المزيد من الأخبار






الغَازَات السَّامّة والسَّرطَان بالرّيف.. مُعطيَات وحَقائِق تَاريخيَّة


الغَازَات السَّامّة والسَّرطَان بالرّيف.. مُعطيَات وحَقائِق تَاريخيَّة
ناظورسيتي: خاص

يعد ملف استعمال الغازات السامة من طرف اسبانيا ضد الثورة الريفية خلال عشرينيات القرن الماضي، بعد أن قصفت القرى والمداشر والأسواق الأسبوعية والتجمعات السكانية، من أبرز الملفات التاريخية والحقوقية والسياسية العالقة. كما أنه يعد من القضايا التي يمكن طرحها على أكثر من صعيد لامتداداته وتداعياته وتداخل أبعاده.

ومنذ السنوات الماضية، أصبح ملف الغازات السامة أو العناق القاتل - بتعبير سيبستيان بلفور- موضوع نقاش جمعوي وحقوقي وتاريخي يطرح في بعض المناسبات والمنتديات. كما أنه أصبح يشغل الرأي العام والمهتمين، حيث تبلورت بخصوصه مقاربات ومرافعات.

إلاَّ أن الجوانب التي لازالت تثير الجدل أكثر، هو مدى تأثير استعمال الغازات السامة على انتشار مرض السرطان في ظل النسب المرتفعة من حالات الإصابات بهذا المرض الفتاك بالريف، وارتفاع ضحاياه وفق إحصائيات مؤكدة.


الغَازَات السَّامّة والسَّرطَان بالرّيف.. مُعطيَات وحَقائِق تَاريخيَّة
أرهاج أو الحرب القذرة

يرجع الفضل في كشف العديد من المعطيات والحقائق المتعلقة باستعمال الغازات السامة إلى الألمانيين الصحافي روديبرت كونز، والمؤرخ رولف ديتر مولر، من خلال كتابهما "الخطابي في مواجهة الغازات السامة"، وقد كتب هذا الكتاب عام 1990، وتمت ترجمته سنة 1996. كما سبق لأحد المؤرخين الهولنديين في مارس 1991، وهو البروفسور "يان هوفنار" المختص في التاريخ العسكري، أن كتب مقالا يحمل معلومات ومعطيات هامة تحت عنوان "المغرب كحقل تجارب للغازات الألمانية السامة"، وقد نشر في إحدى الجرائد الهولندية.

وبالعودة إلى فصول التاريخ الحديث والبحث في صفحاته، يتجلى لنا كيف أن اسبانيا، بمشاركة دول أخرى، وبعد اندحار جيوشها في قلب الريف، التجأت إلى استعمال الغازات السامة للقضاء على المقاومة الريفية، وهي الغازات المحرمة دوليا بموجب الأعراف والمواثيق الدولية، كان أبرزها اتفاقية/ بروتوكول جنيف سنة 1925.

وتشير دراسات وأبحاث ومعلومات عسكرية وتقارير ديبلوماسية أن الحرب الكيماوية تورطت فيها عدة أطراف دولية. بالإضافة إلى اسبانيا، تشير المعطيات إلى مشاركة كل من فرنسا، وألمانيا، وهولاندا، وأمريكا، وصمت انجلترا، والقبول الضمني للمغرب الذي كان تحت الاحتلال الفرنسي.

من جهة أخرى، تشير بعض الإحصائيات أن الريف تمت قنبلته ب (110) طن من غاز اللوست فقط، ناهيك عن أطنان أخرى من غازات من غار الخردل وإيبيريت والفوسجين، وأنواع أخرى من الغازات السامة التي كانت لها عواقب وخيمة على الإنسان والمجال نتيجة القنابل العنقودية، من حجم (5) و(10) و(100) كيلوغرام، التي كانت تمطر قبائل الريف على مدار الثلاث سنوات على الأقل.

وإذا كانت مداخل معالجة ملفات وقضايا الماضي والتاريخ والذاكرة المشتركة تقتضي تصفية هذا التركة التي لازلنا نجر أثقالها، فإن الأمر الذي يثير الكثير النقاش في الوقت الحالي، هو علاقة استعمال الغازات السامة بانتشار مرض السرطان.


الغَازَات السَّامّة والسَّرطَان بالرّيف.. مُعطيَات وحَقائِق تَاريخيَّة
الغَازَات السَّامَّة والسَّرطاَن

تعددت الأحاديث حول العلاقة الضمنية بين الاستعمال المحرم للغازات السامة بانتشار السرطان بالريف. ورغم غياب الأدلة القاطعة وجود تأكيد هذه الفرضية، فقد بات من الواضح أن العديد من الدراسات والمعطيات، التي أصبحت لا تقبل أي شك، تؤكد اليوم وجود وثبوت هذه العلاقة، وهو ما يؤشر على القول بأن ذلك يعد، وفق المقاييس المواصفات التي تتجلى لنا، جريمة إنسانية دولية غير قابلة للتقادم.

ولعل من أبرز المؤاشرات التي تفيد بهذا الأمر، ارتفاع نسبة المصابين بمرض السرطان بالريف مقارنة مع جهات ومناطق أخرى من المغرب تعرف تسجيل نسب أقل من الجهة الشمالية، ومنطقة الريف تحديداً. في هذا السياق، أكد مصطفى المرون، أستاذ التاريخ المعاصر، أن هناك دلائل تفيد تسبب الغازات السامة في انتشار السرطان بالريف.

ويستند الأستاذ المرون في هذا القول على تجارب ومعطيات ودراسات روني بيتا، الأستاذ في المدرسة العسكرية للدفاع بمدريد، وخلاصات شعبة علم التسمم والصيدلة في جامعة موملوتينسي، والتي تفيد أن غار الخردل يمكن أن تسبب مرض السرطان. كما أن هناك دلائل تؤكد أن ذات الغاز يمكن أن يكون السبب في تغيير الجينات والنقل الوراثي للسرطان من المصابين بالغازات الكيماوية إلى سلالتهم اللاحقة. كما أن العديد من الدراسات والأبحاث الأخرى أصبحت تؤكد هذه العلاقة السببية، رغم مظاهر الصمت الرسمي على هذا الملف.

إلاَّ أن الصعب الذي أصبح يثقل كاهل أبناء الريف ممن عاشوا ويعيشون جحيم مرض السرطان، هو غياب البنيات الصحية والاستشفائية وهو ما يحتم عليهم التنقل للمركز (الرباط) قصد المعالجة بالمركز الوطني مولاي عبد الله للأنكولوجيا.

ورغم إنشاء مركزين جهويين للأنكولوجيا، بكل من الحسيمة ووجدة، إلا أن ذلك لم يحل المعاناة الطويلة لهذه الساكنة مع المرض من جهة، ومع متطلبات العلاج في ظل الإمكانيات المادية التي يكلفها الاستشفاء. وكثيرة هي الصور والحالات التي أصبحت ترسم العلاقة التراجيدية معاناة أهل الريف مع مرض السرطان.

في الختام..

لازال ملف الغازات السامة من الملفات التي لا يتم طرحها على مستوى العلاقات الرسمية بين المغرب واسبانيا، وحتى بين المغرب ودول الاتحاد الأوروبي. لكن العديد من المتتبعين والمهتمين يتساءلون عن الأسباب التي يمكن أن تفسر الصمت الرسمي في هذا الشأن، حتى أنه لمّا تكون الحاجة إلى استغلال وطرح الموضوع موجودة فتعطى الإشارة لأطراف أخرى لتحل مقام الجهات الرسمية، كما كان الشأن في وقت سابق مع رئيس البرلمان المغربي، مصطفى المنصوري، الذي لم يعاود طرح الموضوع منذئذ.

نفس الشيء ينطبق على الدولة الاسبانية التي لازالت تتحاشى تقديم الاعتذار والاعتراف بممارستها لهذه الجريمة، مع ما يتطلبه ذلك من تدابير وإجراءات المصالحة ورد الاعتبار. وماعدا حزب اليسار الجمهوري الكطلاني الذي سبق أن تقدم سنة 2007 بمشروع قانون في البرلمان الاسباني حول الذاكرة التاريخية ومطالبته اسبانيا بالاعتذار، وحزب اليسار الأخضر، لازال هذا الموضوع مؤجلاً إلى حين.


تعليق جديد

التعليقات المنشورة لا تعبر بأي حال عن رأي الموقع وسياسته التحريرية
شكرا لالتزام الموضوعية وعدم الإساءة والتجريح