المزيد من الأخبار






محمد بوزكو يكتب.. زمن المسح بالهندية


محمد بوزكو يكتب.. زمن  المسح بالهندية
بقلم: محمد بوزكو

حين أذهب لمدينة الحسيمة اشعر بارتياح داخلي غريب. مدينة هي حقا مدينة وأناسها أناسا حقا. لن تعثر على أحد يتلصص على فتاة في الشارع ولا قمامة تتعربد على حل شعرها. أتساءل أحيانا لماذا لا نشبههم نحن ساكنة حاضرة الناظور الحظيرة؟ ألأننا لهذا الحد مختلفون ولا نشبه أحدا؟. مليلية أمامنا والحسيمة وراءنا ونحن في البين بين شاذين، دون تعميم طبعا، النساء يعانين ويلات عيون لا تنام إن مررن في شارع، والشارع يعاني ويلات قمامات مبعثرة تستعرض روائحها في تباه وكأنها تؤدي دورا مسرحيا متقنا...

ذاك الشعور بالارتياح أثث نفسيتي الأسبوع الماضي وأنا ألج قاعة المركب الثقافي لأشاهد مسرحية "ترينكا" التي أعدتها جمعية "ثيفسوين" وألفها المسرحي سعيد أبرنوص وأخرجها الشاب أمين غوادة وشخصها ثلة من الممثلات والممثلين من الشباب الجدد.

ما أثار انتباهي من أول وهلة هو التنظيم الجيد داخل القاعة، وكأن الأمر فصل من فصول المسرحية ذاتها؛ لا فوضى ولا هرولة. كل يعرف مكانه وللضيوف والصحافة كراسيهم تنتظرهم دون أن يتجرأ أحد على السطو عليها تحت أنظار فتيات تراقب كل شيء. وأنا أمسح جموع الحاضرين بعيناي استغربت حين انتبهت إلى أن أغلب الحاضرين لمشاهدة العرض هم من صنف الإناث.

ما أن بدأ العرض خيم السكون على الكل، وكأن لا أحد في القاعة مما زاد الرغبة أكثر في متابعة العرض بكل الجوارح. إذ ذاك تذكرت قاعة المركب الثقافي في حاضرتنا؛ فوضى، صراخ وصفير، دخول وخروج... وكل شيء يعكر صفو المتابعة... وكأن المكان حظيرة... وبدل أن تنتبه لما يعرض فوق الخشبة وتستمتع تنشغل بما حولك من فوضى فتضطر للخروج وأنت ترغد وتزبد ثم تنعل أو تلعن، سيان.

حين انتهى عرض "ترينكا" تأسفت لغياب الإعادة في المسرح. لأني كنت مستعدا لإعادتها عدة مرات ولا أكل. انتهى العرض ولم تنته لدي الرغبة في متابعة المزيد. عرض خفيف ظريف يغويك، يبهرك ويجرك من حيث لا تدري ليدخلك بكل هوادة للداخل، ويجعل منك شخصية من بين شخصياته ولا تشعر بالأمر إلا حين تشعل الأضواء وتتوقف الفرجة عن الاشتعال.

نعم، إنها الفرجة... والفرجة لابد لها أن تتحقق حين تجتمع عناصر تحققها... نص جميل، إضاءة سلسة، ممثلين بارعين في الأداء، سينوغرافيا راقية وإخراج انسيابي فيه من السلاسة والحركية وملئ الفراغات ما يجعلك تنسى الفراغ.

حركات الممثلين وانتقالهم فوق الخشبة بشكل مبهر، انسجام وتفاعل في الأداء بينهم... كل ذلك أضفى على الخشبة سحرا وجمالا. لن أنسى كيف كان يتحرك حمادي وكأنه الفهد الوردي... كما لا أنسى البله المصطنع لكمال... ولا غنج كريمة... ولا تقمص زينة للغباء... ولا فرنسية لويزة... ولا حتى افتراء زهير... كلهم أبانوا عن تشخيص متقن وصادق... وبصدقهم ذاك وتخلصهم من المبالغة والتفكك استطاعوا جر المتفرج لتتبعهم باهتمام وانصهار. وما أثار انتباهي أكثر هو كيفية انتقالهم من وضع فعال (actif) ، مؤثرين ومتأثرين لوضع مبطل (désactiver) جامدين وخارجين عن الفعل دون أن يكونوا خارجين عن النص. وهي تقنية إخراجية ذكية تمكن الممثلون من تطبيقها بنجاح، وهو ما أضفى جمالية أكثر على الخشبة خاصة أن أمكنة الإبطال محددة بإتقان وموزعة بشكل متوازن تسهل الروية وتسهل إمكانية تتبع الممثلين الفاعلين والتماهي معهم وفي الوقت نفسه لا تلغي من حساباتك تواجد الممثلين المبطلين وكأن وجودهم المبطل ذاك ضرورة لفاعلية الآخرين

(la mise en valeur des uns par la désactivation des autres).

المسرحية مفروشة بلوحات ساخرة. لكن السخرية حين تقترن بالجنس تزداد السخرية سخرية. يجب الاعتراف بأن سعيد أبرنوص كانت له الجرأة في تكسير طابوهات كثيرة مرتبطة بالجنس على اعتبار أن هذا الأخير هو المحرك الرئيسي للإنسان بل والوسيلة الفعال للابتزاز والابتزاز المتبادل. لقطات جنسية كثيرة استطاعت أن تعري واقع كثير من الأشخاص الذي لا يتحركون إلا حين تتحرك أدواتهم الجنسية. وطبعا حين يجتاح الكبت مجتمعا ما ويصبح الجنس عملة صعبة إذ ذاك تفتح الأبواب لكل غير مباح... الابتزاز، الغدر، الخيانة، السرقة، التزوير... لذلك حين تتلخص متعة الحياة كلها في فعل جنسي لا غرو في أن يمسح حمادي مؤخرته "بالهندية" !

إن كان الجنس هو المحرك الأساسي لكثير من الممارسات لدى الإنسان أيا كان وأين كائن، سواء جهرا أو سرا، فان الحياة تتعقد أو تتبسط وفق المفهوم الذي نعطيه نحن لهذه الغريزة... هل نضعها في خانة الطابوهات ونسكت على ويلاتنا وكوارثنا التي تغطي مختلف أحداث الجرائد والمواقع الالكترونية أم وجب نهج سياسة تربوية تجعل من الجنس حالة نفسية وجسدية طبيعية مثل باقي رغبات جسد الإنسان؟ طبعا، المسرحية لا تجيب عن سؤال مثل هذا، ولكنها تكشف عن حالات تتفتق منها علامات استفهام قد تساعد على خلق مقترح إجابة.

لا بد في الأخير أن أسجل ملاحظة تتعلق بالنص في شموليته، إذ أنه يبدو لي أن المسرحية كتبت من أجل الفرجة فقط مع الوقوف عند بعض اللوحات المهمة للتسطير على بعض الإشارات، حتى أن القصة تبدو مختصرة ومتقطعة بحيث أنه كان بالإمكان التوسيع أكثر في الموضوع لإعطاء باقي الشخصيات حقها حتى تتشكل وتنضج أكثر. ثم لا أنكر أني بحثت عن "ترينكا" في النص وفوق الخشبة ولم أستطع بعد العثور عليها. صحيح أنني فكرت في أدوات حمادي لكن لا أدري... فقلت ربما !.

يبقى لي في الأخير أن أشير إلى أنه في لحظة ما وأنا في طريق العودة لحظيرتي الناظور تذكرت إمام ثازغين... لا أدري السبب، هل للأمر علاقة بالمسرحية؟ ربما أيضا !... لكن وأنا أمعن النظر أمامي وقع نظري على لوحة مكتوب عليها "تزغين 4 كلم"... فعرفت أنني قريب من مسجد الله الذي حولوه من مسجد للصلاة والتقرب من الخالق لمحكمة لإصدار أحكام بالقتل وبعيد عن الإمام العبد... ذاك المفتي المفتن... تضامني المطلق مع يوبا.


تعليق جديد

التعليقات المنشورة لا تعبر بأي حال عن رأي الموقع وسياسته التحريرية
شكرا لالتزام الموضوعية وعدم الإساءة والتجريح