين، وذوي الطموح، والذين يمقتون سلطة الدولة.
وهناك نماذج أخرى: كالمنحرفون وهم مثاليون قاربوا الجنون، وكفئة المخدوعين والخائبين الذين لم ينجحوا في فرض أنفسهم داخل البورجوازية.
زيادة على ذلك فإن الحزب الاشتراكي يمارس جاذبية كبيرة على بعض البورجوازيين، لأنهم يجدون فيه ما لم يجدوه في الأحزاب البورجوازية.
2 - الزعماء العماليون المتحدرون من أصل بروليتاري:
إن التنظيم النقابي يقود العمال الأفراد أنفسهم، بشكل يجعل منهم نخبة مختارة، وبصورة يظهر معها الزعيم كمخلص مكلف بالقضاء على جميع أمراض التنظيم البروليتاري. غير أن القيادة تحول هذا الزعيم العمالي من عامل إلى وسيط، تماما كما زميله المحامي أو الطبيب، وما يعنيه ذلك من تحول ليس فقط اقتصادي بل نفسي أيضا، حيث تتكيف نفسيته مع نفسية الطبقات البورجوازية، ويصبح أكثر تهذيبا وأكثر إرهافا، فالزعيم المتحدر من أصل بروليتاري يتحول إلى ممثل للنزعات الأوليغارشية نفسها، الموجودة لدى البورجوازي الذي تخلى عن طبقته، والذي أصبح هو الآخر زعيما عماليا، فلا فرق بينهما عندما يقودان التنظيم.
إن الزعيم المتحدر من أصل بروليتاري، تبين التجربة أنه رجل متقلب الأهواء ومستبد باعتباره شخص حديث النعمة، وباعتباره يتحمل تناقضات رفاقه رغما عنه؛ فحديث النعمة يسخر كل سلطته لصيانة مركزه الجديد، ويعتبر كل نقد موجه إليه، محاولة لاحتقاره والتقليل من شأنه، وتلميحا خبيثا لماضيه، إضافة إلى اتصافه بالغرور باعتباره عارف بالحياة العمالية.
ويؤكد روبرت ميشلز أن التنظيم الحزبي يخلق طبقات اجتماعية جديدة داخله ناتجة عن سلوك الأحزاب العمالية طريقة البرجزة، التي تعود أساسا إلى ثلاث ظواهر مختلفة، وهي:
- انضمام البورجوازيين الصغار إلى الأحزاب البروليتارية: إذ إن حاجة الحزب إلى دعم البورجوازية الصغيرة لأسباب انتخابية في الغالب، تؤدي إلى تعديلات عميقة داخل التنظيم الحزبي.
- التنظيم العمالي كمنشئ لفئات بورجوازية صغيرة جديدة: أي ظهور فئات بورجوازية صغيرة جديدة داخل التنظيم العمالي. إن الحزب الاشتراكي الألماني كحزب كبير منظم تنظيما رائعا في حاجة إلى جهاز بشري كبير منظم؛ محررون، أمناء سر، محاسبون، أمناء مكتبات، ومستخدمين من كل نوع. وهذه المراكز مشغولة من قبل رجال ينتمون للطبقة العمالية، واستطاعوا حيازة ثقة رفاقهم، هذه المهام تجعلهم يتخلون عن العمل اليدوي ليلتفتوا إلى العمل الفكري. وقد تزايد عددهم داخل الحزب الاشتراكي الألماني وفي النقابات وفي مختلف الأحزاب الاشتراكية.
تولي هذه المهام يؤدي إلى جملة من التحولات، تكون نتيجتها خروج هؤلاء العمال رويدا رويدا من البروليتاريا إلى البورجوازية الصغيرة، والتأقلم مع وضعهم الاجتماعي الجديد. إن الحزب الاشتراكي يقدم سبيلا سهلا للارتقاء الاجتماعي للعمال داخله.
- "حماية ذوي الشأن" بصفتها منشأة لفئات بورجوازية صغيرة جديدة: لقد أدت ملاحقة الاشتراكيين في ألمانيا زمن كانت الحركة الاشتراكية ضعيفة، إلى طرد العديد من البروليتاريين بسبب وفائهم للنقابة أو الحزب. وبحثا عن قوتهم اليومي أنشئوا مشاريع صغيرة، كفتح محلات لبيع المواد أو الخضار أو التبغ، أو الكحول، أو فتح مقاهي أو فنادق. والذين تلقوا دعما وتعاطفا من قبل رفاقهم السابقين. كما أن عدد من العمال يتحولون عن طبقتهم بدافع تحسين وضعيتهم الاجتماعية. هؤلاء يشكلون بورجوازية صغيرة؛ تجار صغار يحظون بدعم رفاقهم.
وتشكل البورجوازية الصغيرة ذات الأصل البروليتاري عائقا ضخما أمام تقدم الطبقة العمالية نحو الأمام.
إن المكونين للحزب الاشتراكي الألماني لا يمثلون جمهورا متماسكا وموحدا وكل عضو يتطلع إلى الارتقاء إلى طبقة عليا، لتحسين وضعه الاجتماعي، وتحقيق وجود أفضل. ويخلق نوع العمل ومستوى الأجور واختلاف الأجناس والمناخ تقلبات عديدة، مما يؤدي إلى ظهور فئات وترتيبات أرستقراطية بين العمال.
إن عناصر الطبقة العمالية الأرستقراطيين، يتقربون أكثر من البورجوازية باعتبارهم يتقاضون رواتب عالية، ويخلقون قضية مشتركة فيما بينها وبين البورجوازية، تبين انفصالهم عن العمال. فالفارق الاقتصادي داخل بروليتاريا الحزب الاشتراكي تتحول مع الوقت إلى اختلاف طبقي حقيقي. مما يؤدي إلى خلق مجموعات صغيرة داخل الحركة العمالية تمثل وجها ساطعا عن النزعة نحو الأوليغارشية تقف في وجه المبادئ الاشتراكية النظرية وتعارضها، فترسم تجزئة جديدة داخل الطبقة العمالية الحديثة. "ومن هذا ينجم خطر من أكبر الأخطار جسامة على الاشتراكية، يتمثل هذا الخطر بتشكيل أرستقراطية عمالية قليلة العدد نسبيا، تصبح، فيما بعد، رويدا رويدا، غريبة عن التطلع الثوري، الناتج عن الحرمان والآلام، نحو نظام اجتماعي يختلف كليا عن النظام الحالي".16
خامسا: أحكام نهائية: القانون الحديدي للأوليغارشية
إن الدراسة العلمية للحزب الاشتراكي الألماني قادت المنظر إلى استخلاص جملة من الخلاصات الموضوعية وتعميمها على باقي التنظيمات الكبرى. ومن جملة ما أكد عليه ما يلي:
- إن السياسة الداخلية للتنظيمات الحزبية هي محافظة بشكل مطلق، بالرغم من أن سياستها الخارجية يمكن أن تكون ثورية.
- الديمقراطية الحقيقية مستحيلة، سواء كانت داخل التنظيمات الليبرالية أو الاشتراكية، فالصراعات الأبدية بين الأرستقراطيات والديمقراطية التي يتحدث عنها التاريخ، لم تكن سوى صراعات بين أقلية/نخبة قديمة تدافع عن استمراريتها، وأقلية/نخبة جديدة طموحة سعت للوصول إلى السلطة، إما باختلاطها بالأولى أو بالحلول مكانها.
- إن جميع التنظيمات الاشتراكية تنتهي لتعرف سيطرة فئة أوليغارشية تشكل أقلية، تنفصل عن الجماهير، اقتصاديا واجتماعيا ونفسيا. وهذا الأمر ينطبق على جميع التنظيمات الكبرى بما فيها الدولة. "إن الدولة لن تكون شيئا آخر غير تنظيم مؤلف من أقلية، تفرض بدورها، على باقي أعضاء المجتمع "النظام القانوني" الذي يبدو وكأنه تبرير أو تصديق قانوني للاستغلال الذي ترزح تحته الجماهير بدلا من أن يكون انطلاقا لتمثيل الأغلبية".17
- وجود الزعماء ظاهرة ملازمة لكل أشكال الحياة الاجتماعية، وهذه الظاهرة تتنافى ومسلمات الديمقراطية الأساسية، ففي جميع التنظيمات ثمة "قانون الحاجة التاريخية للأوليغارشية".
- إن السبب الرئيسي لظهور الأوليغارشية في الأحزاب الديمقراطية يتمثل أساسا في "أنه لابد، فنيا من وجود الزعماء، إذ إن تمايز وظائف الحزب يؤدي إلى انفصال القيادة عن الجماهير، من خلال تحول الزعماء إلى زعماء محترفين ثابتين لا يتركون السلطة".18
- يتمثل القانون الحديدي للأوليغارشية في "إن التنظيم هو المصدر الذي تولد منه سيطرة المنتخبين على الناخبين والمفوضين على المفوضين، والمنتدبين على من ينتدبهم. من يقول التنظيم، يقول أوليغارشية".19 فتأسيس الأوليغارشيات داخل الأشكال المتعددة للديمقراطية ظاهرة عضوية ونزعة يعاني منها كل تنظيم، سواء كان اشتراكيا أو فوضويا، وبالتالي الجماهير لن تصبح سيدة أبدا إلا بطريقة مجردة.
- إن خطأ الاشتراكيين أنهم يبرهنون عن تفاؤل لا محدود بشأن المستقبل، مقابل تشاؤم مفرط بشأن الحاضر.
- وظاهرة الأوليغارشية تعرفها جميع التنظيمات: الدولة، الطبقة الحاكمة، حزب سياسي، نقابة. وإن الديمقراطية مستحيلة التحقيق على أرض الواقع، إذ "إن الديمقراطية تعاني بالتحديد، من عجزها في التخلص من أمراضها الأرستقراطية".20
سادسا: ملاحظات
دون شك تشكل أفكار روبرت ميشلز أطروحة قوية، أثبتت أهميتها في تفسير التنظيمات السياسية، إذ مازالت توظف بشكل كبير في حقل علم السياسة. غير أنه بالرغم من ذلك تعرضت لانتقادات عدة، على رأسها مساندة المنظر للنظام الفاشي الذي أثبتت ممارساته ليس فقط سيطرة النخبة على مراكز القيادة والحكم بل لجوئها إلى توظيف العنف غير المشروع لاستمرار تسلطها، ونظرته التحقيرية للجماهير باعتباره يؤكد اتصافها بالخمول والحاجة لمن يقودها ويوجهها. إضافة إلى أن حتمية حكم النخبة في جميع التنظيمات سواء الليبرالية أو الاشتراكية تعد مبالغ فيها وفكرة أقرب إلى الإيديلوجيا منها إلى العلمية.21

الهوامش:
1- ميشال روبرت، الأحزاب السياسية، ترجمة منير مخلوف، دار أبعاد للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى، 1983، ص 293.
2- المرجع نفسه، ص 294.
3- المرجع نفسه، ص 308.
4- المرجع نفسه، ص 164.
5- المرجع نفسه، ص 163.
6- المرجع نفسه، ص 89.
7- المرجع نفسه، ص 65.
8- المرجع نفسه، ص 66.
9- المرجع نفسه، ص ص 81- 82.
10- المرجع نفسه، ص 92- 97.
11- المرجع نفسه، ص 128.
12- المرجع نفسه، ص 140.
13- المرجع نفسه، ص 148.
14- المرجع نفسه، ص 164.
15- المرجع نفسه، ص 178.
16- المرجع نفسه، ص 228.
17- المرجع نفسه، ص ص 304- 305.
18- المرجع نفسه، ص 309.
19- نفسه.
20- المرجع نفسه، ص 317.
21- الرضواني محمد، مدخل إلى علم السياسة، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط، الطبعة الثالثة، 2016، ص 128.



1.أرسلت من قبل الحرباشي محمد في 18/06/2019 10:42 من المحمول
شكرا جزيلا أستاذي الكريم

تعليق جديد

التعليقات المنشورة لا تعبر بأي حال عن رأي الموقع وسياسته التحريرية
شكرا لالتزام الموضوعية وعدم الإساءة والتجريح