المزيد من الأخبار






المرأة والتراث الغنائي الأمازيغي بالريف


المرأة والتراث الغنائي الأمازيغي بالريف
بقلم: ذ: فؤاد أزروال

رسمت جل الدراسات التي تناولت واقع المرأة في المجتمعات الأمازيغية التقليدية صورة قاتمة ومأساوية لوضعيتها الاجتماعية، وضعية تتأسس -حسب بورديو- على آلة رمزية ضخمة تنزع نحو تأييد الهيمنة الذكورية، التي تعتمد على "التقسيم الجنسي للعمل، للرجال الفلاحة والحصاد والحرب، وللنساء قطف الزيتون وجمع الحطب؛ بناء المجال عمومي للرجال و خصوصي للنساء".

المرأة الـأمازيغيّة، مهام متعدِّدة..

ويؤكد دافيد مونتغمري هارت هذا الواقع ويتوسع فيه أكثر، فيرى بان المرأة الامازيغية تعتني بالأطفال والأسرة وتهيئ الطعام، وتقوم بكل أشغال البيت الشاقة وتشتغل أيضا بالحقل وتساعد الرجل في الحصاد صيفا، ورغم ذلك فإنها لا تتمتع بحرية التحرك وزيارة الأهل أو استقبالهم وحق الحصول على شيء أو التسوق أو السفر أو العمل.

بل أكثر من ذلك هناك من رأى في المرأة الأمازيغية "امرأة وأتانا/حمارا" أو "سلعة للتبادل والمتاجرة"، أو"جارية للذة" أو "دابة وخسارة"...، وقد رسخ هذه الأوصاف القدحية السوداوية جل المؤرخين للحقب السابقة من تاريخ المغرب، وكذلك جل الاثنوغرافيين الذين عالجوا موضوع المرأة الأمازيغية في نظام السيبة.

المرأة الأمازيغية خزان للتراث..

إلا أنه في المجال الفني، ولاسيما الغناء ونظم الشعر، يجمع أغلب الباحثين أن المرأة الأمازيغية تعد خزانا ضخما للتراث، وناقلا حيويا لمفرداته وانتاجاته عبر الأجيال، وإليها يرجع الفضل في استمرار هذين الجنسين الفنيين حيين وفاعلين. و في مجال الإبداع، اعتبروا أن أغانيها بما تحمله من الحان وأشعار أكثر صدقا في التعبير عن الأحاسيس وأعمق غورا في البوح الداخلي، لأنها لا تبدع للاسترزاق والتكسب، بل لأجل أن تترجم أحلامها وأمالها وانكساراتها وآلامها.

ويرى بيارني أن المرأة العادية في المجتمع الريفي التقليدي تفوقت على المغني المحترف نفسه "أمدياز"، بل ومدته في كثير من الأحيان بالكلمات والألحان. فالمرأة تبدع أعمالا رائعة تعكس بصورة واضحة الروح الريفية، وتتوجه بها -أساسا- إلى جاراتها وصديقاتها دون الجمهور الواسع، إلا أنه بعد ذلك تردده السامعات في المحافل والأعراس فتصبح مشهورة، ثم يتلقفها المغنون المحترفون ليذيعوها بين الناس والقبائل في الأفراح والمناسبات.

ومن الطقوس التي كانت معروفة بالريف مثلا، في إطار تنافس الفتيات من أجل تجويد إبداعهن وإتقانه، نجد ما كان يجري بينهن من حسد شديد أثناء حفلات الأعراس والختان، "فعندما تحسد فتيات سلالة ما زميلاتهن من سلالة أخرى، ويرغبن في التفوق عليهن في مجال الغناء والرقص، تقوم امرأة مسنة من هذه السلالة بملء فمها بالملح وزيت الزيتون، وتبصق الخليط على النار التي تشتغل في وسط الفناء والتي تستعملها الفتيات لتسخين دفوفهن، وهكذا كان ينشب الخلاف بين الغريمات"، فيجتهدن في اختيار الأشعار وأداء الألحان، حتى تقر الحاضرات من الجمهور بالفائزات، فتغادر الخاسرات الحفل متحسرات يملؤهن شعور قوي بالخيبة والخزي.

المرأة الأمازيغية، طقوس وعادات..

ومن غريب ما يتضمنه هذا الطقس الفني الغنائي تلك الإشارة السحرية التي تتجلى في حركة بصق المرأة المسنة بالملح والزيت على النار في علاقة مع المنافسة السلالية، تكون الحركة والتي يمكن تفسيرها على مستويين:

1- استناد لأحد التفسيرات الأنتروبولوجية لعلاقة المرأة بالسحر، يمكن أن نقول بأن المرأة و قد وجدت نفسها لا تشارك في الحياة العامة للمجتمع، أرادت أن تعود إليها تحت غطاء المنافسة الشعرية باعتبارها نوعا من الدفاع عن العشيرة القبيلة.

2- هذه الممارسة تعود إلى مرحلة عميقة من تاريخ الأمازيغ، تلك المرحلة التي كانت فيها الكهانة والممارسات السحرية وثيقة الصلة بالقول الشعري والأداء الإنشادي، أي تلك الفترة التي كانت فيه الكهانة والشعر يشكلان وظيفتين متداخلتين من الناحية الاجتماعية.

وقريبا من هذا النوع من المنافسة، نجد ما كان يمارس في الجنوب والأطلس تحت اسم تماواشت، وهو فن"يعتبر مجالا للندبة بين الجنسين، ويقتضي أن يتسلح كل طرف بأجود ما لديه، كما أن أغلب أشعاره تدور حول الألغاز والهجاء والتحدي."، وعرف العديد من الأسماء النسائية التي لا زالت الذاكرة الشعبية تتذكرها، وتتغنى بكلماتها وأنغامها التي قارعت بها أكبر الشعراء والمبدعين.

ومن تجليات تفوق المرأة في مجال الغناء في الحافلات والأعراس، نجد أن كل أسرة بالريف كانت تعتمد على إحدى نسائها في الدفاع عن الأسرة وأفرادها في المناسبات الجماعية التي يحضرها أهل القبيلة والضيوف من القبائل الأخرى، وإن تأكدوا أن أسرتهم تفتقد إلى من يقوم بهذه المهمة بنجاح وعلى أحسن وجه توسلوا إلى إحدى جاراتهم أو إحدى قريباتهم في ذلك.

ومن أهم المظاهر الدالة أيضا، في الإبداع الغنائي الامازيغي لدى المرأة، إصرار العديد من الفنانات المبدعات على إخفاء هويتهم الحقيقية، كما تروي واقعة الباحث روني أولوغ مع الفنانة مريردا نايت عتيق التي بعد أن أملت عليه أشعارها اختفت ولم يظهر لها أثر، وكذلك واقعة الفنانة فريدة الحسيمية التي لا يعرف أحد من هي في الواقع، رغم أن أغانيها قد تتردد على كل لسان ويرويها الصغار والكبار معا. ويفسر بعض الباحثين هذا المظهر بكونه نكرانا للذات الفردية ومساهمة وهبة للذات الجماعية، بينما يرى الآخرون أنها نتاج هيمنة الذهنية الذكورية التقليدية ورسوخ قوة التقاليد الاجتماعية التي تحرم على المرأة الغناء أمام الجمهور العريض الواسع.

ولا بد هنا أن نستحضر الانتاجات الفنية التي ساهمت بها المرأة الامازيغية في التنشئة الثقافية والاجتماعية للأطفال ووظفتها لأجل التربية، والتي يسميها البعض بشعر الأمومة، ففي منطقة القبائل بالجزائر مثلا هناك شعر الهدهدة -أزوزنب- هو عبارة عن "تهويدات تنشدها الأمهات بألحان مميزة للصبيان، غايتهن في ذلك أتعاب الطفل قصد تيسير نومه" وإن كانت موضوعاتها "تنتقل أحانا معاناة الأم وحرقتها الدفينة في كثير من الشجون والأحزان"، وشعر المداعبة – اسرقص- وهو الذي تسلي به الأم طفلها بأغنية "تبدو خفيفة بإنشادها وتفتق الفرحة في نفسية الأمهات، وتمتن أواصر الحنان بين الصبي وأمه".

ويقابل غناء - ازوزب- عندنا ما يصطلح عليه ببعض مناطق المغرب- أسهروري- و"هلاراو"، وهو أيضا، وإن كان يؤدي "بالصوت المستقيم، الذي يمضي على وتيرة إيقاعية واحدة"، يعبر عن الأم غائرة في نفس الأم - بكاء الأهل، حرقة فراق أخ مغترب، التألم من أجل زوج أو قريب مريض...- ينتهي غالبا، بنحيب شجي هادئ عندما يتحقق استسلام الطفل للنوم.

إن الأشكال والأنواع الغنائية التقليدية التي ساهمت المرأة الامازيغية في إثرائها وتطويرها كثيرة ومتعددة، وتتميز بالتنوع الشديد بحسب المناطق وبحسب الأعمار والوظائف، وهي في كل ذلك كانت تساهم في إنشاء الخصوصيات الثقافية والحضارية الأمازيغية، وفي التطور المجتمعي معرفيا وتنظيميا، وكل هذه الأنواع تشكل فنا شفاهيا شعبيا، تعبر عن الشوق الجماعي إلى الفرح والأفعال والتخيل وتصل المشاعر فيما بينها من جهة، وتؤدي وظائف سامية في التربية والحفاظ على النظام واستقراره واستمراره من جهة أخرى.


تعليق جديد

التعليقات المنشورة لا تعبر بأي حال عن رأي الموقع وسياسته التحريرية
شكرا لالتزام الموضوعية وعدم الإساءة والتجريح