
بقلم: بلال مرابط
تعرف الأزمات العالمية عادة بأنها فترات من الاضطراب السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي، والتي تؤثر على مجموعة من الدول، خصوصا الكبرى منها. غير أن هذه الأزمات ليست دائما وقائع موضوعية بحتة، بل كثيرا ما تهندس وتضخم ضمن أجندات سياسية وإعلامية، دون أن يعني ذلك أن هناك “قوة خفية” تتحكم في العالم بشكل “مطلق”.
و في استهلاكنا اليومي لوسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، نلحظ تناقضات فادحة: الحرب في أوكرانيا اعتبرت “أزمة عالمية” منذ لحظاتها الأولى، ورافقتها تغطية استثنائية، من دقائق الصمت في الملاعب الأوروبية وتضمين الأعلام الأوكرانية في لوحات النتائج "scoreboard"، إلى تصريحات قادة العالم.
في المقابل، لم يحظ نزيف الدم المستمر في غزة، حيث تجاوز عدد الشهداء 63 ألفا وفق آخر بيانات وزارة الصحة الفلسطينية، بنفس الاعتبار، رغم أن الرقم يقارب ضحايا قنبلة ناجازاكي عام 1945 والتي قد حفظنا تقديرات وفياتها عن ظهر قلب من كثرة سماعنا لها.
والأمر نفسه ينطبق على السودان الذي سجل 100 ألف إصابة بالكوليرا في عام واحد، وفق بيان الأمم المتحدة، وهو ضعف حالات كورونا المسجلة في نفس الفترة ”2020/2021” وفي نفس البلد، دون أن يصنف ذلك كأزمة عالمية، كما كان الأمر مع كورونا.
و هنا يبرز السؤال: ماهي آليات صنع هذه الأزمات؟ وكيف تتشكل؟ ثم هل يتم تجاهل بعض المآسي لاعتبارات جيوسياسية أو لانتماء ضحاياها الديني والثقافي؟
تعرف الأزمات العالمية عادة بأنها فترات من الاضطراب السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي، والتي تؤثر على مجموعة من الدول، خصوصا الكبرى منها. غير أن هذه الأزمات ليست دائما وقائع موضوعية بحتة، بل كثيرا ما تهندس وتضخم ضمن أجندات سياسية وإعلامية، دون أن يعني ذلك أن هناك “قوة خفية” تتحكم في العالم بشكل “مطلق”.
و في استهلاكنا اليومي لوسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، نلحظ تناقضات فادحة: الحرب في أوكرانيا اعتبرت “أزمة عالمية” منذ لحظاتها الأولى، ورافقتها تغطية استثنائية، من دقائق الصمت في الملاعب الأوروبية وتضمين الأعلام الأوكرانية في لوحات النتائج "scoreboard"، إلى تصريحات قادة العالم.
في المقابل، لم يحظ نزيف الدم المستمر في غزة، حيث تجاوز عدد الشهداء 63 ألفا وفق آخر بيانات وزارة الصحة الفلسطينية، بنفس الاعتبار، رغم أن الرقم يقارب ضحايا قنبلة ناجازاكي عام 1945 والتي قد حفظنا تقديرات وفياتها عن ظهر قلب من كثرة سماعنا لها.
والأمر نفسه ينطبق على السودان الذي سجل 100 ألف إصابة بالكوليرا في عام واحد، وفق بيان الأمم المتحدة، وهو ضعف حالات كورونا المسجلة في نفس الفترة ”2020/2021” وفي نفس البلد، دون أن يصنف ذلك كأزمة عالمية، كما كان الأمر مع كورونا.
و هنا يبرز السؤال: ماهي آليات صنع هذه الأزمات؟ وكيف تتشكل؟ ثم هل يتم تجاهل بعض المآسي لاعتبارات جيوسياسية أو لانتماء ضحاياها الديني والثقافي؟
ماهي آليات صنع هذه الأزمات؟
تعتبر وكالات الأنباء العالمية الكبرى، مثل رويترز وأسوشيتد برس، من أبرز الآليات التي تسهم في صناعة الأزمات، إذ أنها تمتلك شبكة واسعة من المراسلين المنتشرين عبر أنحاء العالم، ما يجعلها المصدر الأول للأخبار ذات “القيمة العالمية” مثل الحروب والكوارث والقرارات السياسية الكبرى. وغالبا ما تتحول تغطياتها إلى مرجع رئيسي لبقية وسائل الإعلام المحلية والدولية.
و للإشارة فقط فحتى عند إرادة هذه الأخيرة أن تتوجه لغير ذلك وتنقل أخبار محلية أو وطنية دون "الأزمة" تصبح منبوذة من متابعيها، مما تفرضه عناوين وكالات الأنباء من قوة على عموم المستهلكين للاهتمام فقط بمستجدات هذه الأزمة. كما هو الشأن بالنسبة لفيروس كورونا، وفقط لاحترام قاعدة التعميم في الأحكام دائما يكون خاطئ، يمكن القول أن جل الصحف أصبحت تصدر نشرات محينة، ولكثرة تداولها، ما زالت خرجات السيد محمد اليوبي مدير علم الأوبئة آنذاك عالقة في أذهاننا بعد خروجه المألوف بجملته الشهيرة كل يوم "مستجدات الحالة الوبائية ببلادنا لهذا اليوم".
وهنا بالضبط تتجلى هيمنة الإعلام عموما ووكالات الأنباء على وجه الخصوص، فعلى سبيل المثال، إذا نقلت الوكالة الأمريكية "أسوشيتد برس" عن البيت الأبيض أن العالم يواجه “أزمة عالمية”، فإن ذلك كفيل بأن تتلقفه مختلف المنصات الإعلامية وتضعه في صدارة الأخبار، لتتشكل صورة أزمة كبرى قبل أن يخضع الحدث لنقاش موضوعي معمق. ولاتعتقد أن نفس الأقلام ستفعل إن صدر نفس البلاغ من زعيم ثانوي، وليس ذلك لانتسابه لدين معين، لكن نسبة لوزنه العالمي "الخفيف". وهنا تكمن قوة هذه الوكالات: فهي لا تصنع الأزمات من العدم، لكنها تمنح الشرعية والانتشار لما هو صادر عن القوى العالمية.
تعتبر وكالات الأنباء العالمية الكبرى، مثل رويترز وأسوشيتد برس، من أبرز الآليات التي تسهم في صناعة الأزمات، إذ أنها تمتلك شبكة واسعة من المراسلين المنتشرين عبر أنحاء العالم، ما يجعلها المصدر الأول للأخبار ذات “القيمة العالمية” مثل الحروب والكوارث والقرارات السياسية الكبرى. وغالبا ما تتحول تغطياتها إلى مرجع رئيسي لبقية وسائل الإعلام المحلية والدولية.
و للإشارة فقط فحتى عند إرادة هذه الأخيرة أن تتوجه لغير ذلك وتنقل أخبار محلية أو وطنية دون "الأزمة" تصبح منبوذة من متابعيها، مما تفرضه عناوين وكالات الأنباء من قوة على عموم المستهلكين للاهتمام فقط بمستجدات هذه الأزمة. كما هو الشأن بالنسبة لفيروس كورونا، وفقط لاحترام قاعدة التعميم في الأحكام دائما يكون خاطئ، يمكن القول أن جل الصحف أصبحت تصدر نشرات محينة، ولكثرة تداولها، ما زالت خرجات السيد محمد اليوبي مدير علم الأوبئة آنذاك عالقة في أذهاننا بعد خروجه المألوف بجملته الشهيرة كل يوم "مستجدات الحالة الوبائية ببلادنا لهذا اليوم".
وهنا بالضبط تتجلى هيمنة الإعلام عموما ووكالات الأنباء على وجه الخصوص، فعلى سبيل المثال، إذا نقلت الوكالة الأمريكية "أسوشيتد برس" عن البيت الأبيض أن العالم يواجه “أزمة عالمية”، فإن ذلك كفيل بأن تتلقفه مختلف المنصات الإعلامية وتضعه في صدارة الأخبار، لتتشكل صورة أزمة كبرى قبل أن يخضع الحدث لنقاش موضوعي معمق. ولاتعتقد أن نفس الأقلام ستفعل إن صدر نفس البلاغ من زعيم ثانوي، وليس ذلك لانتسابه لدين معين، لكن نسبة لوزنه العالمي "الخفيف". وهنا تكمن قوة هذه الوكالات: فهي لا تصنع الأزمات من العدم، لكنها تمنح الشرعية والانتشار لما هو صادر عن القوى العالمية.
كيف تتشكل هذه الأزمات؟
إذا كان دور وكالات الأنباء الكبرى يكمن في نقل الحدث وتضخيمه إعلاميا، فإن جوهر صناعة الأزمة يظل مرتبطا بمصالح الدول العظمى. فالأزمة لا تكتسب صفة “عالمية” إلا حين تمس ملفات استراتيجية مثل الطاقة، التجارة، أو الأمن.
وفي انفجار مرفأ بيروت عام 2020 مثال واضح، وبالرغم من وقوع حوادث إنسانية مماثلة في دول أخرى، اكتسب هذا الانفجار بعدا عالميا لارتباطه بأمن المتوسط وطرق التجارة البحرية، فتدخلت القوى الكبرى ليس بدافع إنساني فحسب، بل عبر ربط المساعدات بالإصلاحات السياسية والاقتصادية، ما يكشف أن الاهتمام كان أكثر بالاستقرار الإقليمي منه بمعاناة اللبنانيين.
إلا أنه، وإن كان هذا جزءا من الحقيقة، فإن الصورة لا تكتمل إلا بجزئها الآخر. إذ لا يمكننا حصر صناعة الأزمات في القوى العظمى وحدها، ففي عصر الإعلام الرقمي أصبحت الجماهير الرقمية قادرة على تحويل حدث محلي إلى قضية واسعة التداول.
في السياق ذاته فقد شهدت منطقة الريف خلال الأسبوع المنصرم ثلاث ملفات أشعلت الرأي العام وبقوة – بالرغم من أن هذه الأحداث لا ترقى إلى مستوى أزمة عالمية لكن تظهر قوة هذه المواقع – بدأت القضية الأولى بمقطع مسيء واحتقاري تجاه أبناء الريف، حيث وصفوا من أحدهم عبر مقطع مصور له بألفاظ نابية ودنيئة. وقد أدت هذه الحادثة إلى تقديم مجموعة من الشخصيات والمؤسسات شكاوى رسمية لمتابعة المسؤول عن المقطع، ناهيك عن النقاش الواسع تجاه هذا الشخص من أبناء المنطقة.
تلتها وفاة أحمد الزفزافي "عيزي حمذ" أو "أب الأحرار"، كما لقبه ابنه ناصر الزفزافي، وذلك بعد صراع طويل مع المرض العضال، مما أثار حزنا واسعا في صفوف أبناء الريف، خصوصاً حيث أنه لم يتمكن من معانقة ابنه حر قبل وفاته..بين من تداول وصية كان قد وصها الفقيد لابنه وبين من استشعر حرقة الأب تجاه ابنه المعتقل سيما في لحظاته الأخيرة.
ثم جاء الحدث الثالث والأبرز، والذي أثار عاصفة إعلامية محلية، وطنية ودولية حتى، وهو إطلاق سراح المعتقل ناصر الزفزافي لتشييع جنازة والده الراحل. وبعيداً عن جانب الحالة الإنساني، فقد كانت معظم منشورات مواقع التواصل يومئذ، تركز على خروج ناصر وتبعات ذلك. وهنا يبرز جلياً الدور الكبير الذي تلعبه هذه المواقع من ترقية الأحداث المحلية إلى صدارة الأجندة العمومية.
أما عالمياً وفي نفس الخط ففي حادثة مقتل جورج فلويد مثال بارز، فيديو مدته بضع ثوان، صور بهاتف عابر، تحول في ساعات إلى قضية هزت العالم. هنا لم تنتظر الجماهير نشرات الأخبار أو تقارير الوكالات الكبرى، بل تولت بنفسها النشر والتحليل والتعبئة عبر مواقع التواصل.
الوسوم مثل #BlackLivesMatter تجاوزت حدود الولايات المتحدة لتخلق موجة احتجاجات عابرة للقارات، ما أجبر الحكومات والمؤسسات على التفاعل بسرعة. هذا يبين أن مواقع التواصل لا تعمل كـ”ناقل” مثل الوكالات التقليدية، بل كـ”مسرع” يحول غضبا شعبيا إلى ضغط سياسي عالمي.
إذا كان دور وكالات الأنباء الكبرى يكمن في نقل الحدث وتضخيمه إعلاميا، فإن جوهر صناعة الأزمة يظل مرتبطا بمصالح الدول العظمى. فالأزمة لا تكتسب صفة “عالمية” إلا حين تمس ملفات استراتيجية مثل الطاقة، التجارة، أو الأمن.
وفي انفجار مرفأ بيروت عام 2020 مثال واضح، وبالرغم من وقوع حوادث إنسانية مماثلة في دول أخرى، اكتسب هذا الانفجار بعدا عالميا لارتباطه بأمن المتوسط وطرق التجارة البحرية، فتدخلت القوى الكبرى ليس بدافع إنساني فحسب، بل عبر ربط المساعدات بالإصلاحات السياسية والاقتصادية، ما يكشف أن الاهتمام كان أكثر بالاستقرار الإقليمي منه بمعاناة اللبنانيين.
إلا أنه، وإن كان هذا جزءا من الحقيقة، فإن الصورة لا تكتمل إلا بجزئها الآخر. إذ لا يمكننا حصر صناعة الأزمات في القوى العظمى وحدها، ففي عصر الإعلام الرقمي أصبحت الجماهير الرقمية قادرة على تحويل حدث محلي إلى قضية واسعة التداول.
في السياق ذاته فقد شهدت منطقة الريف خلال الأسبوع المنصرم ثلاث ملفات أشعلت الرأي العام وبقوة – بالرغم من أن هذه الأحداث لا ترقى إلى مستوى أزمة عالمية لكن تظهر قوة هذه المواقع – بدأت القضية الأولى بمقطع مسيء واحتقاري تجاه أبناء الريف، حيث وصفوا من أحدهم عبر مقطع مصور له بألفاظ نابية ودنيئة. وقد أدت هذه الحادثة إلى تقديم مجموعة من الشخصيات والمؤسسات شكاوى رسمية لمتابعة المسؤول عن المقطع، ناهيك عن النقاش الواسع تجاه هذا الشخص من أبناء المنطقة.
تلتها وفاة أحمد الزفزافي "عيزي حمذ" أو "أب الأحرار"، كما لقبه ابنه ناصر الزفزافي، وذلك بعد صراع طويل مع المرض العضال، مما أثار حزنا واسعا في صفوف أبناء الريف، خصوصاً حيث أنه لم يتمكن من معانقة ابنه حر قبل وفاته..بين من تداول وصية كان قد وصها الفقيد لابنه وبين من استشعر حرقة الأب تجاه ابنه المعتقل سيما في لحظاته الأخيرة.
ثم جاء الحدث الثالث والأبرز، والذي أثار عاصفة إعلامية محلية، وطنية ودولية حتى، وهو إطلاق سراح المعتقل ناصر الزفزافي لتشييع جنازة والده الراحل. وبعيداً عن جانب الحالة الإنساني، فقد كانت معظم منشورات مواقع التواصل يومئذ، تركز على خروج ناصر وتبعات ذلك. وهنا يبرز جلياً الدور الكبير الذي تلعبه هذه المواقع من ترقية الأحداث المحلية إلى صدارة الأجندة العمومية.
أما عالمياً وفي نفس الخط ففي حادثة مقتل جورج فلويد مثال بارز، فيديو مدته بضع ثوان، صور بهاتف عابر، تحول في ساعات إلى قضية هزت العالم. هنا لم تنتظر الجماهير نشرات الأخبار أو تقارير الوكالات الكبرى، بل تولت بنفسها النشر والتحليل والتعبئة عبر مواقع التواصل.
الوسوم مثل #BlackLivesMatter تجاوزت حدود الولايات المتحدة لتخلق موجة احتجاجات عابرة للقارات، ما أجبر الحكومات والمؤسسات على التفاعل بسرعة. هذا يبين أن مواقع التواصل لا تعمل كـ”ناقل” مثل الوكالات التقليدية، بل كـ”مسرع” يحول غضبا شعبيا إلى ضغط سياسي عالمي.
هل المسلمون مستهدفون دائما في العالم؟
بحديثنا عن قضية التمييز العرقي هذه التي راح ضحيتها جورج فلويد، تظهر مفاهيم أخرى على المستوى الشعبي، وخصوصاً الجماهير الإسلامية التي تميل لتفسير الأحداث العالمية على أنها استهداف مباشر للإسلام، رغم أن الواقع غالبا ليس بهذه السطحية.
وقبل البدأ و لنفهم هذه النقطة جيدا. سنتناولها من زاوية أكثر واقعية لا تنطلق من العاطفة بل من تحليل آليات اشتغال الإعلام والسوق، بعيدا عن منطق المؤامرة المباشر، لنكتشف أن كثيراً من القرارات التي يراها الجمهور استهدافاً لدينهم قد تكون في الأصل محكومة بحسابات اقتصادية أو اعتبارات ربحية بحتة.
مثال على ذلك، استنكار مجموعة واسعة من المواطنين المغاربة المسلمين توقف عرض برنامج "تجويد القرآن" خلال رمضان في العام قبل الماضي والذي قبله، وقد اعتبره كثيرون انذاك استهدافا للدين الإسلامي وقيمه، بينما قد تكون الحقيقة اقتصادية بحتة.
إنتاج البرامج التلفزية وبرنامج التجويد خصوصاً قد يستلزم نقل فريق عمل إلى مختلف المدن والقرى، وذلك لتنظيم تصفيات المؤهلين للمشاركة في البرنامج، وهذه الرحلة تشمل توفير مأكل ومبيت لفريق العمل، استئجار قاعات أحيانا في كل مدينة لتصفيات، في رحلة قد تستغرق أسابيع، ناهيك عن المأكل والمبيت أيضا عند قدوم المتأهلين لنسخة النهائية في العاصمة أو في مركز التصوير إضافة للجوائز وأمور تقنية كثيرة…
تكلفة قد تصل ل 100 مليون سنتيم مثلا، بينما وأثناء عرضه سيمر عليه المشاهد مرور الكرام وهو يبحث عن شيء يرفه به على نفسه بعد صلاة التراويح أو عن الحلقة الجديدة من مسلسله المفضل، ليحقق بذلك المنتج ربح قد لا يتجاوز 20%. في المقابل، يمكن للمنتج ذاته أن ينتج مسلسل درامي وأن يحقق أرباحا مرتفعة وراء ذلك قد تصل ل 300%.
هذا شبيه تماما بأن تخبر شخصا مفلسا أن يعيد مشروعا فشل فيه سابقا، وأنه سينجح هذه المرة، بناء على ماذا؟ بناء على تبني الشخص وجوب وجود المثالية في عموم الناس بينما تفتقر ذاته لهذه الأخيرة.
المشكل غالبا ما يكمن في عقلية بعضنا، كثيرون يظنون أنهم دائما ضحية لجهات خارجية، بينما الواقع أن الفرد نفسه يختار ما يشاهده. ألم نسمع بقاعدة العرض والطلب؟؟ هل سبق في علم أحد هؤلاء أن صدر لمسلسل معين جزء ثاني بينما فشل الجزء الأول؟
ما أحاول الإشارة إليه هنا، – دون إنكار وجود تحيزات حقيقة ضد الثقافة الإسلامية – هو أننا كجمهور نتحمل جزءا من المسؤولية في تشكيل الرواية الإعلامية. إذ غالبا ما نلوم الإعلام أو المنتجين على إقصاء ثقافتنا المتعمد أو ديننا، لكن اختياراتنا كمشاهدين تلعب دورا كبيرا في تحديد المحتوى الذي يصل إلينا.
على سبيل المثال، تفضيل المحتوى الترفيهي أو "الفضائح" أو حتى الأخبار المثيرة عاطفيا مثل الدراما أو الأحداث المثيرة للجدل، يدفع المنصات الإعلامية وخوارزميات مواقع التواصل الاجتماعي لتعزيز هذا النوع من المحتوى على حساب القضايا الإنسانية العميقة، مثل أزمات السودان أو غزة.
هذا لا يعني بالضرورة وجود مؤامرة منظمة ضد ثقافتنا، بل إن منطق السوق، المدعوم بسلوكنا الاستهلاكي، يشكل ما نراه وما يتجاهل. لتغيير هذا الواقع، يجب أن نكون أكثر وعياً باختياراتنا وأن ندعم المحتوى الذي يعكس قيمنا واهتماماتنا الحقيقية.
مثال بسيط على ذلك، ثم نمضي.. أغلبنا يمتلك حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي، وخاصة “فيسبوك”، صحيح؟ لكن لو أجرينا بحثا على عشرة عينات فقط من الحسابات الشخصية، سنلاحظ أن ما يُعرض على جدار كل حساب يختلف تماما عن الآخر.
لكن لماذا؟
ببساطة، لأن “فيسبوك” يسهل لك الوصول إلى المحتوى الذي ترغب في استهلاكه، اعتمادا على خوارزميات تحدد اهتماماتك (مثل نوع المقاطع التي تشاهدها، ما تضع له إعجابا أو تعلق عليه، أو ما تشاركه…). والنتيجة أن المنصة تتعرف على نوع المحتوى الذي يجذبك، فتغرقك به باستمرار، من دون أن تفرض عليك محتوى لا ينسجم مع ميولك.
ونفس المنطق ينطبق في مسألة الحجاب، خصوصا بين من ينادي بأن الحجاب مستهدف من قبل الغرب لبيع مستحضرات التجميل ومؤامرات متجددة، لكن نجد في الشرق الأوسط وفي السعودية كنموذج، اختلاف لذلك، إذ أن نسوة هذه الدولة وفقاً لدراسة يعتبرن من أكثر النسوة إنفاقاً على مستحضرات التجميل بمبلغ مقدر في 4.5 مليون سنتيم في السنة “18.000 ريال" إلا أن المفارقة هنا أن سواد هذه النسوة يرتدين الحجاب "الغطوة أو الشيلة"، مايوضح حال لسان الرأسمالية قائلة: "بما أنك تدفع..لا شأن لي في دينك"، وهنا يتضح أن الرأسمالية لا تتعارض مع الدين كدين بحد ذاته، لكن قد تفعل مع مايقلل من مداخيلها وذلك سواء مع الإسلام أو غيره.
بالإضافة إلى ذلك، أن المسلم الذي يعتقد أنه مستهدف دائماً، يستفيد من الرأسمالية ذاتها عندما تكون في مصالح الدول العظمى، (اقتصاديا، ثقافيا، سياسيا…) كاستعدادات المحلات التجارية الكبرى عند قدوم المناسبات الدينية من تعليق لافتات من طينة "رمضان كريم" وعروض خاصة احتفاء بالمناسبة الدينية واحتفالاً بالمسلمين، فهي تظهر لك الإهتمام بناء على ركن في دينك وهو صيام الشهر الفضيل، لكن وراء الستار نجد أنها صفقة ربحية صرفة، لكنها في صالح المسلمين هذه المرة.
واستفادة هذه الفئة المسلمة تمتد أيضا للحملات الانتخابية، سيما عندما تكون لصالح نفس القوى كما كتبنا ونعيد. كترامب مثلا الذي سعى إلى كسب أصوات المسلمين في ديترويت، حين التقى مجموعة من الأئمة المحليين ووعدهم بإنهاء الصراعات وتحقيق السلام في الشرق الأوسط، ما يوضح أن الفرد قد يكون أحياناً ضحية للسياسات الكبرى، وأحياناً مستفيداً من نفس المنظومة.
في المقابل، نصادف هجمات صريحة تستهدف الإسلام بشكل مباشر وهذا لا ولم ولن ننكره، كما هو الحال مع صحيفة شارلي إيبدو الفرنسية، التي دأبت على نشر مضامين ورسوم لا يمكن تأويلها إلا باعتبارها استهدافاً للدين الإسلامي ورموزه، وهذا غيض من فيض.
لكن لا يمكن اعتبار هذه الهجمات هي الأصل، ولا يمكن الاعتقاد بأن مصالح الدول الكبرى تقوم على إيذاء الإسلام، إذ إن أولوياتها الإستراتيجية تظل مرتبطة بمصالحها الاقتصادية والسياسية بالدرجة الأولى.
من هذا المنطق والمنطلق، يصبح فهم الأزمات العالمية اليوم، أكثر تعقيداً ويكشف أن القراءة السطحية المبتسرة “أن العالم يستيقظ صباحا لمحاربة الإسلام” غالبا غير دقيقة، بل يظهر أن مزيج بين مصالح القوى الكبرى التي تحدد أزمات العالم وفق أولوياتها الاستراتيجية، ومنطق الربح والرأسمالية الذي يحدد الاستمرارية الاقتصادية للفعاليات والبرامج، ثم "أحيانا" رغبة المجتمع المدني الرقمي في فرض أجندته وتسليط الضوء على قضايا معينة.
بحديثنا عن قضية التمييز العرقي هذه التي راح ضحيتها جورج فلويد، تظهر مفاهيم أخرى على المستوى الشعبي، وخصوصاً الجماهير الإسلامية التي تميل لتفسير الأحداث العالمية على أنها استهداف مباشر للإسلام، رغم أن الواقع غالبا ليس بهذه السطحية.
وقبل البدأ و لنفهم هذه النقطة جيدا. سنتناولها من زاوية أكثر واقعية لا تنطلق من العاطفة بل من تحليل آليات اشتغال الإعلام والسوق، بعيدا عن منطق المؤامرة المباشر، لنكتشف أن كثيراً من القرارات التي يراها الجمهور استهدافاً لدينهم قد تكون في الأصل محكومة بحسابات اقتصادية أو اعتبارات ربحية بحتة.
مثال على ذلك، استنكار مجموعة واسعة من المواطنين المغاربة المسلمين توقف عرض برنامج "تجويد القرآن" خلال رمضان في العام قبل الماضي والذي قبله، وقد اعتبره كثيرون انذاك استهدافا للدين الإسلامي وقيمه، بينما قد تكون الحقيقة اقتصادية بحتة.
إنتاج البرامج التلفزية وبرنامج التجويد خصوصاً قد يستلزم نقل فريق عمل إلى مختلف المدن والقرى، وذلك لتنظيم تصفيات المؤهلين للمشاركة في البرنامج، وهذه الرحلة تشمل توفير مأكل ومبيت لفريق العمل، استئجار قاعات أحيانا في كل مدينة لتصفيات، في رحلة قد تستغرق أسابيع، ناهيك عن المأكل والمبيت أيضا عند قدوم المتأهلين لنسخة النهائية في العاصمة أو في مركز التصوير إضافة للجوائز وأمور تقنية كثيرة…
تكلفة قد تصل ل 100 مليون سنتيم مثلا، بينما وأثناء عرضه سيمر عليه المشاهد مرور الكرام وهو يبحث عن شيء يرفه به على نفسه بعد صلاة التراويح أو عن الحلقة الجديدة من مسلسله المفضل، ليحقق بذلك المنتج ربح قد لا يتجاوز 20%. في المقابل، يمكن للمنتج ذاته أن ينتج مسلسل درامي وأن يحقق أرباحا مرتفعة وراء ذلك قد تصل ل 300%.
هذا شبيه تماما بأن تخبر شخصا مفلسا أن يعيد مشروعا فشل فيه سابقا، وأنه سينجح هذه المرة، بناء على ماذا؟ بناء على تبني الشخص وجوب وجود المثالية في عموم الناس بينما تفتقر ذاته لهذه الأخيرة.
المشكل غالبا ما يكمن في عقلية بعضنا، كثيرون يظنون أنهم دائما ضحية لجهات خارجية، بينما الواقع أن الفرد نفسه يختار ما يشاهده. ألم نسمع بقاعدة العرض والطلب؟؟ هل سبق في علم أحد هؤلاء أن صدر لمسلسل معين جزء ثاني بينما فشل الجزء الأول؟
ما أحاول الإشارة إليه هنا، – دون إنكار وجود تحيزات حقيقة ضد الثقافة الإسلامية – هو أننا كجمهور نتحمل جزءا من المسؤولية في تشكيل الرواية الإعلامية. إذ غالبا ما نلوم الإعلام أو المنتجين على إقصاء ثقافتنا المتعمد أو ديننا، لكن اختياراتنا كمشاهدين تلعب دورا كبيرا في تحديد المحتوى الذي يصل إلينا.
على سبيل المثال، تفضيل المحتوى الترفيهي أو "الفضائح" أو حتى الأخبار المثيرة عاطفيا مثل الدراما أو الأحداث المثيرة للجدل، يدفع المنصات الإعلامية وخوارزميات مواقع التواصل الاجتماعي لتعزيز هذا النوع من المحتوى على حساب القضايا الإنسانية العميقة، مثل أزمات السودان أو غزة.
هذا لا يعني بالضرورة وجود مؤامرة منظمة ضد ثقافتنا، بل إن منطق السوق، المدعوم بسلوكنا الاستهلاكي، يشكل ما نراه وما يتجاهل. لتغيير هذا الواقع، يجب أن نكون أكثر وعياً باختياراتنا وأن ندعم المحتوى الذي يعكس قيمنا واهتماماتنا الحقيقية.
مثال بسيط على ذلك، ثم نمضي.. أغلبنا يمتلك حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي، وخاصة “فيسبوك”، صحيح؟ لكن لو أجرينا بحثا على عشرة عينات فقط من الحسابات الشخصية، سنلاحظ أن ما يُعرض على جدار كل حساب يختلف تماما عن الآخر.
لكن لماذا؟
ببساطة، لأن “فيسبوك” يسهل لك الوصول إلى المحتوى الذي ترغب في استهلاكه، اعتمادا على خوارزميات تحدد اهتماماتك (مثل نوع المقاطع التي تشاهدها، ما تضع له إعجابا أو تعلق عليه، أو ما تشاركه…). والنتيجة أن المنصة تتعرف على نوع المحتوى الذي يجذبك، فتغرقك به باستمرار، من دون أن تفرض عليك محتوى لا ينسجم مع ميولك.
ونفس المنطق ينطبق في مسألة الحجاب، خصوصا بين من ينادي بأن الحجاب مستهدف من قبل الغرب لبيع مستحضرات التجميل ومؤامرات متجددة، لكن نجد في الشرق الأوسط وفي السعودية كنموذج، اختلاف لذلك، إذ أن نسوة هذه الدولة وفقاً لدراسة يعتبرن من أكثر النسوة إنفاقاً على مستحضرات التجميل بمبلغ مقدر في 4.5 مليون سنتيم في السنة “18.000 ريال" إلا أن المفارقة هنا أن سواد هذه النسوة يرتدين الحجاب "الغطوة أو الشيلة"، مايوضح حال لسان الرأسمالية قائلة: "بما أنك تدفع..لا شأن لي في دينك"، وهنا يتضح أن الرأسمالية لا تتعارض مع الدين كدين بحد ذاته، لكن قد تفعل مع مايقلل من مداخيلها وذلك سواء مع الإسلام أو غيره.
بالإضافة إلى ذلك، أن المسلم الذي يعتقد أنه مستهدف دائماً، يستفيد من الرأسمالية ذاتها عندما تكون في مصالح الدول العظمى، (اقتصاديا، ثقافيا، سياسيا…) كاستعدادات المحلات التجارية الكبرى عند قدوم المناسبات الدينية من تعليق لافتات من طينة "رمضان كريم" وعروض خاصة احتفاء بالمناسبة الدينية واحتفالاً بالمسلمين، فهي تظهر لك الإهتمام بناء على ركن في دينك وهو صيام الشهر الفضيل، لكن وراء الستار نجد أنها صفقة ربحية صرفة، لكنها في صالح المسلمين هذه المرة.
واستفادة هذه الفئة المسلمة تمتد أيضا للحملات الانتخابية، سيما عندما تكون لصالح نفس القوى كما كتبنا ونعيد. كترامب مثلا الذي سعى إلى كسب أصوات المسلمين في ديترويت، حين التقى مجموعة من الأئمة المحليين ووعدهم بإنهاء الصراعات وتحقيق السلام في الشرق الأوسط، ما يوضح أن الفرد قد يكون أحياناً ضحية للسياسات الكبرى، وأحياناً مستفيداً من نفس المنظومة.
في المقابل، نصادف هجمات صريحة تستهدف الإسلام بشكل مباشر وهذا لا ولم ولن ننكره، كما هو الحال مع صحيفة شارلي إيبدو الفرنسية، التي دأبت على نشر مضامين ورسوم لا يمكن تأويلها إلا باعتبارها استهدافاً للدين الإسلامي ورموزه، وهذا غيض من فيض.
لكن لا يمكن اعتبار هذه الهجمات هي الأصل، ولا يمكن الاعتقاد بأن مصالح الدول الكبرى تقوم على إيذاء الإسلام، إذ إن أولوياتها الإستراتيجية تظل مرتبطة بمصالحها الاقتصادية والسياسية بالدرجة الأولى.
من هذا المنطق والمنطلق، يصبح فهم الأزمات العالمية اليوم، أكثر تعقيداً ويكشف أن القراءة السطحية المبتسرة “أن العالم يستيقظ صباحا لمحاربة الإسلام” غالبا غير دقيقة، بل يظهر أن مزيج بين مصالح القوى الكبرى التي تحدد أزمات العالم وفق أولوياتها الاستراتيجية، ومنطق الربح والرأسمالية الذي يحدد الاستمرارية الاقتصادية للفعاليات والبرامج، ثم "أحيانا" رغبة المجتمع المدني الرقمي في فرض أجندته وتسليط الضوء على قضايا معينة.
من يحتكر تعريف الأزمة غداً؟
إن تتبّع مسار الأزمات العالمية خلال العقد الأخير يكشف عن انعطافة تاريخية في آليات صناعتها وإدارتها. فإذا كانت وكالات الأنباء الكبرى والدول العظمى هي المحتكر التقليدي لصياغة ما يستحق أن يُسمى “أزمة عالمية”، فإن المشهد اليوم بات أكثر تعقيداً.
فالمجتمع الرقمي، ومنصات التواصل الاجتماعي، أثبتت أنها قادرة على قلب الموازين، وتحويل مأساة محلية إلى قضية كونية، كما حدث في قضية جورج فلويد. هذه التجربة، وغيرها، تؤشر إلى أن المستقبل لن يكون حكراً على الحكومات والوكالات وحدها، بل سيتقاسم الجميع من الشعوب إلى الشركات الرقمية العملاقة سلطة تحديد ما هو “عالمي”، وإن كانت "أزمات" الرأي تجد صعوبة في توحيد هذا الأخير.
غير أن هذا التحول يطرح بدوره معضلات أخلاقية وسياسية عميقة: فإذا كانت القوى الكبرى تنتقي أزماتها وفق منطق المصالح، فإن الجماهير الرقمية قد تسقط في فخ “الانتقائية العاطفية” أو “التأثير اللحظي”، حيث تصنع قضية ضخمة ليوم أو أسبوع، ثم تنساها سريعاً دون أن تتغير السياسات فعلياً.
وهنا يبرز السؤال المحوري ذاته: هل ستتمكن الشعوب من تحويل هذه الطاقة الرقمية الهائلة التي أظهرتها قضايا مثل جورج فلويد إلى ضغط مؤسسي منظم ومستدام؟
فمثلًا، هل كان الملف الذي وجهت فيه إلى أبناء الريف عبارات نابية وقاسية ليطوى سريعا ويخفت النقاش حوله بشكل شبه كامل، لولا وفاة أحمد الزفزافي رحمه الله التي وجهت تسليط الضوء لزاوية أخرى وأعطت امتدادا جديدا في الفضاء الرقمي؟
وللإشارة، فأنا لا أتحدث هنا من منطق الصواب أو الخطأ، بل أطرح مجرد تساؤل للتفكير.
الفكرة التي أرغب في توجيهها هي أن العاطفة قد تغلب على الشخص أو يتم التلاعب بها، لكن وفق ما نراه، يبقى التحدي الحقيقي في تجاوز الانفعال العابر الذي يختفي بعد أيام أو أسابيع. لضمان استدامة التأثير، وهنا يبرز السؤال: كيف يمكن تحسين هذا الأمر؟
في المقابل، تبدو الدول العظمى واعية بهذا التحول، وتسعى إلى التكيف معه إما عبر استيعاب أدوات الإعلام الجديد وتطويعها لصالحها، أو عبر محاولة تشويه الحملات الرقمية وإضعافها.
ختاما قد يشهد العقد القادم ساحة صراع مزدوج: صراع على الموارد والنفوذ، وصراع آخر على تحديد ما هو "أزمة عالمية" وما هو مجرد "حدث عابر"، خصوصا إذا تحقق للمجتمع الرقمي الوعي الكافي لتمييز الفرق بينهما…
إن تتبّع مسار الأزمات العالمية خلال العقد الأخير يكشف عن انعطافة تاريخية في آليات صناعتها وإدارتها. فإذا كانت وكالات الأنباء الكبرى والدول العظمى هي المحتكر التقليدي لصياغة ما يستحق أن يُسمى “أزمة عالمية”، فإن المشهد اليوم بات أكثر تعقيداً.
فالمجتمع الرقمي، ومنصات التواصل الاجتماعي، أثبتت أنها قادرة على قلب الموازين، وتحويل مأساة محلية إلى قضية كونية، كما حدث في قضية جورج فلويد. هذه التجربة، وغيرها، تؤشر إلى أن المستقبل لن يكون حكراً على الحكومات والوكالات وحدها، بل سيتقاسم الجميع من الشعوب إلى الشركات الرقمية العملاقة سلطة تحديد ما هو “عالمي”، وإن كانت "أزمات" الرأي تجد صعوبة في توحيد هذا الأخير.
غير أن هذا التحول يطرح بدوره معضلات أخلاقية وسياسية عميقة: فإذا كانت القوى الكبرى تنتقي أزماتها وفق منطق المصالح، فإن الجماهير الرقمية قد تسقط في فخ “الانتقائية العاطفية” أو “التأثير اللحظي”، حيث تصنع قضية ضخمة ليوم أو أسبوع، ثم تنساها سريعاً دون أن تتغير السياسات فعلياً.
وهنا يبرز السؤال المحوري ذاته: هل ستتمكن الشعوب من تحويل هذه الطاقة الرقمية الهائلة التي أظهرتها قضايا مثل جورج فلويد إلى ضغط مؤسسي منظم ومستدام؟
فمثلًا، هل كان الملف الذي وجهت فيه إلى أبناء الريف عبارات نابية وقاسية ليطوى سريعا ويخفت النقاش حوله بشكل شبه كامل، لولا وفاة أحمد الزفزافي رحمه الله التي وجهت تسليط الضوء لزاوية أخرى وأعطت امتدادا جديدا في الفضاء الرقمي؟
وللإشارة، فأنا لا أتحدث هنا من منطق الصواب أو الخطأ، بل أطرح مجرد تساؤل للتفكير.
الفكرة التي أرغب في توجيهها هي أن العاطفة قد تغلب على الشخص أو يتم التلاعب بها، لكن وفق ما نراه، يبقى التحدي الحقيقي في تجاوز الانفعال العابر الذي يختفي بعد أيام أو أسابيع. لضمان استدامة التأثير، وهنا يبرز السؤال: كيف يمكن تحسين هذا الأمر؟
في المقابل، تبدو الدول العظمى واعية بهذا التحول، وتسعى إلى التكيف معه إما عبر استيعاب أدوات الإعلام الجديد وتطويعها لصالحها، أو عبر محاولة تشويه الحملات الرقمية وإضعافها.
ختاما قد يشهد العقد القادم ساحة صراع مزدوج: صراع على الموارد والنفوذ، وصراع آخر على تحديد ما هو "أزمة عالمية" وما هو مجرد "حدث عابر"، خصوصا إذا تحقق للمجتمع الرقمي الوعي الكافي لتمييز الفرق بينهما…