
علي كراجي
قضيت يوم أمس ثلاث ساعات متسمرا أمام شاشة التلفاز، ثلاث ساعات كاملة وأنا أتابع جلسة برلمانية خصصت للأسئلة الشفهية الموجهة لرئيس الحكومة حول المنظومة الصحية، كنت أنتظر ـ كأي مواطن بسيط ينتمي لإقليم الناظور ـ أن يتفضل أحد ممثلينا في البرلمان أو الأحزاب التي ينتمون إليها، مجرد تفضل فقط، ليطرح سؤالا بسيطا عن سبب تأخر المستشفى الإقليمي الجديد لأكثر من سبع سنوات، أو عن النقص المهول في الأطباء والتجهيزات داخل مستشفى الحسني، أو عن معاناة مرضى السرطان الذين يضطرون لمطاردة العلاج بين وجدة والرباط وفاس لأن الإقليم لا يتوفر على مركز للعلاج. ما دام الموضوع المطروح للنقاش هو "قطاع الصحة"، فقد أفرطت في التفاؤل واعتقدت أن الفرصة ستكون سانحة ليثبت ممثلونا أنهم قادرين على إيصال معاناتنا، لكن لا أحد نطق، لا أحد تجرأ، ولا حتى ألقى تلميحا من بعيد؛ فقد جلست كالأبله أحدق في الشاشة منتظرا، ويا ليتني لم أفعل.
كنت ساذجا، حين صدقت أن أحدهم سيتكلم، ولو من باب التطبيل السياسي، ليشكر الحكومة ويقول مثلا: "بفضلها، تخلص قطاع الصحة بالناظور من جميع أمراضه المزمنة"، فقد انتظرت وراقبت وتمنيت... ثم لا شيء، لا صوت، لا سؤال، لا تلميح ولا إشارة؛ وحده الصمت كان المتحدث الرسمي باسم ممثلي الناظور.
قضيت يوم أمس ثلاث ساعات متسمرا أمام شاشة التلفاز، ثلاث ساعات كاملة وأنا أتابع جلسة برلمانية خصصت للأسئلة الشفهية الموجهة لرئيس الحكومة حول المنظومة الصحية، كنت أنتظر ـ كأي مواطن بسيط ينتمي لإقليم الناظور ـ أن يتفضل أحد ممثلينا في البرلمان أو الأحزاب التي ينتمون إليها، مجرد تفضل فقط، ليطرح سؤالا بسيطا عن سبب تأخر المستشفى الإقليمي الجديد لأكثر من سبع سنوات، أو عن النقص المهول في الأطباء والتجهيزات داخل مستشفى الحسني، أو عن معاناة مرضى السرطان الذين يضطرون لمطاردة العلاج بين وجدة والرباط وفاس لأن الإقليم لا يتوفر على مركز للعلاج. ما دام الموضوع المطروح للنقاش هو "قطاع الصحة"، فقد أفرطت في التفاؤل واعتقدت أن الفرصة ستكون سانحة ليثبت ممثلونا أنهم قادرين على إيصال معاناتنا، لكن لا أحد نطق، لا أحد تجرأ، ولا حتى ألقى تلميحا من بعيد؛ فقد جلست كالأبله أحدق في الشاشة منتظرا، ويا ليتني لم أفعل.
كنت ساذجا، حين صدقت أن أحدهم سيتكلم، ولو من باب التطبيل السياسي، ليشكر الحكومة ويقول مثلا: "بفضلها، تخلص قطاع الصحة بالناظور من جميع أمراضه المزمنة"، فقد انتظرت وراقبت وتمنيت... ثم لا شيء، لا صوت، لا سؤال، لا تلميح ولا إشارة؛ وحده الصمت كان المتحدث الرسمي باسم ممثلي الناظور.
أطفأت التلفاز، حدّقت في المرآة، وبصقت على وجهي. لا لأنهم خذلوني لأول مرة، بل لأنني، رغم كل ما جربته، ما زلت ساذجًا بما يكفي لأصدق أن في طابور "نوابنا" من يستحق الإشادة. ما زلت أتوهم أن أحدهم قد يتجرأ يومًا، لا ليدافع بشراسة، بل فقط ليذكر الناظور عرضا، ولو من باب المجاملة السياسية، فقط ليقول، هناك إقليم في أقصى الشمال الشرقي... فيه بشر يستحقون أن يسمع صوتهم.
الجلسة، التي يفترض أنها لحظة رقابية ودستورية لها أهميتها ومن شأنها أن تضع الحكومة أمام الصورة الحقيقية للقطاع محليا، تحولت إلى مناسبة لتعرية تمثيلية إقليمية مهترئة، فرئيس الحكومة بدا مرتاحا، واثقا، لا أحد من نواب الناظور أحرجه، لا أحد سأله، لا أحد حمله مسؤولية التدهور الصحي بالإقليم، وصمتُ النواب كان بمثابة صك غفران سياسي، منحوه له مجانا، وتنازلوا فيه عن كل ما تبقى من كرامة التمثيلية.
ولأن الصمت لم يكن صدفة، بل امتدادا لنهج ثابت، فإن السؤال الأهم هو: لماذا لا يتحدث نواب الناظور؟ الجواب بسيط: لأن أغلبهم لا يملكون أدوات الترافع الحقيقي، ولا قدرة التأثير داخل فرقهم البرلمانية والأحزاب التي ينتمون لها، ولا حتى الحد الأدنى من الإرادة، وجلّ ما يفعلونه هو ترويج أسئلة سطحية على صفحات فيسبوك، محشوة بمصطلحات فارغة، غايتها الوحيدة تسويق الأسماء والوجوه، لا انتزاع الحلول والقرارات.
فلماذا نلام؟ لماذا حين نعبر عن هذا الغضب، نصنّف فورا ضمن فئة "العدميين" و"ناكري الجميل"؟ لماذا يحتقروننا أمام زملائهم أثناء احتساء القهوة بمعيتهم في مقهى "باليما" بالرباط، أو أثناء التهام طواجين الدجاج في مطعم دار الناجي؟؟؟، الحقيقة أننا فقط نقول ما يراه الجميع؛ برلمانيو الناظور، أو أغلبهم على الأقل، وجدوا اختصاصاً آخر أكثر راحة وأقل كلفة، يتمثل في ترويج أسئلة تصيب المواطن بالدوار، وتُغرقه في تفاصيل عبثية، أسئلة تكتب حول المجازر، والمقابر، وملاعب قرب، وإنارة انقطعت في دوار ناء... وكأننا لا نعيش في إقليم يعاني من هشاشة صحية قاتلة، بل في قرية منسية لا تطمح سوى لحفرة موت أو رقعة لعب.
أسئلة ترسل للحكومة رغم علمهم، أو هكذا يفترض، أنها خارج اختصاصها، لكنها تصلح لمشاركة فيسبوكية أو "إشادة تطبيلية"، أما القضايا التي تستحق فعلا أن تُنقل إلى قبة البرلمان، كمستشفى السرطان، أو استكمال المستشفى الإقليمي، أو النهوض بمنظومة صحية مترنحة، فمكانها جملة يتيمة في منشور باهت، أو وعود تُدفن مع أول تعليق ساخر، وهكذا تموت القضايا في الصمت، وتُدفن في "مجازر" الأسئلة المستهلكة.
ولا بأس من التذكير، لمن فقد الذاكرة أو اختار الانتقائية السياسية، أن النخب في أقاليم أخرى، بعضها لا يبعد عن الناظور سوى بمسافة "براد شاي" يتقاسمه ممثلونا معهم في الولائم والمجالس، استطاعت ـ رغم خلافاتها الحزبية ـ أن تتوحد حول هدف واضح هو جلب المشاريع، وانتزاع الحقوق، والترافع الجاد من أجل الساكنة، أما نحن، في هذا الإقليم المنسي عن سبق إصرار، فالصورة معكوسة تماماً. هنا، لا حديث سوى عن تسابق محموم لنَسب أي مشروع لنفسه، حتى وإن كان المشروع قد أنجز في "ظرف خاص" دون طلب أو ترافع.
وغداً، قد لا نستغرب إن خرج أحدهم ليصرّح أمام الكاميرا بأنه "من زوّد الناظور بالأوكسجين"، ومع اقتراب انتهاء أشغال المستشفى الإقليمي ـ سواء هذا العام أو في القرن القادم ـ فلا شك أن ممثلينا سيكونون أول الواقفين أمام عدسات المصورين، يبتسمون للوزير، ويتسابقون على الصور، علّها تعمّر أكثر من المشروع نفسه.
وحتى لا نتّهم بالمبالغة، فلنعد إلى نوع الأسئلة التي يوجّهها برلمانيو الناظور للحكومة، أغلبها كتابية، لا تُطلب فيها إجابات بقدر ما يُطلب فيها "اللايك" و"البارطاج". والحكومة؟ فهمت اللعبة مبكرا، وصارت تعتبر هذه الأسئلة مجرد فقرة في "تنشيط البطولة السياسية"، لذلك لم تعد تكلف نفسها عناء الرد على معظمها، لأنها ببساطة لا تُلزمها بشيء، ولا تحرجها في شيء.
أنا لا أطلب المستحيل؛ كنت فقط أرجو أن يرفع أحدهم إصبعه، ويسأل رئيس الحكومة سؤالا واضحا ومباشراً: "أين مستشفى الناظور؟"، لكنه لم يفعل؛ ولا أحد فعل. ولهذا، حين نظرت مجددا إلى المرآة، تأكدت أنني لم أُخدع مرة واحدة، بل مرات، وأن السذاجة حين تختلط بشيء من الأمل، لا تولد إلا الخيبة... خيبة ثقيلة لا يغسل طعمها إلا البصق.
الجلسة، التي يفترض أنها لحظة رقابية ودستورية لها أهميتها ومن شأنها أن تضع الحكومة أمام الصورة الحقيقية للقطاع محليا، تحولت إلى مناسبة لتعرية تمثيلية إقليمية مهترئة، فرئيس الحكومة بدا مرتاحا، واثقا، لا أحد من نواب الناظور أحرجه، لا أحد سأله، لا أحد حمله مسؤولية التدهور الصحي بالإقليم، وصمتُ النواب كان بمثابة صك غفران سياسي، منحوه له مجانا، وتنازلوا فيه عن كل ما تبقى من كرامة التمثيلية.
ولأن الصمت لم يكن صدفة، بل امتدادا لنهج ثابت، فإن السؤال الأهم هو: لماذا لا يتحدث نواب الناظور؟ الجواب بسيط: لأن أغلبهم لا يملكون أدوات الترافع الحقيقي، ولا قدرة التأثير داخل فرقهم البرلمانية والأحزاب التي ينتمون لها، ولا حتى الحد الأدنى من الإرادة، وجلّ ما يفعلونه هو ترويج أسئلة سطحية على صفحات فيسبوك، محشوة بمصطلحات فارغة، غايتها الوحيدة تسويق الأسماء والوجوه، لا انتزاع الحلول والقرارات.
فلماذا نلام؟ لماذا حين نعبر عن هذا الغضب، نصنّف فورا ضمن فئة "العدميين" و"ناكري الجميل"؟ لماذا يحتقروننا أمام زملائهم أثناء احتساء القهوة بمعيتهم في مقهى "باليما" بالرباط، أو أثناء التهام طواجين الدجاج في مطعم دار الناجي؟؟؟، الحقيقة أننا فقط نقول ما يراه الجميع؛ برلمانيو الناظور، أو أغلبهم على الأقل، وجدوا اختصاصاً آخر أكثر راحة وأقل كلفة، يتمثل في ترويج أسئلة تصيب المواطن بالدوار، وتُغرقه في تفاصيل عبثية، أسئلة تكتب حول المجازر، والمقابر، وملاعب قرب، وإنارة انقطعت في دوار ناء... وكأننا لا نعيش في إقليم يعاني من هشاشة صحية قاتلة، بل في قرية منسية لا تطمح سوى لحفرة موت أو رقعة لعب.
أسئلة ترسل للحكومة رغم علمهم، أو هكذا يفترض، أنها خارج اختصاصها، لكنها تصلح لمشاركة فيسبوكية أو "إشادة تطبيلية"، أما القضايا التي تستحق فعلا أن تُنقل إلى قبة البرلمان، كمستشفى السرطان، أو استكمال المستشفى الإقليمي، أو النهوض بمنظومة صحية مترنحة، فمكانها جملة يتيمة في منشور باهت، أو وعود تُدفن مع أول تعليق ساخر، وهكذا تموت القضايا في الصمت، وتُدفن في "مجازر" الأسئلة المستهلكة.
ولا بأس من التذكير، لمن فقد الذاكرة أو اختار الانتقائية السياسية، أن النخب في أقاليم أخرى، بعضها لا يبعد عن الناظور سوى بمسافة "براد شاي" يتقاسمه ممثلونا معهم في الولائم والمجالس، استطاعت ـ رغم خلافاتها الحزبية ـ أن تتوحد حول هدف واضح هو جلب المشاريع، وانتزاع الحقوق، والترافع الجاد من أجل الساكنة، أما نحن، في هذا الإقليم المنسي عن سبق إصرار، فالصورة معكوسة تماماً. هنا، لا حديث سوى عن تسابق محموم لنَسب أي مشروع لنفسه، حتى وإن كان المشروع قد أنجز في "ظرف خاص" دون طلب أو ترافع.
وغداً، قد لا نستغرب إن خرج أحدهم ليصرّح أمام الكاميرا بأنه "من زوّد الناظور بالأوكسجين"، ومع اقتراب انتهاء أشغال المستشفى الإقليمي ـ سواء هذا العام أو في القرن القادم ـ فلا شك أن ممثلينا سيكونون أول الواقفين أمام عدسات المصورين، يبتسمون للوزير، ويتسابقون على الصور، علّها تعمّر أكثر من المشروع نفسه.
وحتى لا نتّهم بالمبالغة، فلنعد إلى نوع الأسئلة التي يوجّهها برلمانيو الناظور للحكومة، أغلبها كتابية، لا تُطلب فيها إجابات بقدر ما يُطلب فيها "اللايك" و"البارطاج". والحكومة؟ فهمت اللعبة مبكرا، وصارت تعتبر هذه الأسئلة مجرد فقرة في "تنشيط البطولة السياسية"، لذلك لم تعد تكلف نفسها عناء الرد على معظمها، لأنها ببساطة لا تُلزمها بشيء، ولا تحرجها في شيء.
أنا لا أطلب المستحيل؛ كنت فقط أرجو أن يرفع أحدهم إصبعه، ويسأل رئيس الحكومة سؤالا واضحا ومباشراً: "أين مستشفى الناظور؟"، لكنه لم يفعل؛ ولا أحد فعل. ولهذا، حين نظرت مجددا إلى المرآة، تأكدت أنني لم أُخدع مرة واحدة، بل مرات، وأن السذاجة حين تختلط بشيء من الأمل، لا تولد إلا الخيبة... خيبة ثقيلة لا يغسل طعمها إلا البصق.