بقلم: بلال مرابط
…بعد أن توقفنا عند أهمية الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وفهمنا من يمول هذه الحملات ولماذا، نصل الآن إلى النقطة الجوهرية التي شكلت الدافع الحقيقي للكتابة في هذا الموضوع، ألا وهي: ما العلاقة بين تمويل الحملات الانتخابية وتمرير القوانين داخل الولايات المتحدة؟
إن التمويل الانتخابي الذي تطرقنا إليه في المحور السابق، عبر لجان PAC وSuper PAC، يفضي في نهايته إلى فوز المرشح الرئاسي — دونالد ترامب نموذجًا. وعند هذه النقطة، لا يصبح الرئيس وحده مدينا لممولي حملته، بل يمتد هذا “الدين السياسي” إلى الحزب بأكمله، لأن الدعم الانتخابي هنا لا يشتري الرئيس كشخص، بقدر ما يشتري الولاء الحزبي. ومن هنا، لا يعود الحديث مقتصرا على البيت الأبيض، بل يتسع ليشمل الكونغرس، أي البرلمان الأمريكي بغرفتيه.
وإذا كان الكونغرس هو "مطبخ" تشريع القوانين، فإن أعضاءه يصلون إلى مقاعدهم عن ولاياتهم "الجغرافية" المختلفة عبر المسار نفسه تقريبا الذي يسلكه الرئيس نحو البيت الأبيض، وبالآليات التمويلية ذاتها. فحملاتهم الانتخابية تعتمد بدورها على الدعم المالي، سواء من الأفراد أو من أصحاب رؤوس الأموال، الذين لا يراهنون غالبا على حزب واحد، بل يوزعون دعمهم على الحزبين معا داخل الحملة ذاتها، ضمانا لحضور مصالحهم أيا كان الفائز.
ويزداد هذا الواقع وضوحا عند النظر إلى تركيبة الكونغرس نفسه. فمجلس الشيوخ، المكون من 100 مقعد، يضم 53 عضوا من الحزب الجمهوري، حزب الرئيس الأمريكي، ما يمنحه أغلبية مريحة، مقابل 45 مقعدا للديمقراطيين، مع بقاء مقعدين فقط للمستقلين الذين يميلون في الغالب إلى الاصطفاف مع الكتلة الأكبر. ونحن سبق وتطرقنا لأهمية هذه الأحزاب.
وفي الاتجاه ذاته، لا يختلف المشهد كثيرا داخل مجلس النواب، الذي يضم 435 مقعدا، حيث يحوز الجمهوريون 219 مقعدا مقابل 212 للديمقراطيين، بينما تتقاسم المقاعد الأربعة المتبقية قوى أخرى، في مشهد يعكس استمرار الهيمنة الثنائية داخل المؤسسة التشريعية.
وبهذا الدعم، تجد الشركات وأصحاب رؤوس الأموال طريقهم للبحث عن مصالحهم عبر ما يعرف باللوبيات أو جماعات الضغط. وللإشارة التاريخية، فقد ظهرت هذه الظاهرة أولا في بريطانيا، حيث كان المواطنون وممثلو المصالح يجتمعون في أروقة مجلس العموم للتحدث مباشرة إلى النواب، ومن هنا جاءت تسمية “Lobby” باللغة الإنجليزية، وتعني حرفيا “الرواق”.
وللإشارة، فجماعات الضغط المساهمة في الحملات الانتخابية ليست أمريكية وفقط، بل هناك حكومات أجنبية تمارس ضغطا على صنع القرار في الولايات المتحدة لصالح مصالحها. فبين عامي 2022 و2023، أنفقت معظم دول العالم مبالغ متفاوتة للضغط في أمريكا، فبينما بعض الدول، مثل أوكرانيا، ضغطت للحصول على أسلحة أمريكية لنقلها إلى العاصمة كييف، سعت دول أخرى للحصول على دعم أمريكي ضد خصومها أو لتعزيز صورتها الدولية وتحسين موقعها الاستراتيجي.
غير أن جماعات الضغط هذه، لا تعد تنظيمات غامضة أو أشخاصا يعملون في الخفاء خلف أقنعة، بل هي ممارسة سياسية مشروعة تستند إلى حق دستوري أصيل يكفله التعديل الأول للدستور الأمريكي، الذي ينص على:
“Congress shall make no law … abridging … the right of the people peaceably to assemble, and to petition the Government for a redress of grievances.”
أي: «لا يجوز للكونغرس سن أي قانون يحد من حق الشعب في التجمع السلمي، أو في تقديم الالتماسات إلى الحكومة للمطالبة برفع المظالم».
فالآباء المؤسسون قصدوا من هذا الحق تمكين المواطنين، أفرادا وجماعات، من التواصل المباشر مع الحكومة لطلب تعديل القوانين أو السياسات العامة، أو للتعبير عن مصالحهم ومواقفهم المختلفة. وفي هذا السياق، أكدت المحكمة العليا الأمريكية (Supreme Court) في أكثر من مناسبة أن نشاط جماعات الضغط يندرج ضمن هذا الحق الدستوري، سواء تعلق الأمر بأفراد عاديين، أو منظمات غير ربحية، أو شركات كبرى، بل وحتى لوبيات أجنبية كا أشرنا، ما دام ذلك يتم في إطار القانون ولا ينطوي على رشوة أو فساد.
وإلى جانب كل تلك الأموال التي تنفق في هذا المسار، إذ تشير البيانات إلى أن أصحاب المصالح أنفقوا نحو 5.6 مليار دولار في عام 2023، تصدرت فيها صناعة الأدوية والصحة، تلتها قطاعات الإلكترونيات، التأمين، الأمن، النقل الجوي، ثم النفط والغاز. وجاء في صدارة القائمة غرفة التجارة الأمريكية، والرابطة الوطنية للوسطاء العقاريين، كما لم تخلو القائمة من عمالقة التكنولوجيا مثل ميتا، جوجل، آبل، أمازون ومايكروسوفت، الذين أنفقوا مجتمعين نحو 68 مليون دولار خلال العام نفسه.
فإن الشركات الكبرى وأصحاب رؤوس الأموال يلجؤون إلى توظيف مسؤولين سابقين في البرلمان الأمريكي، في ما يعرف بسياسة «الباب الدوار». إذ يسمح لهؤلاء المسؤولين، بموجب القانون، بالعمل كوكلاء أو مستشارين لدى الشركات بعد انتهاء مهامهم الرسمية، مستفيدين من شبكة علاقاتهم الواسعة داخل الكونغرس، ومن خبرتهم الدقيقة بآليات التشريع وصنع القرار.
ويعد هذا الانتقال من مقاعد السلطة إلى أروقة الضغط أحد أكثر أدوات النفوذ فاعلية، لما يحمله من قدرة على التأثير غير المباشر. ومن أبرز الأمثلة على ذلك إليانا روس-ليتينين، الرئيسة السابقة للجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب، التي تعمل اليوم مع مجموعة «أكينغام»، المعروفة بنشاطها في الضغط لصالح عدد من الدول الأجنبية داخل واشنطن.
ولعله من أشهر الأمثلة على جماعات الضغط هذه، «إيباك» (AIPAC)، والمعروفة باللوبي الصهيوني، وهي لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية، التي تهدف إلى تعزيز مصالح إسرائيل في السياسة الأمريكية من خلال التأثير على صانعي القرار والكونغرس.
ويظهر تأثير هذه المنظمة بوضوح في تصريح رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو، الذي قال إن الولايات المتحدة قوة يمكن التأثير عليها وتوجيهها، في إشارة إلى قدرة اللوبيات مثل إيباك على صياغة سياسات واشنطن بما يخدم أهدافها الاستراتيجية. وهو ما يعززه تصريح الرئيس ترامب شخصيا، قبل أشهر، مشيرا إلى أن إسرائيل كانت تتمتع بـ”أقوى جماعة ضغط وسيطرة ((تامة)) على الكونغرس”، وأن هذا النفوذ تراجع نتيجة حرب غزة.
ومن هذا المنطلق، يظهر دور اللوبيات في الضغط من أجل تمرير القوانين والسياسات. ولعلك عزيزي القارئ ماتزال تتذكر الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي الإيراني، غير أنه ما لا يظهر جليا، أنه خلف هذا القرار السياسي، لعبت إيباك دورا محوريا في خلق بيئة سياسية وفكرية داخل واشنطن جعلت الانسحاب ممكنا ومقبولا، بحيث بدا القرار مدروسا ومبررا، وليس مجرد خيار فردي للرئيس.
فمن خلال حملات ضغط مكثفة وخطاب إعلامي متواصل يشكك في جدوى الاتفاق النووي ويصور إيران كطرف لا يمكن الوثوق به، ساهمت هذه الجهات في ترسيخ قناعة مفادها أن الاتفاق يمثل فشلا أخلاقيا وأمنيا، وأن التراجع عنه لا يعد خروجا عن الإجماع، بل “تصحيحا لمسار خاطئ”. بهذا الشكل، لم يكن الضغط موجها فقط إلى صانعي القرار، بل امتد أيضا إلى الرأي العام والنخب السياسية، ما وفر غطاء سياسيا، وأرض خصبة، لأي إدارة أمريكية ترغب في الانسحاب دون أن تظهر معزولة أو متسرعة.
ويعكس هذا الإصرار على تقويض الاتفاق رفضا أعمق لأي منطق دبلوماسي قائم، إذ تعني أي تسوية مستدامة مع إيران الإقرار بها كقوة إقليمية فعلية، وهو ما يتعارض مع رؤية «إيباك» التي تحصر النفوذ المشروع في الولايات المتحدة وإسرائيل وحلفائهما. لذلك، لم يكن الهدف مجرد تعديل بنود الاتفاق، بل منع أي إطار تفاوضي قد يكرس هذا الاعتراف الضمني بإيران كقوة إقليمية.
ومن هنا جرى الدفع المستمر نحو سياسات “الضغط الأقصى” والتهديد باستخدام القوة، وقد استخدمت، رغم أن الواقع أظهر لاحقا أن هذه المقاربة لم تنجح في كبح البرنامج النووي الإيراني، بل ساهمت في تسريعه وتقويض ما تبقى من فرص التسوية. بل تجاوز الأمر ذلك إلى محاولة كبح إيران بالقوة، كما سبق في التهديد، كما حدث في عملية “مطرقة منتصف الليل” التي نفذتها الولايات المتحدة واستهدفت منشآت نووية إيرانية، يونيو المنصرم. وهو ما اعترف به ترامب صراحة، قائلا: "أنه لم يفعل أحد لإسرائيل كما فعلت، بما في ذلك الضربات على إيران".وإذا كان مصطلح “Lobby” مأخوذا من الإنجليزية، فإن التسمية العربية “جماعات الضغط” مستمدة من طبيعة عملها، فهي تضغط باستمرار لتغيير السياسات أو القوانين بما يخدم مصالحها.
ومثال إضافي على تأثير اللوبيات، فإن شركات الأدوية تنفق لمنع التدخل الحكومي في تسعير الأدوية، ”تحرير الأسعار”. فقد رفعت شركات كبرى في الولايات المتحدة، مثل ميرك وBristol Myers Squibb، دعاوى قضائية ضد الحكومة الأمريكية اعتراضا على قانون جديد يتيح للهيئات الحكومية تحديد أسعار بعض أدوية Medicare لكبار السن. وتبرر هذه الشركات موقفها بأن القانون غير عادل، إذ يفرض عليها الالتزام بأسعار تحددها الحكومة، ما قد يقلل أرباحها ويؤثر على قدرتها على الاستثمار في تطوير أدوية جديدة.
ومثال آخر هو قانون Hatch-Waxman Act لعام 1984، الذي صمم لتسهيل دخول الأدوية الجنيسة (النسخ غير الأصلية) إلى السوق الأمريكي بشكل أسرع وأسهل، ما يتيح للمستهلكين الحصول على أدوية بأسعار أقل. إلا أن هذا القانون حافظ في الوقت نفسه على حماية لبراءات الاختراع للأدوية الجديدة، مما يمنح الشركات المنتجة للأصلية حقوقًا ومدة زمنية تمنع المنافسين من طرح نسخهم الجنيسة في سوق الأدوية.
ونتيجة لذلك، يضطر المرضى لدفع مبالغ مرتفعة على هذه الأدوية الجديدة، إذ لا تتوفر جميع الأدوية مباشرة بنسخ جنيسة، ويؤدي تأخير دخول هذه النسخ إلى أرباح إضافية للشركات. وتجدر الإشارة إلى أن هذا القانون ما زال ساري المفعول منذ 1984 وحتى اليوم.
غير أن سجل هذه اللوبيات ليس نظيفا دائما، بل أنها سجلت خروقات كبيرة في محاولتها التأثير على صانعي القرار. فمثلا، جاك أبراموف، أحد أشهر اللوبيستات الأمريكيين، استطاع التأثير على السياسيين عبر تقديم حوافز مالية ضخمة، رشاوى، رحلات، واستخدام صالات القمار… في أحد أشهر فضائح اللوبي، لدرجة أنه نحو 250 عضوا في الكونغرس حصلوا على نصيبهم من أموال أبراموف. وقد أدين بعضهم بالفعل بالرشوة، مثل النائب بوب ني ومساعده توم ديلاي، فيما أدين أبراموف بالتآمر والتهريب الضريبي والرشوة، وحكم عليه بالسجن لمدة ست سنوات.
وإن كنا قد استعرضنا أمثلة مثل انسحاب أمريكا من الاتفاق النووي الإيراني وتأثيره على العالم، فإن تأثير تمرير القوانين والسياسات الأمريكية على الدول والاقتصادات الخارجية سيكون محور نقاشنا الأسبوع المقبل، حيث سنستكشف كيف تمتد هذه السياسات لتؤثر بشكل أوسع ومستفيض على الساحة الدولية…
…بعد أن توقفنا عند أهمية الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وفهمنا من يمول هذه الحملات ولماذا، نصل الآن إلى النقطة الجوهرية التي شكلت الدافع الحقيقي للكتابة في هذا الموضوع، ألا وهي: ما العلاقة بين تمويل الحملات الانتخابية وتمرير القوانين داخل الولايات المتحدة؟
إن التمويل الانتخابي الذي تطرقنا إليه في المحور السابق، عبر لجان PAC وSuper PAC، يفضي في نهايته إلى فوز المرشح الرئاسي — دونالد ترامب نموذجًا. وعند هذه النقطة، لا يصبح الرئيس وحده مدينا لممولي حملته، بل يمتد هذا “الدين السياسي” إلى الحزب بأكمله، لأن الدعم الانتخابي هنا لا يشتري الرئيس كشخص، بقدر ما يشتري الولاء الحزبي. ومن هنا، لا يعود الحديث مقتصرا على البيت الأبيض، بل يتسع ليشمل الكونغرس، أي البرلمان الأمريكي بغرفتيه.
وإذا كان الكونغرس هو "مطبخ" تشريع القوانين، فإن أعضاءه يصلون إلى مقاعدهم عن ولاياتهم "الجغرافية" المختلفة عبر المسار نفسه تقريبا الذي يسلكه الرئيس نحو البيت الأبيض، وبالآليات التمويلية ذاتها. فحملاتهم الانتخابية تعتمد بدورها على الدعم المالي، سواء من الأفراد أو من أصحاب رؤوس الأموال، الذين لا يراهنون غالبا على حزب واحد، بل يوزعون دعمهم على الحزبين معا داخل الحملة ذاتها، ضمانا لحضور مصالحهم أيا كان الفائز.
ويزداد هذا الواقع وضوحا عند النظر إلى تركيبة الكونغرس نفسه. فمجلس الشيوخ، المكون من 100 مقعد، يضم 53 عضوا من الحزب الجمهوري، حزب الرئيس الأمريكي، ما يمنحه أغلبية مريحة، مقابل 45 مقعدا للديمقراطيين، مع بقاء مقعدين فقط للمستقلين الذين يميلون في الغالب إلى الاصطفاف مع الكتلة الأكبر. ونحن سبق وتطرقنا لأهمية هذه الأحزاب.
وفي الاتجاه ذاته، لا يختلف المشهد كثيرا داخل مجلس النواب، الذي يضم 435 مقعدا، حيث يحوز الجمهوريون 219 مقعدا مقابل 212 للديمقراطيين، بينما تتقاسم المقاعد الأربعة المتبقية قوى أخرى، في مشهد يعكس استمرار الهيمنة الثنائية داخل المؤسسة التشريعية.
وبهذا الدعم، تجد الشركات وأصحاب رؤوس الأموال طريقهم للبحث عن مصالحهم عبر ما يعرف باللوبيات أو جماعات الضغط. وللإشارة التاريخية، فقد ظهرت هذه الظاهرة أولا في بريطانيا، حيث كان المواطنون وممثلو المصالح يجتمعون في أروقة مجلس العموم للتحدث مباشرة إلى النواب، ومن هنا جاءت تسمية “Lobby” باللغة الإنجليزية، وتعني حرفيا “الرواق”.
وللإشارة، فجماعات الضغط المساهمة في الحملات الانتخابية ليست أمريكية وفقط، بل هناك حكومات أجنبية تمارس ضغطا على صنع القرار في الولايات المتحدة لصالح مصالحها. فبين عامي 2022 و2023، أنفقت معظم دول العالم مبالغ متفاوتة للضغط في أمريكا، فبينما بعض الدول، مثل أوكرانيا، ضغطت للحصول على أسلحة أمريكية لنقلها إلى العاصمة كييف، سعت دول أخرى للحصول على دعم أمريكي ضد خصومها أو لتعزيز صورتها الدولية وتحسين موقعها الاستراتيجي.
غير أن جماعات الضغط هذه، لا تعد تنظيمات غامضة أو أشخاصا يعملون في الخفاء خلف أقنعة، بل هي ممارسة سياسية مشروعة تستند إلى حق دستوري أصيل يكفله التعديل الأول للدستور الأمريكي، الذي ينص على:
“Congress shall make no law … abridging … the right of the people peaceably to assemble, and to petition the Government for a redress of grievances.”
أي: «لا يجوز للكونغرس سن أي قانون يحد من حق الشعب في التجمع السلمي، أو في تقديم الالتماسات إلى الحكومة للمطالبة برفع المظالم».
فالآباء المؤسسون قصدوا من هذا الحق تمكين المواطنين، أفرادا وجماعات، من التواصل المباشر مع الحكومة لطلب تعديل القوانين أو السياسات العامة، أو للتعبير عن مصالحهم ومواقفهم المختلفة. وفي هذا السياق، أكدت المحكمة العليا الأمريكية (Supreme Court) في أكثر من مناسبة أن نشاط جماعات الضغط يندرج ضمن هذا الحق الدستوري، سواء تعلق الأمر بأفراد عاديين، أو منظمات غير ربحية، أو شركات كبرى، بل وحتى لوبيات أجنبية كا أشرنا، ما دام ذلك يتم في إطار القانون ولا ينطوي على رشوة أو فساد.
وإلى جانب كل تلك الأموال التي تنفق في هذا المسار، إذ تشير البيانات إلى أن أصحاب المصالح أنفقوا نحو 5.6 مليار دولار في عام 2023، تصدرت فيها صناعة الأدوية والصحة، تلتها قطاعات الإلكترونيات، التأمين، الأمن، النقل الجوي، ثم النفط والغاز. وجاء في صدارة القائمة غرفة التجارة الأمريكية، والرابطة الوطنية للوسطاء العقاريين، كما لم تخلو القائمة من عمالقة التكنولوجيا مثل ميتا، جوجل، آبل، أمازون ومايكروسوفت، الذين أنفقوا مجتمعين نحو 68 مليون دولار خلال العام نفسه.
فإن الشركات الكبرى وأصحاب رؤوس الأموال يلجؤون إلى توظيف مسؤولين سابقين في البرلمان الأمريكي، في ما يعرف بسياسة «الباب الدوار». إذ يسمح لهؤلاء المسؤولين، بموجب القانون، بالعمل كوكلاء أو مستشارين لدى الشركات بعد انتهاء مهامهم الرسمية، مستفيدين من شبكة علاقاتهم الواسعة داخل الكونغرس، ومن خبرتهم الدقيقة بآليات التشريع وصنع القرار.
ويعد هذا الانتقال من مقاعد السلطة إلى أروقة الضغط أحد أكثر أدوات النفوذ فاعلية، لما يحمله من قدرة على التأثير غير المباشر. ومن أبرز الأمثلة على ذلك إليانا روس-ليتينين، الرئيسة السابقة للجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب، التي تعمل اليوم مع مجموعة «أكينغام»، المعروفة بنشاطها في الضغط لصالح عدد من الدول الأجنبية داخل واشنطن.
ولعله من أشهر الأمثلة على جماعات الضغط هذه، «إيباك» (AIPAC)، والمعروفة باللوبي الصهيوني، وهي لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية، التي تهدف إلى تعزيز مصالح إسرائيل في السياسة الأمريكية من خلال التأثير على صانعي القرار والكونغرس.
ويظهر تأثير هذه المنظمة بوضوح في تصريح رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو، الذي قال إن الولايات المتحدة قوة يمكن التأثير عليها وتوجيهها، في إشارة إلى قدرة اللوبيات مثل إيباك على صياغة سياسات واشنطن بما يخدم أهدافها الاستراتيجية. وهو ما يعززه تصريح الرئيس ترامب شخصيا، قبل أشهر، مشيرا إلى أن إسرائيل كانت تتمتع بـ”أقوى جماعة ضغط وسيطرة ((تامة)) على الكونغرس”، وأن هذا النفوذ تراجع نتيجة حرب غزة.
ومن هذا المنطلق، يظهر دور اللوبيات في الضغط من أجل تمرير القوانين والسياسات. ولعلك عزيزي القارئ ماتزال تتذكر الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي الإيراني، غير أنه ما لا يظهر جليا، أنه خلف هذا القرار السياسي، لعبت إيباك دورا محوريا في خلق بيئة سياسية وفكرية داخل واشنطن جعلت الانسحاب ممكنا ومقبولا، بحيث بدا القرار مدروسا ومبررا، وليس مجرد خيار فردي للرئيس.
فمن خلال حملات ضغط مكثفة وخطاب إعلامي متواصل يشكك في جدوى الاتفاق النووي ويصور إيران كطرف لا يمكن الوثوق به، ساهمت هذه الجهات في ترسيخ قناعة مفادها أن الاتفاق يمثل فشلا أخلاقيا وأمنيا، وأن التراجع عنه لا يعد خروجا عن الإجماع، بل “تصحيحا لمسار خاطئ”. بهذا الشكل، لم يكن الضغط موجها فقط إلى صانعي القرار، بل امتد أيضا إلى الرأي العام والنخب السياسية، ما وفر غطاء سياسيا، وأرض خصبة، لأي إدارة أمريكية ترغب في الانسحاب دون أن تظهر معزولة أو متسرعة.
ويعكس هذا الإصرار على تقويض الاتفاق رفضا أعمق لأي منطق دبلوماسي قائم، إذ تعني أي تسوية مستدامة مع إيران الإقرار بها كقوة إقليمية فعلية، وهو ما يتعارض مع رؤية «إيباك» التي تحصر النفوذ المشروع في الولايات المتحدة وإسرائيل وحلفائهما. لذلك، لم يكن الهدف مجرد تعديل بنود الاتفاق، بل منع أي إطار تفاوضي قد يكرس هذا الاعتراف الضمني بإيران كقوة إقليمية.
ومن هنا جرى الدفع المستمر نحو سياسات “الضغط الأقصى” والتهديد باستخدام القوة، وقد استخدمت، رغم أن الواقع أظهر لاحقا أن هذه المقاربة لم تنجح في كبح البرنامج النووي الإيراني، بل ساهمت في تسريعه وتقويض ما تبقى من فرص التسوية. بل تجاوز الأمر ذلك إلى محاولة كبح إيران بالقوة، كما سبق في التهديد، كما حدث في عملية “مطرقة منتصف الليل” التي نفذتها الولايات المتحدة واستهدفت منشآت نووية إيرانية، يونيو المنصرم. وهو ما اعترف به ترامب صراحة، قائلا: "أنه لم يفعل أحد لإسرائيل كما فعلت، بما في ذلك الضربات على إيران".وإذا كان مصطلح “Lobby” مأخوذا من الإنجليزية، فإن التسمية العربية “جماعات الضغط” مستمدة من طبيعة عملها، فهي تضغط باستمرار لتغيير السياسات أو القوانين بما يخدم مصالحها.
ومثال إضافي على تأثير اللوبيات، فإن شركات الأدوية تنفق لمنع التدخل الحكومي في تسعير الأدوية، ”تحرير الأسعار”. فقد رفعت شركات كبرى في الولايات المتحدة، مثل ميرك وBristol Myers Squibb، دعاوى قضائية ضد الحكومة الأمريكية اعتراضا على قانون جديد يتيح للهيئات الحكومية تحديد أسعار بعض أدوية Medicare لكبار السن. وتبرر هذه الشركات موقفها بأن القانون غير عادل، إذ يفرض عليها الالتزام بأسعار تحددها الحكومة، ما قد يقلل أرباحها ويؤثر على قدرتها على الاستثمار في تطوير أدوية جديدة.
ومثال آخر هو قانون Hatch-Waxman Act لعام 1984، الذي صمم لتسهيل دخول الأدوية الجنيسة (النسخ غير الأصلية) إلى السوق الأمريكي بشكل أسرع وأسهل، ما يتيح للمستهلكين الحصول على أدوية بأسعار أقل. إلا أن هذا القانون حافظ في الوقت نفسه على حماية لبراءات الاختراع للأدوية الجديدة، مما يمنح الشركات المنتجة للأصلية حقوقًا ومدة زمنية تمنع المنافسين من طرح نسخهم الجنيسة في سوق الأدوية.
ونتيجة لذلك، يضطر المرضى لدفع مبالغ مرتفعة على هذه الأدوية الجديدة، إذ لا تتوفر جميع الأدوية مباشرة بنسخ جنيسة، ويؤدي تأخير دخول هذه النسخ إلى أرباح إضافية للشركات. وتجدر الإشارة إلى أن هذا القانون ما زال ساري المفعول منذ 1984 وحتى اليوم.
غير أن سجل هذه اللوبيات ليس نظيفا دائما، بل أنها سجلت خروقات كبيرة في محاولتها التأثير على صانعي القرار. فمثلا، جاك أبراموف، أحد أشهر اللوبيستات الأمريكيين، استطاع التأثير على السياسيين عبر تقديم حوافز مالية ضخمة، رشاوى، رحلات، واستخدام صالات القمار… في أحد أشهر فضائح اللوبي، لدرجة أنه نحو 250 عضوا في الكونغرس حصلوا على نصيبهم من أموال أبراموف. وقد أدين بعضهم بالفعل بالرشوة، مثل النائب بوب ني ومساعده توم ديلاي، فيما أدين أبراموف بالتآمر والتهريب الضريبي والرشوة، وحكم عليه بالسجن لمدة ست سنوات.
وإن كنا قد استعرضنا أمثلة مثل انسحاب أمريكا من الاتفاق النووي الإيراني وتأثيره على العالم، فإن تأثير تمرير القوانين والسياسات الأمريكية على الدول والاقتصادات الخارجية سيكون محور نقاشنا الأسبوع المقبل، حيث سنستكشف كيف تمتد هذه السياسات لتؤثر بشكل أوسع ومستفيض على الساحة الدولية…

بلال مرابط يكتب: ما العلاقة بين تمويل الانتخابات الرئاسية الأمريكية وتمرير القوانين “ج3”