
عماد أبركان
إن اللامركزية الإدارية الترابية إذا كانت بمقتضاها تتوزع الوظيفة الإدارية بين الدولة والأشخاص اللامركزية "المستقلة"، فإن ذلك الاستقلال -ومن أجل تغليب المصلحة العامة - مهما كان لن يصل إلى حد الانفصال، أو إلى إعدام كل علاقة بين تلك الأشخاص والدولة. بل تظل العلاقة قائمة بينهما بموجب نظام يعرف بالوصاية الإدارية، أو ما يسمى حديثا بالرقابة الإدارية. فمفهوم الوصاية لا يمكن أن يعبر بشكل جيد عن إشراف الدولة على الجماعات الترابية، وذلك نظرا لوجود اختلاف بين المراد بالوصاية في القانون الخاص، وبين الوصاية الإدارية في القانون العام . وإزاء هذا الاختلاف البين، فإننا نعتقد أن مصطلح الرقابة الإدارية هو الأجدر بالاستعمال لوصف العلاقة بين السلطة المركزية والهيئات المحلية. فتلك الرقابة هي وسيلة فنية تقوم على أساس حرية المبادرة، وفي إطار اللامركزية الإدارية الترابية، ومن أجل الحفاظ أساسا على وحدة الدولة .
أما بالنسبة لتعريف تلك الوصاية الإدارية كمحاولة لترجمة المقابل الفرنسي "La tutelle administrative"، فإنها تعني حسب ماسبسيول ولاروك "مجموع السلطات التي يمنحها المشرع للسلطة المركزية لتمكينها من الرقابة على نشاط الهيآت اللامركزية بقصد حماية المصلحة العامة" . وقد تم تعريفها حديثا من طرف العديد من الفقهاء أو الدارسين للقانون الإداري، بتعريفات متعددة ومتنوعة، وهي تتسع أحيانا وتضيق أحيانا أخرى. والمقصود بها عموما هي "تلك الرقابة المتعددة الأشكال التي تمارسها الدولة على الهيئات المحلية، وذلك بقصد منعها من الانحراف ... عن الهدف الذي من أجله وجدت، ويكون الهدف من ذلك هو استبقاء الهيئات المحلية في حدود الصالح العام والمشروعية القانونية والسياسية" .
والوصاية أو الرقابة الإدارية على الجماعات الترابية في المغرب ظلت تمارسها عموما أجهزة ذات صبغة إدارية، وإذا كان المشرع المغربي قد فضل التنصيص على بعض القرارات التي يجب عرضها على المحاكم الإدارية في القانون المنظم للجهة ، فإن ذلك جاء في إطار إشراك القضاء الإداري مع سلطات الوصاية في الرقابة الوصائية التي تمارسها على المجالس الجهوية . وذلك باعتباره اختصاصا مضافا للمحاكم الإدارية، وكرقابة وصائية بمقاربة جديدة. وجدير بالإشارة هنا، أن هذا النمط الرقابي الذي يمارسه القاضي الإداري على بعض قرارات المجالس الجهوية المنصوص عليه في القانون رقم 96-47 المتعلق بتنظيم الجهات، قد تكرس أكثر من خلال القوانين التنظيمية للجماعات الترابية الصادرة مؤخرا.
هذا ولقد عرفت الدولة المغربية عبر تاريخها الطويل نوعا من "اللامركزية الواقعية" بشكل مبكر، حيث كانت المملكة المغربية قبل الحماية مقسمة إلى بلاد المخزن وبلاد السيبة. وإذا كانت بلاد المخزن يمثل فيها السلطة المركزية، خلفاء السلطان والباشوات والقواد والمحتسبون ، وكان "الخليفة هو الممثل الرئيسي للإدارة المركزية ..."، فإن بلاد السيبة هي التي عرفت نمطا بدائيا "للجماعة المحلية". ولعل ما يمكن ملاحظته على تلك الفترة بخصوص النظام الرقابي، هو أن فكرة الرقابة كانت ضبابية وغير مؤكدة . أما ابتداء من سنة 1912 ومع وفرض معاهدة الحماية، فقد سعت سلطات الاحتلال إلى استحداث الجهات كوحدات إدارية جديدة ، وقد تحكمت فيها اعتبارات عسكرية بالدرجة الأولى حتى وإن كانت هناك جهات مدنية آنذاك.
وإلى جانب ذلك فقد غابت في تلك الفترة مقومات نظام اللامركزية الترابية. فالمغرب لم يعرف تنظيما لامركزيا، ولم يعرف رقابة على الجماعات المحلية، إلا بعد الاستقلال سنة 1956، وبالضبط في ستينيات القرن الماضي. حيث صدر ظهير 1960 بشأن نظام الجماعات، الذي بمقتضاه تم إحداث الجماعات الحضرية والقروية. وقد طبعت علاقة الدولة بتلك الجماعات وقتذاك، طغيان الوصاية على مستوى اتخاذ القرار، ولم يتح للمنتخبين أي حرية في تدبير الشؤون المحلية، لكون رئاسة المجلس الجماعي اتسمت بالازدواجية وتركيز أهم الصلاحيات بيد ممثل السلطة المحلية . ومن هنا فقد كانت الوصاية مشددة وصارمة، بحيث شملت مجالا واسعا وفسيحا إن على مستوى الأعمال أو الأشخاص .
ورغم اعتراف الدستور الصادر بعد ذلك بقليل سنة 1962، بصفة الجماعات المحلية لتلك الجماعات كمؤسسات دستورية ، فإن ذلك لم يخفف من الوصاية، بحيث استمرت بنفس الحدة والصرامة السابقة . ولعل ما يحسب للدستور الصادر حينذاك أيضا، هو إعطاء صفة الجماعات المحلية للعمالات والأقاليم. وهو الأمر الذي تكرس بصدور ظهير 12 شتنبر 1963، بشأن تنظيم العمالات والأقاليم ومجالسها . لكن في المقابل، ولما كانت تجربة اللامركزية الإقليمية، قد نشأت في ظل مناخ سياسي واقتصادي وإداري مضطرب، فإن الدولة أخضعت المجالس المنتخبة لرقابة وصائية موسعة ومشددة .
وفي بداية السبعينيات من القرن الماضي، وإذا كان دستور 1970 والدستور المراجع سنة 1972 قد حافظا على نفس الجماعات المحلية، وعلى نفس المقتضيات المؤطرة لها ، فإن المشرع بادر في سنة 1971 إلى إحداث المناطق . لكن في المقابل لم تتوفر تلك المناطق، على أي مؤهلات أو هياكل للدخول في علاقات مع الأطراف الأخرى . وإذا كانت السنوات الأولى من السبعينيات قد شهدت نوعا من الرتابة والتراخي عموما على مستوى تطور سياسة اللامركزية الترابية، فإنه في النصف الثاني من السبعينيات كانت هناك محاولة جادة إلى حد ما لتعميق اللامركزية الإدارية الترابية. وقد تمثل ذلك بالخصوص في صدور قانون 30 شتنبر 1976 المتعلق بالتنظيم الجماعي ، حيث شكل نقلة نوعية وكمية على مستوى المهام والسلطات، أما على مستوى الوصاية التي جاء بها، فقد اختلفت الآراء حول نوع التطور الذي لحقها، لكن على الأرجح أنها كانت مشددة وصارمة ومبالغ فيها .
وإذا كان الخطاب الملكي لسنة 1984 قد سعى إلى إحداث جهوية ذات صبغة سياسية بمقومات حديثة من حيث المرتكزات المادية والقانونية، فإن دستور 1992 هو الذي ارتقى بالجهات إلى مصاف الجماعات المحلية . ولقد كانت سنوات التسعينيات من القرن الماضي فترة للإصلاحات في المغرب بامتياز، الأمر الذي انعكس بشكل أساسي على المسألة اللامركزية. فإلى جانب ما سبق، صدر الدستور المراجع لسنة 1996، وقد تضمن العديد من المقتضيات التي كانت منطلقا أساسيا لتطور نظام الرقابة على عدة مستويات . وفي خضم ذلك الوضع، وبعد مسلسل طويل من المشاورات والمفاوضات بين وزارة الداخلية والأحزاب السياسية، في إطار هيئة مختلطة ، صدر قانون 1997 المتعلق بتنظيم الجهات . إلا أنه في المجال الوصائي، جاء هذا القانون بنفس المقتضيات -في أحكامها العامة- التي كان قد جاء بها كل من ظهير التنظيم الجماعي وظهير التنظيم الإقليمي.
ولقد صدر في 2002 وفي الوقت ذاته كل من القانون المتعلق بالميثاق الجماعي، والقانون المتعلق بتنظيم العمالات والأقاليم . حيث جاء القانون الأول بمقتضيات مهمة، في إطار المحاولات والجهود التي بذلت لإصلاح نظام الوصاية، وقد تمثلت محاولة الإصلاح بالخصوص، في تقليص الآجال والمواد الخاضعة للمصادقة المسبقة، وفي نقل بعض اختصاصات وزير الداخلية في مجال الوصاية إلى الولاة والعمال. أما على مستوى القانون المتعلق بتنظيم العمالات والأقاليم، فإنه جاء هو الأخر بالعديد من الإجراءات المخففة نوعا ما من الرقابة والتي تتوخى تمكين الهيئات المنتخبة من أداء مهامها في ظروف أفضل مما كانت عليه في القانون السابق .
ومن هنا، وإذا كانت النصوص القانونية المذكورة، تمثل أهم المحطات والمنعطفات التاريخية التي عرفتها الرقابة الوصائية على الجماعات الترابية بالمغرب، في العقد الأول من الألفية الثالثة، فإن من أبرز التطورات والتغيرات التي عرفها هذا النظام الرقابي أيضا هي تلك التي كانت سنة 2009. حيث صدر القانون رقم 17.08 المغير والمتمم بموجبه القانون المتعلق بالميثاق الجماعي . وهكذا تتالت كل تلك العوامل والإصلاحات والمتغيرات والتحولات، حتى تم الإعلان عن الجهوية المتقدمة . وجاء دستور فاتح يوليوز 2011 لينص في فصله الأول على أن "التنظيم الترابي للمملكة تنظيم لامركزي يقوم على الجهوية المتقدمة" ، فطرحت إشكالية الرقابة نفسها بحدة أكبر. خاصة بعد أن كان قد أكد تقرير اللجنة الاستشارية حول الجهوية المتقدمة على ضرورة ملاءمة النظام الرقابي الممارس على الجماعات الترابية مع متطلبات التنظيم اللامركزي الجديد .
إن اللامركزية الإدارية الترابية إذا كانت بمقتضاها تتوزع الوظيفة الإدارية بين الدولة والأشخاص اللامركزية "المستقلة"، فإن ذلك الاستقلال -ومن أجل تغليب المصلحة العامة - مهما كان لن يصل إلى حد الانفصال، أو إلى إعدام كل علاقة بين تلك الأشخاص والدولة. بل تظل العلاقة قائمة بينهما بموجب نظام يعرف بالوصاية الإدارية، أو ما يسمى حديثا بالرقابة الإدارية. فمفهوم الوصاية لا يمكن أن يعبر بشكل جيد عن إشراف الدولة على الجماعات الترابية، وذلك نظرا لوجود اختلاف بين المراد بالوصاية في القانون الخاص، وبين الوصاية الإدارية في القانون العام . وإزاء هذا الاختلاف البين، فإننا نعتقد أن مصطلح الرقابة الإدارية هو الأجدر بالاستعمال لوصف العلاقة بين السلطة المركزية والهيئات المحلية. فتلك الرقابة هي وسيلة فنية تقوم على أساس حرية المبادرة، وفي إطار اللامركزية الإدارية الترابية، ومن أجل الحفاظ أساسا على وحدة الدولة .
أما بالنسبة لتعريف تلك الوصاية الإدارية كمحاولة لترجمة المقابل الفرنسي "La tutelle administrative"، فإنها تعني حسب ماسبسيول ولاروك "مجموع السلطات التي يمنحها المشرع للسلطة المركزية لتمكينها من الرقابة على نشاط الهيآت اللامركزية بقصد حماية المصلحة العامة" . وقد تم تعريفها حديثا من طرف العديد من الفقهاء أو الدارسين للقانون الإداري، بتعريفات متعددة ومتنوعة، وهي تتسع أحيانا وتضيق أحيانا أخرى. والمقصود بها عموما هي "تلك الرقابة المتعددة الأشكال التي تمارسها الدولة على الهيئات المحلية، وذلك بقصد منعها من الانحراف ... عن الهدف الذي من أجله وجدت، ويكون الهدف من ذلك هو استبقاء الهيئات المحلية في حدود الصالح العام والمشروعية القانونية والسياسية" .
والوصاية أو الرقابة الإدارية على الجماعات الترابية في المغرب ظلت تمارسها عموما أجهزة ذات صبغة إدارية، وإذا كان المشرع المغربي قد فضل التنصيص على بعض القرارات التي يجب عرضها على المحاكم الإدارية في القانون المنظم للجهة ، فإن ذلك جاء في إطار إشراك القضاء الإداري مع سلطات الوصاية في الرقابة الوصائية التي تمارسها على المجالس الجهوية . وذلك باعتباره اختصاصا مضافا للمحاكم الإدارية، وكرقابة وصائية بمقاربة جديدة. وجدير بالإشارة هنا، أن هذا النمط الرقابي الذي يمارسه القاضي الإداري على بعض قرارات المجالس الجهوية المنصوص عليه في القانون رقم 96-47 المتعلق بتنظيم الجهات، قد تكرس أكثر من خلال القوانين التنظيمية للجماعات الترابية الصادرة مؤخرا.
هذا ولقد عرفت الدولة المغربية عبر تاريخها الطويل نوعا من "اللامركزية الواقعية" بشكل مبكر، حيث كانت المملكة المغربية قبل الحماية مقسمة إلى بلاد المخزن وبلاد السيبة. وإذا كانت بلاد المخزن يمثل فيها السلطة المركزية، خلفاء السلطان والباشوات والقواد والمحتسبون ، وكان "الخليفة هو الممثل الرئيسي للإدارة المركزية ..."، فإن بلاد السيبة هي التي عرفت نمطا بدائيا "للجماعة المحلية". ولعل ما يمكن ملاحظته على تلك الفترة بخصوص النظام الرقابي، هو أن فكرة الرقابة كانت ضبابية وغير مؤكدة . أما ابتداء من سنة 1912 ومع وفرض معاهدة الحماية، فقد سعت سلطات الاحتلال إلى استحداث الجهات كوحدات إدارية جديدة ، وقد تحكمت فيها اعتبارات عسكرية بالدرجة الأولى حتى وإن كانت هناك جهات مدنية آنذاك.
وإلى جانب ذلك فقد غابت في تلك الفترة مقومات نظام اللامركزية الترابية. فالمغرب لم يعرف تنظيما لامركزيا، ولم يعرف رقابة على الجماعات المحلية، إلا بعد الاستقلال سنة 1956، وبالضبط في ستينيات القرن الماضي. حيث صدر ظهير 1960 بشأن نظام الجماعات، الذي بمقتضاه تم إحداث الجماعات الحضرية والقروية. وقد طبعت علاقة الدولة بتلك الجماعات وقتذاك، طغيان الوصاية على مستوى اتخاذ القرار، ولم يتح للمنتخبين أي حرية في تدبير الشؤون المحلية، لكون رئاسة المجلس الجماعي اتسمت بالازدواجية وتركيز أهم الصلاحيات بيد ممثل السلطة المحلية . ومن هنا فقد كانت الوصاية مشددة وصارمة، بحيث شملت مجالا واسعا وفسيحا إن على مستوى الأعمال أو الأشخاص .
ورغم اعتراف الدستور الصادر بعد ذلك بقليل سنة 1962، بصفة الجماعات المحلية لتلك الجماعات كمؤسسات دستورية ، فإن ذلك لم يخفف من الوصاية، بحيث استمرت بنفس الحدة والصرامة السابقة . ولعل ما يحسب للدستور الصادر حينذاك أيضا، هو إعطاء صفة الجماعات المحلية للعمالات والأقاليم. وهو الأمر الذي تكرس بصدور ظهير 12 شتنبر 1963، بشأن تنظيم العمالات والأقاليم ومجالسها . لكن في المقابل، ولما كانت تجربة اللامركزية الإقليمية، قد نشأت في ظل مناخ سياسي واقتصادي وإداري مضطرب، فإن الدولة أخضعت المجالس المنتخبة لرقابة وصائية موسعة ومشددة .
وفي بداية السبعينيات من القرن الماضي، وإذا كان دستور 1970 والدستور المراجع سنة 1972 قد حافظا على نفس الجماعات المحلية، وعلى نفس المقتضيات المؤطرة لها ، فإن المشرع بادر في سنة 1971 إلى إحداث المناطق . لكن في المقابل لم تتوفر تلك المناطق، على أي مؤهلات أو هياكل للدخول في علاقات مع الأطراف الأخرى . وإذا كانت السنوات الأولى من السبعينيات قد شهدت نوعا من الرتابة والتراخي عموما على مستوى تطور سياسة اللامركزية الترابية، فإنه في النصف الثاني من السبعينيات كانت هناك محاولة جادة إلى حد ما لتعميق اللامركزية الإدارية الترابية. وقد تمثل ذلك بالخصوص في صدور قانون 30 شتنبر 1976 المتعلق بالتنظيم الجماعي ، حيث شكل نقلة نوعية وكمية على مستوى المهام والسلطات، أما على مستوى الوصاية التي جاء بها، فقد اختلفت الآراء حول نوع التطور الذي لحقها، لكن على الأرجح أنها كانت مشددة وصارمة ومبالغ فيها .
وإذا كان الخطاب الملكي لسنة 1984 قد سعى إلى إحداث جهوية ذات صبغة سياسية بمقومات حديثة من حيث المرتكزات المادية والقانونية، فإن دستور 1992 هو الذي ارتقى بالجهات إلى مصاف الجماعات المحلية . ولقد كانت سنوات التسعينيات من القرن الماضي فترة للإصلاحات في المغرب بامتياز، الأمر الذي انعكس بشكل أساسي على المسألة اللامركزية. فإلى جانب ما سبق، صدر الدستور المراجع لسنة 1996، وقد تضمن العديد من المقتضيات التي كانت منطلقا أساسيا لتطور نظام الرقابة على عدة مستويات . وفي خضم ذلك الوضع، وبعد مسلسل طويل من المشاورات والمفاوضات بين وزارة الداخلية والأحزاب السياسية، في إطار هيئة مختلطة ، صدر قانون 1997 المتعلق بتنظيم الجهات . إلا أنه في المجال الوصائي، جاء هذا القانون بنفس المقتضيات -في أحكامها العامة- التي كان قد جاء بها كل من ظهير التنظيم الجماعي وظهير التنظيم الإقليمي.
ولقد صدر في 2002 وفي الوقت ذاته كل من القانون المتعلق بالميثاق الجماعي، والقانون المتعلق بتنظيم العمالات والأقاليم . حيث جاء القانون الأول بمقتضيات مهمة، في إطار المحاولات والجهود التي بذلت لإصلاح نظام الوصاية، وقد تمثلت محاولة الإصلاح بالخصوص، في تقليص الآجال والمواد الخاضعة للمصادقة المسبقة، وفي نقل بعض اختصاصات وزير الداخلية في مجال الوصاية إلى الولاة والعمال. أما على مستوى القانون المتعلق بتنظيم العمالات والأقاليم، فإنه جاء هو الأخر بالعديد من الإجراءات المخففة نوعا ما من الرقابة والتي تتوخى تمكين الهيئات المنتخبة من أداء مهامها في ظروف أفضل مما كانت عليه في القانون السابق .
ومن هنا، وإذا كانت النصوص القانونية المذكورة، تمثل أهم المحطات والمنعطفات التاريخية التي عرفتها الرقابة الوصائية على الجماعات الترابية بالمغرب، في العقد الأول من الألفية الثالثة، فإن من أبرز التطورات والتغيرات التي عرفها هذا النظام الرقابي أيضا هي تلك التي كانت سنة 2009. حيث صدر القانون رقم 17.08 المغير والمتمم بموجبه القانون المتعلق بالميثاق الجماعي . وهكذا تتالت كل تلك العوامل والإصلاحات والمتغيرات والتحولات، حتى تم الإعلان عن الجهوية المتقدمة . وجاء دستور فاتح يوليوز 2011 لينص في فصله الأول على أن "التنظيم الترابي للمملكة تنظيم لامركزي يقوم على الجهوية المتقدمة" ، فطرحت إشكالية الرقابة نفسها بحدة أكبر. خاصة بعد أن كان قد أكد تقرير اللجنة الاستشارية حول الجهوية المتقدمة على ضرورة ملاءمة النظام الرقابي الممارس على الجماعات الترابية مع متطلبات التنظيم اللامركزي الجديد .
وفي سنة 2015 صدرت القوانين التنظيمية للجماعات الترابية تنفيذا لمقتضيات الدستور بخصوص التنظيم الترابي الجديد. ولقد جاءت تلك النصوص القانونية بمقتضيات رقابية جديدة، وإلا وإن كان خلاف ذلك، فإنها لن تجيب عن الإشكالات المطروحة بهذا الخصوص . وعموما، فقد كان للتحول الذي جاءت به مقتضيات الدستور الجديد بخصوص الحكامة الترابية، وقعا وتأثيرا كبيرا وتحفيزا إضافيا للاهتمام بمستجدات المقاربة الترابية للمسألة التنموية. وقد كان ذلك من بين الأسباب التي أدت إلى إذكاء الرغبة في معالجة موضوع القوانين التنظيمية للجماعات الترابية بالمغرب من الوصاية إلى الرقابة الإدارية. حيث نعتقد جازمين أن الرقابة الوصائية بما تحتله من مكانة وأهمية، وبما تنطوي عليه من روابط وعلاقات بين مختلف الفاعلين في منظومة الحكامة الترابية هي المتحكم والمحدد الأساسي لنجاح التنظيم الترابي اللامركزي والجهوي في المستقبل.
ومما يزيد من أهمية الموضوع في هذا الإطار، هو أن الوصاية على الجماعات المحلية تشكل المقابل الموضوعي لمفهوم الاستقلالية. وهما ركنان أساسيان في اللامركزية الإدارية الترابية ولا ينبغي التوقف عن التفكير فيهما، قصد الموازنة والملاءمة والتوفيق بينهما باستمرار. ولعل اتجاه المغرب نحو تبني اللامركزية المتطورة القائمة على أساس الجهوية المتقدمة، واعتبار تأهيل النظام الرقابي مرتكزا لها ودعامة أساسية من دعاماتها، يجعل من دراسة نظام الرقابة الوصائية على الجماعات الترابية بالمغرب في ضوء القوانين التنظيمية الجديدة ذات أهمية شديدة. هذا ولاشك أن الإشكاليات التي يطرحها موضوع الرقابة الوصائية على الجماعات الترابية بالمغرب ومتطلبات الملاءمة، تمتاز بالإضافة إلى طابعها النظري والفكري، بصبغتها العملية والواقعية، الشيء الذي يجعلها جديرة بالتفكير والمساءلة المتجددة.
وتتمحور الإشكالية الجوهرية في هذا الإطار حول ماهية مستجدات نظام الرقابة الوصائية على الجماعات الترابية بالمغرب؟ وما هي آفاق إصلاح هذا النظام الرقابي؟
ومما يزيد من أهمية الموضوع في هذا الإطار، هو أن الوصاية على الجماعات المحلية تشكل المقابل الموضوعي لمفهوم الاستقلالية. وهما ركنان أساسيان في اللامركزية الإدارية الترابية ولا ينبغي التوقف عن التفكير فيهما، قصد الموازنة والملاءمة والتوفيق بينهما باستمرار. ولعل اتجاه المغرب نحو تبني اللامركزية المتطورة القائمة على أساس الجهوية المتقدمة، واعتبار تأهيل النظام الرقابي مرتكزا لها ودعامة أساسية من دعاماتها، يجعل من دراسة نظام الرقابة الوصائية على الجماعات الترابية بالمغرب في ضوء القوانين التنظيمية الجديدة ذات أهمية شديدة. هذا ولاشك أن الإشكاليات التي يطرحها موضوع الرقابة الوصائية على الجماعات الترابية بالمغرب ومتطلبات الملاءمة، تمتاز بالإضافة إلى طابعها النظري والفكري، بصبغتها العملية والواقعية، الشيء الذي يجعلها جديرة بالتفكير والمساءلة المتجددة.
وتتمحور الإشكالية الجوهرية في هذا الإطار حول ماهية مستجدات نظام الرقابة الوصائية على الجماعات الترابية بالمغرب؟ وما هي آفاق إصلاح هذا النظام الرقابي؟
الفرع الأول: اختلالات منظومة الرقابة الإدارية على الجماعات الترابية
تعتبر الرقابة الإدارية على الجماعات الترابية من أهم العناصر البنيوية الهادفة إلى دفع حركة التنمية المحلية، وتحسين مستويات الأداء على المستوى الترابي. حيث أن تحقيق التقدم والتطور وتجويد الخدمات للساكنة المحلية، لا يتوقف على حداثة وجودة الإدارة اللامركزية الترابية فقط، بل رهين بمدى ملاءمة ومواءمة نظام الرقابة الإدارية الذي تنهجه الدولة على الهيئات المنتخبة لمتطلبات الحكامة الترابية. ويتوقف على كفاءة الأجهزة الرقابية والوصائية المحلية، في فهم واستيعاب الحاجيات والأهداف الحالية والمستقبلية للجماعات الترابية، ثم على كيفية تدخلها والمساهمة في تحويلها إلى إنجازات ملموسة على المستوى الواقعي والتطبيقي والممارستي. وإذا كانت منظومة الرقابة الإدارية على الجماعات الترابية تعتريها عيوب ومساوئ كثيرة ومتنوعة، فإن أبرز تلك العيوب وأكثرها وقعا وتأثيرا في الحياة المحلية، هي تضخم أجهزة الرقابة الإدارية على الجماعات الترابية (الفقرة الأولى)، ثم التدخلات المفرطة للرقابة الإدارية بالجماعات الترابية (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: تضخم أجهزة الرقابة الإدارية على الجماعات الترابية
لعل من أهم المآخذ والعيوب المسجلة على العديد من القوانين والأنظمة المتعلقة بالوحدات الترابية المنتخبة في الدول النامية بالخصوص -والمغرب من بينها- هو عدم وجود جهة واحدة تتولى مهمة الإشراف والرقابة الإدارية على المجالس المحلية المنتخبة . ولعله بالاطلاع عن مظاهر وتجليات الرقابة الإدارية والوصائية على الجماعات الترابية، يظهر بوضوح أن التعدد والتضخم غير المبرر لأجهزة الرقابة الإدارية، هو الخاصية الأساسية لهذا النمط الرقابي خاصة ما يتعلق منها بالجانب الوصائي. فالوصاية التي تفرضها الأجهزة المركزية على الجماعات الترابية، متعددة معقدة ومتنوعة الاتجاهات والمشارب. وإذا كانت المجالس المنتخبة بالجماعات الحضرية والقروية، التي هي مبدئيا أكثر حرية واستقلالية مقارنة بمجالس العمالات أو الأقاليم وبالمجالس الجهوية، فالرقابة الإدارية الممارسة عليها تعتبر متعددة الصور والوجوه والمجالات والميادين، وكثيرة هي الهيئات والجهات والمؤسسات والأجهزة الرقابية التي تمارسها .
بل الأكثر من ذلك كله، هو أنه حتى القوانين التنظيمية الجديدة التي صدرت لتنظيم الجماعات الترابية، تنفيذا لما جاء به الدستور الجديد بخصوص التنظيم الترابي للمملكة الذي أصبح قائما على الجهوية المتقدمة- لم تأت بأي جديد في مجال تعدد وتضخم أجهزة الرقابة الإدارية. وإنما عملت على تكريس رقابة بعض الأجهزة الإدارية بالتنصيص عليها بصريح العبارة بعد أن كانت النصوص السابقة قد تجاهلت ذلك بالمرة. ومن هنا تخضع العمليات المالية والمحاسبية للجماعات الترابية لتدقيق سنوي تنجزه إما بشكل منفرد أو بشكل مشترك كل من المفتشية العامة للمالية والمفتشية العامة للإدارة الترابية . وذلك حسب الظروف والأحوال وحسب نوع الجماعة الترابية المعنية، جهة كانت أو عمالة أو إقليم أو جماعة حضرية وقروية، مع العلم أن هذا التقسيم بين الجماعات الحضرية والقروية لم يعد موجودا في إطار القوانين التنظيمية الجديدة.
وكما تم التعرف على ذلك في السابق، فقد أسندت مهمة الرقابة الإدارية على الجماعات الترابية في المغرب -وبدرجة أولى- إلى وزارة الداخلية بصفتها الجهة الوصية ، وكذا إلى الوزارة المكلفة بالمالية في درجة ثانية، وذلك على مستوى ممارسة جزء من الوصاية المالية . وقد تم من أجل ذلك إحداث عدة أجهزة وهيأت إدارية ومالية متخصصة في الرقابة تابعة لتلك الوزارتين، كالمفتشية العامة للإدارة الترابية، والمفتشية العامة للمالية المحلية، التابعتين لوزارة الداخلية، والمفتشية العامة للمالية والخزينة العامة للمملكة التابعتين للوزارة المكلفة بالمالية. وكل تلك الأجهزة الرقابية تشتغل إلى جانب الرقابة الوصائية الأساسية المسندة إلى وزارة الداخلية، ممثلة في وزير الداخلية أو العمال والولاة حسب نوع الجماعة الترابية المعنية، وحسب أهمية الشأن الإداري أو المالي موضوع الرقابة الوصائية. هذا ناهيك عن الرقابة التي تمارسها الوزارة المكلفة بالمالية، من خلال المحاسبين العموميين المضطلعين بمسألة المراقبة المحاسبية للعمليات المالية أثناء التنفيذ المالي والميزانياتي.
إن أجهزة الرقابة الإدارية، وعلى الرغم من وجود هدف مشترك تسعى إلى تحقيقه، وهو حماية المصلحة العامة والحفاظ على المال العام المحلي وعقلنة تدبيره، بالإضافة إلى العمل على ضمان وحدة العمل الإداري على المستوى الترابي، فهي تمارس عملها بشكل مستقل عن بعضها البعض ولا يوجد أي تنسيق مسبق أو مخطط يقسم العمل الرقابي بينها. حيث تقوم بعض جهات المراقبة الإدارية بنفس العملية الرقابية على نفس التصرف أو الجهاز المحلي، أو بالأحرى الجماعة المحلية التي سبق وأن خضعت لذات الإجراء الرقابي. ولعل هذا الأمر نتيجة منطقية لعدم وجود أي مخطط أو برنامج أو تنسيق أو تعاون بين تلك الأجهزة الرقابية، حيث غياب أي مقتضى أو نص أو مادة قانونية تنظم عملية توحيد وتنسيق الأعمال التي تقوم بها تلك الأجهزة المختلفة التي تمارس الرقابة الإدارية. بل إن ذلك الأمر قد ازداد استفحالا وتفاقما أمام غياب أي خطة وطنية أو جهوية أو إقليمية أو جماعية أو حتى قطاعية (المالية مثلا) موحدة تتم وفقها عملية الرقابة الإدارية أو الوصائية على الجماعات الترابية بالمغرب.
ويعتبر حرص الدولة المغربية على وحدتها وعلى حماية الأموال العامة المحلية من سوء الاستعمال، وضمان صحة وسلامة العمليات الإدارية على المستوى المحلي، من الدوافع المعلنة لإحداث وسائل وآليات متعددة ومتنوعة لمراقبة الجماعات الترابية. ذلك من الناحية السياسية والنظرية، أما في الحقيقة وعلى المستوى الواقعي، فإن الأمر لا ينحصر في ذلك. حيث باستقراء دقيق لمختلف العوامل والمعطيات والظروف التي تحيط بالرقابة الإدارية على الجماعات الترابية يمكن التأكيد أن الحفاظ على المصلحة العامة، ليس هو السبب الوحيد الذي كان وراء تعدد المتدخلين في عمليات الرقابة الإدارية. فالأجهزة والمؤسسات والجهات الرقابية قد وصلت إلى حد كبير من التضخم، حيث التفريخ اللاعقلاني للهياكل ولأجهزة الرقابة الإدارية، لأسباب ودوافع أخرى. أبرزها تغييب البعد الاستراتيجي والتخطيطي المقصود حفاظا على المصالح والامتيازات التي يوفرها ذلك التضخم والاختلال أو الانحراف الرقابي لبعض المسؤولين محليا ومركزيا.
ولعل هذا الأمر المتعلق بالتضخم والإحداث اللاعقلاني للهياكل والأجهزة الرقابية، يبدو واضحا، يؤكده الواقع، وليس من باب المبالغة. حيث يظهر من خلال جميع الإجراءات والتدابير التي تمت منذ الاستقلال، قصد ترسيخ وتثبيت النظام الرقابي الممارس على الجماعات الترابية، خاصة في شقه الإداري، ويظهر كذلك من خلال منهجية الإصلاح التي تم إتباعها وتنفيذها منذ تلك الفترة قصد تجاوز مظاهر قصور وعدم ملاءمة المنظومة الرقابية مع متطلبات التدبير الحر للوحدات المحلية المنتخبة، خاصة ما يتعلق منها بالرقابة الوصائية أو ما يسمى بالرقابة الإدارية حسب القوانين التنظيمية الجديدة للجماعات الترابية.
ويعتبر هذا التعدد والتضخم في الهياكل والأجهزة الرقابية، من أهم وأبرز المعطيات السلبية والمعيقات البنيوية التي تنطوي عليها منظومة الوصاية والرقابة الإدارية بصفة عامة. وذلك نظرا لما تشكله مسألة التعدد والتضخم من مس بفعالية وجودة ونجاعة العمليات الرقابية في حد ذاتها. حيث نتيجة للتداخل والازدواجية غير المجدية ولا المبررة في المهام والاختصاصات الرقابية ، أصبحت كثيرة ومتعددة، بل ومتنوعة هي التأثيرات والمخلفات والتداعيات السلبية للرقابة الإدارية على التنمية المحلية.
تعتبر الرقابة الإدارية على الجماعات الترابية من أهم العناصر البنيوية الهادفة إلى دفع حركة التنمية المحلية، وتحسين مستويات الأداء على المستوى الترابي. حيث أن تحقيق التقدم والتطور وتجويد الخدمات للساكنة المحلية، لا يتوقف على حداثة وجودة الإدارة اللامركزية الترابية فقط، بل رهين بمدى ملاءمة ومواءمة نظام الرقابة الإدارية الذي تنهجه الدولة على الهيئات المنتخبة لمتطلبات الحكامة الترابية. ويتوقف على كفاءة الأجهزة الرقابية والوصائية المحلية، في فهم واستيعاب الحاجيات والأهداف الحالية والمستقبلية للجماعات الترابية، ثم على كيفية تدخلها والمساهمة في تحويلها إلى إنجازات ملموسة على المستوى الواقعي والتطبيقي والممارستي. وإذا كانت منظومة الرقابة الإدارية على الجماعات الترابية تعتريها عيوب ومساوئ كثيرة ومتنوعة، فإن أبرز تلك العيوب وأكثرها وقعا وتأثيرا في الحياة المحلية، هي تضخم أجهزة الرقابة الإدارية على الجماعات الترابية (الفقرة الأولى)، ثم التدخلات المفرطة للرقابة الإدارية بالجماعات الترابية (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: تضخم أجهزة الرقابة الإدارية على الجماعات الترابية
لعل من أهم المآخذ والعيوب المسجلة على العديد من القوانين والأنظمة المتعلقة بالوحدات الترابية المنتخبة في الدول النامية بالخصوص -والمغرب من بينها- هو عدم وجود جهة واحدة تتولى مهمة الإشراف والرقابة الإدارية على المجالس المحلية المنتخبة . ولعله بالاطلاع عن مظاهر وتجليات الرقابة الإدارية والوصائية على الجماعات الترابية، يظهر بوضوح أن التعدد والتضخم غير المبرر لأجهزة الرقابة الإدارية، هو الخاصية الأساسية لهذا النمط الرقابي خاصة ما يتعلق منها بالجانب الوصائي. فالوصاية التي تفرضها الأجهزة المركزية على الجماعات الترابية، متعددة معقدة ومتنوعة الاتجاهات والمشارب. وإذا كانت المجالس المنتخبة بالجماعات الحضرية والقروية، التي هي مبدئيا أكثر حرية واستقلالية مقارنة بمجالس العمالات أو الأقاليم وبالمجالس الجهوية، فالرقابة الإدارية الممارسة عليها تعتبر متعددة الصور والوجوه والمجالات والميادين، وكثيرة هي الهيئات والجهات والمؤسسات والأجهزة الرقابية التي تمارسها .
بل الأكثر من ذلك كله، هو أنه حتى القوانين التنظيمية الجديدة التي صدرت لتنظيم الجماعات الترابية، تنفيذا لما جاء به الدستور الجديد بخصوص التنظيم الترابي للمملكة الذي أصبح قائما على الجهوية المتقدمة- لم تأت بأي جديد في مجال تعدد وتضخم أجهزة الرقابة الإدارية. وإنما عملت على تكريس رقابة بعض الأجهزة الإدارية بالتنصيص عليها بصريح العبارة بعد أن كانت النصوص السابقة قد تجاهلت ذلك بالمرة. ومن هنا تخضع العمليات المالية والمحاسبية للجماعات الترابية لتدقيق سنوي تنجزه إما بشكل منفرد أو بشكل مشترك كل من المفتشية العامة للمالية والمفتشية العامة للإدارة الترابية . وذلك حسب الظروف والأحوال وحسب نوع الجماعة الترابية المعنية، جهة كانت أو عمالة أو إقليم أو جماعة حضرية وقروية، مع العلم أن هذا التقسيم بين الجماعات الحضرية والقروية لم يعد موجودا في إطار القوانين التنظيمية الجديدة.
وكما تم التعرف على ذلك في السابق، فقد أسندت مهمة الرقابة الإدارية على الجماعات الترابية في المغرب -وبدرجة أولى- إلى وزارة الداخلية بصفتها الجهة الوصية ، وكذا إلى الوزارة المكلفة بالمالية في درجة ثانية، وذلك على مستوى ممارسة جزء من الوصاية المالية . وقد تم من أجل ذلك إحداث عدة أجهزة وهيأت إدارية ومالية متخصصة في الرقابة تابعة لتلك الوزارتين، كالمفتشية العامة للإدارة الترابية، والمفتشية العامة للمالية المحلية، التابعتين لوزارة الداخلية، والمفتشية العامة للمالية والخزينة العامة للمملكة التابعتين للوزارة المكلفة بالمالية. وكل تلك الأجهزة الرقابية تشتغل إلى جانب الرقابة الوصائية الأساسية المسندة إلى وزارة الداخلية، ممثلة في وزير الداخلية أو العمال والولاة حسب نوع الجماعة الترابية المعنية، وحسب أهمية الشأن الإداري أو المالي موضوع الرقابة الوصائية. هذا ناهيك عن الرقابة التي تمارسها الوزارة المكلفة بالمالية، من خلال المحاسبين العموميين المضطلعين بمسألة المراقبة المحاسبية للعمليات المالية أثناء التنفيذ المالي والميزانياتي.
إن أجهزة الرقابة الإدارية، وعلى الرغم من وجود هدف مشترك تسعى إلى تحقيقه، وهو حماية المصلحة العامة والحفاظ على المال العام المحلي وعقلنة تدبيره، بالإضافة إلى العمل على ضمان وحدة العمل الإداري على المستوى الترابي، فهي تمارس عملها بشكل مستقل عن بعضها البعض ولا يوجد أي تنسيق مسبق أو مخطط يقسم العمل الرقابي بينها. حيث تقوم بعض جهات المراقبة الإدارية بنفس العملية الرقابية على نفس التصرف أو الجهاز المحلي، أو بالأحرى الجماعة المحلية التي سبق وأن خضعت لذات الإجراء الرقابي. ولعل هذا الأمر نتيجة منطقية لعدم وجود أي مخطط أو برنامج أو تنسيق أو تعاون بين تلك الأجهزة الرقابية، حيث غياب أي مقتضى أو نص أو مادة قانونية تنظم عملية توحيد وتنسيق الأعمال التي تقوم بها تلك الأجهزة المختلفة التي تمارس الرقابة الإدارية. بل إن ذلك الأمر قد ازداد استفحالا وتفاقما أمام غياب أي خطة وطنية أو جهوية أو إقليمية أو جماعية أو حتى قطاعية (المالية مثلا) موحدة تتم وفقها عملية الرقابة الإدارية أو الوصائية على الجماعات الترابية بالمغرب.
ويعتبر حرص الدولة المغربية على وحدتها وعلى حماية الأموال العامة المحلية من سوء الاستعمال، وضمان صحة وسلامة العمليات الإدارية على المستوى المحلي، من الدوافع المعلنة لإحداث وسائل وآليات متعددة ومتنوعة لمراقبة الجماعات الترابية. ذلك من الناحية السياسية والنظرية، أما في الحقيقة وعلى المستوى الواقعي، فإن الأمر لا ينحصر في ذلك. حيث باستقراء دقيق لمختلف العوامل والمعطيات والظروف التي تحيط بالرقابة الإدارية على الجماعات الترابية يمكن التأكيد أن الحفاظ على المصلحة العامة، ليس هو السبب الوحيد الذي كان وراء تعدد المتدخلين في عمليات الرقابة الإدارية. فالأجهزة والمؤسسات والجهات الرقابية قد وصلت إلى حد كبير من التضخم، حيث التفريخ اللاعقلاني للهياكل ولأجهزة الرقابة الإدارية، لأسباب ودوافع أخرى. أبرزها تغييب البعد الاستراتيجي والتخطيطي المقصود حفاظا على المصالح والامتيازات التي يوفرها ذلك التضخم والاختلال أو الانحراف الرقابي لبعض المسؤولين محليا ومركزيا.
ولعل هذا الأمر المتعلق بالتضخم والإحداث اللاعقلاني للهياكل والأجهزة الرقابية، يبدو واضحا، يؤكده الواقع، وليس من باب المبالغة. حيث يظهر من خلال جميع الإجراءات والتدابير التي تمت منذ الاستقلال، قصد ترسيخ وتثبيت النظام الرقابي الممارس على الجماعات الترابية، خاصة في شقه الإداري، ويظهر كذلك من خلال منهجية الإصلاح التي تم إتباعها وتنفيذها منذ تلك الفترة قصد تجاوز مظاهر قصور وعدم ملاءمة المنظومة الرقابية مع متطلبات التدبير الحر للوحدات المحلية المنتخبة، خاصة ما يتعلق منها بالرقابة الوصائية أو ما يسمى بالرقابة الإدارية حسب القوانين التنظيمية الجديدة للجماعات الترابية.
ويعتبر هذا التعدد والتضخم في الهياكل والأجهزة الرقابية، من أهم وأبرز المعطيات السلبية والمعيقات البنيوية التي تنطوي عليها منظومة الوصاية والرقابة الإدارية بصفة عامة. وذلك نظرا لما تشكله مسألة التعدد والتضخم من مس بفعالية وجودة ونجاعة العمليات الرقابية في حد ذاتها. حيث نتيجة للتداخل والازدواجية غير المجدية ولا المبررة في المهام والاختصاصات الرقابية ، أصبحت كثيرة ومتعددة، بل ومتنوعة هي التأثيرات والمخلفات والتداعيات السلبية للرقابة الإدارية على التنمية المحلية.
وهكذا -على سبيل الذكر والمثال لا الحصر- إذا كان تدبير الميزانيات السنوية للجماعات الترابية، يعتبر أهم الأعمال المالية المسندة للهيئات المنتخبة في تدبير التنمية المحلية ، أو بالأحرى أهم الوظائف والاختصاصات التي تقوم بها الوحدات المحلية المنتخبة، في إطار سلطاتها وصلاحياتها المختلفة، فإن جميع أجهزة المراقبة الإدارية تمارس رقابتها على تلك الميزانيات، بل منها ما يتدخل في جميع مراحلها من الإعداد إلى التصفية. علما أن هناك بعضا من أجهزة الرقابة الإدارية التي تمارس نفس العملية الرقابية، على نفس الإجراء أو العملية المالية، الأمر الذي يطرح مسألة الجودة والجدوى من إيجاد تلك الرقابات المتكررة وتعدد المتدخلين في الممارسة الرقابية الواحدة. وكمثال على ذلك بالتحديد، توجد جهة إدارية للرقابة تم إحداثها من قبل وزارة الداخلية بمقتضى دورية لا قيمة لها من الناحية القانونية، وتمارس رقابة إدارية صارمة ومتكررة على الجماعات الترابية. ولا شك أنها لن تؤثر سلبا في حالة الاستغناء عنها، ولن تكون لها أهمية تذكر، وذلك نظرا لكون تلك الاختصاصات التي تمارسها قد أسندت إلى هيآت أخرى أكثر منها مشروعية ومأسسة من الناحية القانونية والتنظيمية.
ويتعلق الأمر هنا بالمفتشية العامة للمالية المحلية، التي أسندت لها مهام متخصصة نوعا ما في الرقابة المالية على الجماعات الترابية . حيث يقتصر دورها الرقابي على الشؤون المالية فقط، دون باقي الأنشطة الأخرى (الشؤون الإدارية)، وهي منظمة بتلك الدورية الوحيدة الصادرة عن وزير الداخلية بتاريخ 10 دجنبر 1993 . أما صلاحياتها بالتحديد فهي ضبط المحاسبة المالية والمادية للجماعات الترابية، ثم مراجعة وتصحيح الضرائب والرسوم ونسب التحصيل . إلى جانب قيامها بحملات تفتيشية تلقائية ومفاجئة للأجهزة المحلية، حيث تحرر محضرا بذلك، وتبعث نسخة منه إلى العامل أو الوالي الذي تقع الجماعة الترابية المعنية في نطاق نفوذه الترابي، قصد التدخل لاتخاذ التدابير اللازمة .
إن الاختصاصات الرقابية الموكولة إلى المفتشية العامة للمالية المحلية، تقوم بها -من الناحية المبدئية وبشكل شمولي- جميع الجهات الرقابية الأخرى. بل تعتبر من صميم صلاحيات واختصاصات المفتشية العامة للمالية التابعة للوزارة المكلفة بالمالية، خاصة ما يتعلق بمسألة القيام بالحملات التفتيشية التلقائية والمفاجئة، وتحرير محاضر بذلك. فالمفتشية العامة للمالية تتمتع بسلطة تفتيش واسعة تشمل مراقبة مصالح الصندوق والمحاسبة وغيرها، وتقوم بممارسة صلاحياتها على شكل دوريات مفاجئة تسجل نتائجها في محاضر قانونية . ويتوج ذلك بتحرير تقارير تبلغ إلى جميع المعنيين بالأمر، قصد الإدلاء بالتوضيحات والأجوبة بخصوصها.
ولا شك أن تلك الوظيفة الرقابية، بما تنطوي عليه من تدقيق وافتحاص لها أهميتها الكبرى في تحقيق الأهداف الرقابية أكثر من الوظيفة التي تؤديها المفتشية العامة للمالية المحلية. حيث حماية المشروعية والتطبيق السليم للقانون بخصوص العمليات المالية. وعليه تحتل تلك التقارير المعدة من قبل المفتشين المعنيين بالأمر أهمية بالغة سواء من حيث مضمونها أو من حيث آثارها، فهي تعكس الكيفية التي تم بها تنفيذ الميزانية المحلية بشكل دقيق ، وهي تتم بطريقة أكثر خبرة ودقة وشمولية من التي تجريها الجهة الرقابية الأخرى.
وهكذا يمكن القول بنوع من الثقة والتأكيد أن المفتشية العامة للمالية المحلية التي تم إحداثها من قبل وزارة الداخلية، تعتبر أبرز دليل على وجود عشوائية وارتجالية وعبثية، وتضخم غير مجد ولا مبرر في أجهزة الوصاية والرقابة الإدارية بصفة عامة. بل يمكن القول أن الاختصاصات الرقابية التي تمارسها تعسفية من حيث الأساس القانوني، حيث لا يعقل في ميزان المشروعية أن تعطى للمفتشية العامة للمالية المحلية -بمقتضى دورية لا قيمة لها من الناحية القانونية- كل تلك الاختصاصات والصلاحيات الرقابية بخصوص الجماعات الترابية التي تعتبر أشخاصا معنوية عامة محدثة بمقتضى الدستور ونتيجة لنهج أسلوب اللامركزية الترابية.
لقد أدى غياب أي تخطيط محكم وعقلاني لإحداث أجهزة الرقابة الإدارية للدولة على الجماعات الترابية، إلى اتسام المنظومة الرقابية الحالية بالتضخم والتضاعف غير المبرر، وبالتقريبية أو التماثل في الاختصاصات الموكولة لها. وتلك الأجهزة الرقابية نتيجة لذلك، لا تستجيب لمواصفات ومتطلبات الترشيد والعقلنة، ولا تحمل في طياتها المؤشرات والشروط التي تضمن الجودة والحكامة في المراقبة. فهناك من الأجهزة الرقابية خاصة تلك التابعة لوزارة الداخلية (كالمفتشية العامة للإدارة الترابية)، ما هو غير مبرر إطلاقا من الناحية العملية والممارساتية، لكون معظم مهامها أو بعضها تمارس من قبل جهات وهيئات رقابية أخرى، والتي هي أكثر منها تخصصا واتقانا للعمليات الرقابية. ومن ثم لا يمكن أن يكون وجودها إلا تبذيرا للمال العام المحلي وإهدارا للزمن التنموي، وضياعا لمصالح المواطنين.
ولعل الأدهى والأمر من كل ما سبق، هو أن القوانين التنظيمية الجديدة للجماعات الترابية قد حملت هي الأخرى نفس المنطق الرقابي، بخصوص كثرة وتضخم وتعدد الأجهزة الرقابية. فرغم كون تلك النصوص القانونية قد جاءت بمستجدات في الرقابة الإدارية متقدمة نسبيا، مقارنة مع القوانين التي سبقتها، فإنها تشتمل نقائص وثغرات كثيرة نأمل أن يتم تداركها في المستقبل القريب. لاسيما ما يتعلق منها بالإقرار الضمني لمسألة تضخم وتعدد الأجهزة الممارسة للرقابة الإدارية نتيجة تجاهل التنصيص على ضرورة تقليص تلك الأجهزة الرقابية. فالأمر يتعلق هنا بتنظيم وتأطير للتنظيم الترابي الجديد الذي يقوم على الجهوية المتقدمة واللامركزية المتطورة، وعلى هذا الأساس لا يصح ولا يعقل ولا يستساغ أن يتم الإبقاء على ظاهرة التضخم الرقابي السلبية.
وعموما، يمكن القول أن مسألة التضخم والكثرة في أجهزة الرقابة الإدارية على الجماعات الترابية وتعددها بالمغرب، مسألة جد سلبية. وتؤدي إلى ضياع الهدف من الرقابة، الذي هو ضمان فعالية تدخلات الجماعات الترابية، والحفاظ على المال العام المحلي من جميع التصرفات والسلوكيات المشينة. فإلى جانب هدر الزمن التنموي المحلي بفعل تعقد وتضخم المسألة الرقابية، هناك مسألة أخرى تتعلق بتحميل بعض تلك الأجهزة المسؤولية عن التقصير في الواجب للبعض الآخر، وبالتالي يحصل التضارب والتعارض والتنازع والتخبط حول من يجب محاسبته من الأجهزة الرقابية في حالة الفشل. ومن هنا نؤكد أن العبرة -كما يقال- ليست بكثرة الأجهزة والوسائل الرقابية واتساع رقعة الوصاية، وإنما بمدى نجاعة وفعالية المنظومة الرقابية في الذود عن المصلحة العامة وعن الحكامة والنجاعة.
ويتعلق الأمر هنا بالمفتشية العامة للمالية المحلية، التي أسندت لها مهام متخصصة نوعا ما في الرقابة المالية على الجماعات الترابية . حيث يقتصر دورها الرقابي على الشؤون المالية فقط، دون باقي الأنشطة الأخرى (الشؤون الإدارية)، وهي منظمة بتلك الدورية الوحيدة الصادرة عن وزير الداخلية بتاريخ 10 دجنبر 1993 . أما صلاحياتها بالتحديد فهي ضبط المحاسبة المالية والمادية للجماعات الترابية، ثم مراجعة وتصحيح الضرائب والرسوم ونسب التحصيل . إلى جانب قيامها بحملات تفتيشية تلقائية ومفاجئة للأجهزة المحلية، حيث تحرر محضرا بذلك، وتبعث نسخة منه إلى العامل أو الوالي الذي تقع الجماعة الترابية المعنية في نطاق نفوذه الترابي، قصد التدخل لاتخاذ التدابير اللازمة .
إن الاختصاصات الرقابية الموكولة إلى المفتشية العامة للمالية المحلية، تقوم بها -من الناحية المبدئية وبشكل شمولي- جميع الجهات الرقابية الأخرى. بل تعتبر من صميم صلاحيات واختصاصات المفتشية العامة للمالية التابعة للوزارة المكلفة بالمالية، خاصة ما يتعلق بمسألة القيام بالحملات التفتيشية التلقائية والمفاجئة، وتحرير محاضر بذلك. فالمفتشية العامة للمالية تتمتع بسلطة تفتيش واسعة تشمل مراقبة مصالح الصندوق والمحاسبة وغيرها، وتقوم بممارسة صلاحياتها على شكل دوريات مفاجئة تسجل نتائجها في محاضر قانونية . ويتوج ذلك بتحرير تقارير تبلغ إلى جميع المعنيين بالأمر، قصد الإدلاء بالتوضيحات والأجوبة بخصوصها.
ولا شك أن تلك الوظيفة الرقابية، بما تنطوي عليه من تدقيق وافتحاص لها أهميتها الكبرى في تحقيق الأهداف الرقابية أكثر من الوظيفة التي تؤديها المفتشية العامة للمالية المحلية. حيث حماية المشروعية والتطبيق السليم للقانون بخصوص العمليات المالية. وعليه تحتل تلك التقارير المعدة من قبل المفتشين المعنيين بالأمر أهمية بالغة سواء من حيث مضمونها أو من حيث آثارها، فهي تعكس الكيفية التي تم بها تنفيذ الميزانية المحلية بشكل دقيق ، وهي تتم بطريقة أكثر خبرة ودقة وشمولية من التي تجريها الجهة الرقابية الأخرى.
وهكذا يمكن القول بنوع من الثقة والتأكيد أن المفتشية العامة للمالية المحلية التي تم إحداثها من قبل وزارة الداخلية، تعتبر أبرز دليل على وجود عشوائية وارتجالية وعبثية، وتضخم غير مجد ولا مبرر في أجهزة الوصاية والرقابة الإدارية بصفة عامة. بل يمكن القول أن الاختصاصات الرقابية التي تمارسها تعسفية من حيث الأساس القانوني، حيث لا يعقل في ميزان المشروعية أن تعطى للمفتشية العامة للمالية المحلية -بمقتضى دورية لا قيمة لها من الناحية القانونية- كل تلك الاختصاصات والصلاحيات الرقابية بخصوص الجماعات الترابية التي تعتبر أشخاصا معنوية عامة محدثة بمقتضى الدستور ونتيجة لنهج أسلوب اللامركزية الترابية.
لقد أدى غياب أي تخطيط محكم وعقلاني لإحداث أجهزة الرقابة الإدارية للدولة على الجماعات الترابية، إلى اتسام المنظومة الرقابية الحالية بالتضخم والتضاعف غير المبرر، وبالتقريبية أو التماثل في الاختصاصات الموكولة لها. وتلك الأجهزة الرقابية نتيجة لذلك، لا تستجيب لمواصفات ومتطلبات الترشيد والعقلنة، ولا تحمل في طياتها المؤشرات والشروط التي تضمن الجودة والحكامة في المراقبة. فهناك من الأجهزة الرقابية خاصة تلك التابعة لوزارة الداخلية (كالمفتشية العامة للإدارة الترابية)، ما هو غير مبرر إطلاقا من الناحية العملية والممارساتية، لكون معظم مهامها أو بعضها تمارس من قبل جهات وهيئات رقابية أخرى، والتي هي أكثر منها تخصصا واتقانا للعمليات الرقابية. ومن ثم لا يمكن أن يكون وجودها إلا تبذيرا للمال العام المحلي وإهدارا للزمن التنموي، وضياعا لمصالح المواطنين.
ولعل الأدهى والأمر من كل ما سبق، هو أن القوانين التنظيمية الجديدة للجماعات الترابية قد حملت هي الأخرى نفس المنطق الرقابي، بخصوص كثرة وتضخم وتعدد الأجهزة الرقابية. فرغم كون تلك النصوص القانونية قد جاءت بمستجدات في الرقابة الإدارية متقدمة نسبيا، مقارنة مع القوانين التي سبقتها، فإنها تشتمل نقائص وثغرات كثيرة نأمل أن يتم تداركها في المستقبل القريب. لاسيما ما يتعلق منها بالإقرار الضمني لمسألة تضخم وتعدد الأجهزة الممارسة للرقابة الإدارية نتيجة تجاهل التنصيص على ضرورة تقليص تلك الأجهزة الرقابية. فالأمر يتعلق هنا بتنظيم وتأطير للتنظيم الترابي الجديد الذي يقوم على الجهوية المتقدمة واللامركزية المتطورة، وعلى هذا الأساس لا يصح ولا يعقل ولا يستساغ أن يتم الإبقاء على ظاهرة التضخم الرقابي السلبية.
وعموما، يمكن القول أن مسألة التضخم والكثرة في أجهزة الرقابة الإدارية على الجماعات الترابية وتعددها بالمغرب، مسألة جد سلبية. وتؤدي إلى ضياع الهدف من الرقابة، الذي هو ضمان فعالية تدخلات الجماعات الترابية، والحفاظ على المال العام المحلي من جميع التصرفات والسلوكيات المشينة. فإلى جانب هدر الزمن التنموي المحلي بفعل تعقد وتضخم المسألة الرقابية، هناك مسألة أخرى تتعلق بتحميل بعض تلك الأجهزة المسؤولية عن التقصير في الواجب للبعض الآخر، وبالتالي يحصل التضارب والتعارض والتنازع والتخبط حول من يجب محاسبته من الأجهزة الرقابية في حالة الفشل. ومن هنا نؤكد أن العبرة -كما يقال- ليست بكثرة الأجهزة والوسائل الرقابية واتساع رقعة الوصاية، وإنما بمدى نجاعة وفعالية المنظومة الرقابية في الذود عن المصلحة العامة وعن الحكامة والنجاعة.
الفقرة الثانية: التدخلات المفرطة للرقابة الإدارية بالجماعات الترابية
الشدة والمغالاة، الصرامة والمبالغة، السيطرة والكثافة، الإفراط والتسلط، الثقل والهيمنة، التحكم والتجاوز، الشطط والغلو، الإسراف والتعسف، كلها مفاهيم وثنائيات تتعلق بالرقابة الإدارية على الجماعات الترابية بالمغرب، وما فتئ الحديث عن تدخلات السلطة المركزية في شؤون الوحدات المحلية المنتخبة يتخبط فيها. بل تشكل هذه المصطلحات بمعانيها ودلالاتها وأبعادها المختلفة الخاصية الأساسية التي تتميز بها الرقابة الإدارية، كما يجمع على ذلك معظم الدارسين والباحثين والمهتمين بالشأن العام المحلي. ولعل هذا الوصف ينطبق على كلا الرقابتين -وإن بنسب مختلفة- سواء تلك التي تمارسها سلطات الإشراف ممثلة في وزارة الداخلية بالخصوص، أو الرقابة التي تمارسها الوزارة المكلفة بالمالية. حيث إذا كانت الأولى تتكلف بتأمين مراقبة العمليات والشؤون الإدارية مع جانب من الشؤون المالية، وتتدخل من أجل ذلك في دقائق الأمور وتفاصيلها، فإن الثانية ونظرا لطبيعة مهامها وصلاحياتها، تختص بمراقبة جميع العمليات المحاسبية ومختلف الشؤون المالية للجماعات الترابية .
ولقد تبين من التعرف على مختلف التمظهرات والتجليات الرقابية ذات الطابع الإداري الممارسة على الجماعات الترابية بالمغرب، وجود رقابة صارمة على المشروعية، إن على المستوى المالي أو على المستوى الإداري خاصة في شقها المتعلق بالأشخاص . بل تمتد سلطات الوصاية برقابتها إلى التدخل في مدى ملاءمة قرارات وتصرفات الأجهزة والهيئات المحلية المنتخبة لاعتباراتها المختلفة والمتعددة . ولا مظنة هنا، أن تلك التدخلات المتنوعة لأجهزة الرقابة الإدارية تمثل انحرافا وتعديا واضحا على فلسفة وسياسة اللامركزية الإدارية الترابية، والتي تقوم على مبدأ "لا وصاية إلا بنص"، مع عدم التوسع في تفسير وتأويل ذلك النص. كما تشكل أحيانا اعتداء صارخا على مبدأ "المبادرة"، فهذا المبدأ إذا كان لابد أن يكون مقرونا بالإشراف والوصاية في إطار اللامركزية الإدارية الترابية، فإنه لا يتيح للدولة أي سلطة على أعمال وتصرفات الجماعات المحلية بخصوص الملاءمة. وذلك حفاظا على استقلاليتها، وعلى ماهية وكينونة اللامركزية الإدارية الترابية كما هو متعارف عليها.
ولعل نفس الخطوط العريضة للرقابة الإدارية، ونفس المكونات الرقابية حافظت عليها القوانين التنظيمية الجديدة للجماعات الترابية. فرغم كونها جاءت ببعض الإصلاحات هنا وهناك من قبيل إشراك القضاء الإداري في العديد من تمظهرات الرقابة الوصائية -خاصة ما يتعلق بمجال تأديب المنتخبين فرادى أو بشكل جماعي- فإن جل إن لم يكن كل عناصر ومكونات الرقابة الوصائية قد تم الاحتفاظ بها، (الحل، التوقيف، العزل، الحلول...). ومن هنا لا يمكن القول أن القوانين التنظيمية قد تجاوزت التدخلات المفرطة للرقابة الإدارية في شؤون الجماعات الترابية. وبالخصوص عندما ستصطدم أكثر بالواقع العملي والتطبيقي، حيث الفجوة البنيوية العميقة بين الخطاب والقانون والممارسة تستمر في الاتساع.
إن التدخلات المفرطة للرقابة الإدارية في شؤون الجماعات الترابية لا تحتاج إلى شرح وتوضيح، فهي بادية للعيان على جميع الأصعدة والمستويات ولا ريب فيها . ولعل المتأمل بداية في النصوص التشريعية والتنظيمية المؤطرة للجماعات الترابية بالمغرب، وما جاءت به من صيغ عامة وفضفاضة ، لا يمكنه إلا أن يخرج بنتيجة مفادها أن هناك سلطات واسعة خولتها القوانين المختلفة لسلطات الإشراف والوصاية على الوحدات المحلية المنتخبة أشخاصا وأعمالا. حيث تبدو سلطة راجحة ومسيطرة في جميع الحالات، ولا نكون مبالغين إذا قلنا -وخلافا للأصل- أنها هي التي تدير مشاريع التنمية على المستوى المحلي، وهي التي تتحكم في أوراشها إعدادا وتنفيذا ورقابة. فالهيئات المنتخبة -على سبيل المثال- يصعب عليها أن تقوم بتمرير أي قرار أو مشروع تنموي دون موافقة سلطات الوصاية، ويكاد يكون ذلك مستحيلا أحيانا. في حين تتمتع سلطات الوصاية -وبالخصوص وزارة الداخلية- على العديد من الوسائل والآليات والطرق التي تمكنها من تنفيذ رغباتها ومشاريعها، وذلك حتى دون موافقة الهيئات المنتخبة نفسها.
وكما هو معلوم في هذا الصدد، تتوزع الرقابة الوصائية بين الجانب الإداري والمالي للجماعات الترابية، وتشمل الوصاية على الشؤون الإدارية، الأشخاص، سواء بصفتهم الفردية أو الجماعية. في حين تشمل الوصاية على الأعمال جميع التصرفات الصادرة عن الوحدات اللامركزية، سواء كانت صادرة عن مجالس الجماعات الترابية أو تلك الصادرة عن رؤسائها. أما المراقبة الإدارية للشؤون المالية بالجماعات الترابية، فهي لا تقل عن نضيرتها شدة وصرامة ، حيث تنصب على جميع المعاملات المالية وبالأساس على الميزانية، بدء بالتحضير ومرورا بالاعتماد وليس انتهاء بالتنفيذ. أو بعبارة أخرى واعتمادا على معيار الزمن الذي تمارس فيه تلك الأنماط الرقابية، فإنها تتراوح بين الرقابة القبلية والرقابة المواكبة ثم الرقابة البعدية أو التقييمية. ومن هنا تتميز الرقابة الإدارية على الجماعات الترابية في المجال المالي بقوتها وكثافتها، مما يمنحها تأثيرا كبيرا على الخيارات المالية للمجالس المنتخبة. فتدخل سلطات الوصاية في الشؤون المالية للجماعات الترابية لا ينتهي عند إعداد الميزانية المحلية ولا عند المصادقة عليها، وإنما يتجاوز ذلك ليتركز في مرحلة تنفيذ تلك الميزانية وبعد التنفيذ أيضا .
وإذا كانت القوانين التنظيمية الجديدة للجماعات الترابية، قد جاءت ببعض المقتضيات الإصلاحية التي قد يكون من شأنها التخفيف من الرقابة الوصائية عموما، فإنها في المقابل حافظت على العديد من الاختصاصات والصلاحيات والسلطات الرقابية ذات الصبغة الإدارية، خاصة ما يتعلق بالرقابة على الشؤون المالية للجماعات الترابية. بل يمكن القول أن القوانين التنظيمية الجديدة قد وسعت بشكل غير مسبوق من نفوذ وزارة الداخلية، أو ما يسمى بالسلطة الحكومية المكلفة بالداخلية أو ممثليها الولاة والعمال -حسب نوع الجماعة الترابية المعنية بالرقابة الوصائية- خاصة في بعض المجالات. حيث أصبحت، نتيجة الصيغ الغامضة والفضفاضة التي تم إدراجها بشكل متعمد، تتحكم بسلاسة متناهية في الشؤون المالية المحلية عبر آلية التأشير على ميزانيات الجماعات الترابية ، وكذا من خلال آلية المراقبة القبلية لشرعية قرارات الرؤساء ومقررات المجالس المحلية المنتخبة.
وذلك فضلا عن إمكانية إدراج كل مسالة تريدها سلطات الوصاية بجداول أعمال دورات مجالس الجماعات الترابية. وحقها في الاعتراض على كل مسألة أدرجت بتلك الجداول، سواء من قبل الرؤساء أو أعضاء المكاتب أو أعضاء المجالس. ورغم أن الرقابة على شرعية مقررات وقرارات المجالس وعزل أعضائها تظل من اختصاص القضاء الإداري كسلطة مشرفة، إلا أن هذا الإجراء قد لا يمثل حصانة ضد انحراف السلطة من طرف ما يسمى بالسلطة الحكومية المكلفة بالداخلية، سيما في ظل استمرار تواجد نخب محلية غير مؤهلة وضعيفة ومعظمها لا يصلح للعمل السياسي لا من حيث المستوى التعليمي ولا من حيث الكفاءات ولا حتى من حيث الأخلاق.
ولعله يعتبر من نافل القول التأكيد على أن التخفيف من سلطات الوصاية وإصلاح الرقابة الوصائية، ليس بتغيير المصطلحات والمفاهيم كتغيير مصطلح الوصاية بالرقابة الإدارية، وتعويض مفهوم وزارة الداخلية بمفهوم السلطة الحكومية المكلفة بالداخلية من الناحية الشكلية مع الاحتفاظ بنفس الآليات والميكانزمات الوصائية، كما فعلت القوانين التنظيمية، وإنما التخفيف والإصلاح الحقيقي للرقابة الوصائية يتمثل في تقليص الممارسات الوصائية إلى الحد الأدنى. أو بعبارة أخرى يجب الاحتفاظ بأقل ما يمكن من تدخل الدولة -خاصة فيما يتعلق بالجانب المالي- حيث التعبير الحقيقي عن مبدأ المبادرة والتكريس الواقعي للشخصية المعنوية للجماعات الترابية.
وعلى صعيد متصل، وإذا كانت النصوص القانونية قد كرست التدخلات المفرطة للرقابة الإدارية في شؤون الجماعات الترابية، فإن تلك التدخلات على مستوى الواقع والممارسة ستكون أدهى وأمر، وأكثر ثقلا وصرامة وتأثيرا على استقلالية الجماعات المحلية . فحضور سلطات الوصاية بشكل يشوه مفهوم اللامركزية الإدارية الترابية ذات البعد الديمقراطي والتنموي، سمة أساسية في التجربة المغربية. بل أحيانا تحت مسمى الرقابة الإدارية وحماية المصلحة العامة، يتدخل ممثلو سلطات الوصاية حتى في الاختصاصات غير المراقبة للهيئات المنتخبة، ويكون ذلك بصفة خاصة إثر ممارسة سلطات الحلول المخولة لهم بمقتضى القانون.
ولعله في هذا الصدد، فقد عرضت في السابق على القاضي الإداري بعض القضايا قصد معالجة ذلك الإشكال، ومن بين تلك القضايا ما صدر عن المحكمة الإدارية بالدار البيضاء بين ناصر فردوسي ووزير الداخلية. وذلك بعد أن أصدر أحد ممثلي هذا الأخير، قرارا يقضي بعزل الطاعن من منصبه كموظف بالجماعة القروية أولاد عامر قيادة البروج إقليم سطات، مستندا في ذلك إلى مقتضيات الفصل 49 من ظهير 1976 بمثابة قانون يتعلق بالتنظيم الجماعي الأسبق. وقد كان جواب المحكمة كالتالي: "وحيث إن مقتضيات الفصل أعلاه تجيز للسلطة المختصة الحلول محل رئيس المجلس الجماعي، إذا امتنع هذا الأخير عن القيام بالأعمال الواجبة عليه بمقتضى القانون، وأن المشرع يعني بعبارة الأعمال، الاختصاصات المحددة والموكولة للرئيس بمقتضى قانون التنظيم الجماعي، أما غيرها من الأعمال الأخرى فلا تعطي للسلطة المحلية حق الحلول محل الرئيس في القيام بها"، ومن ثم تم إلغاء القرار .
إن مسألة حلول الجهة الوصائية -بمقتضى سلطاتها الاستثنائية المحددة قانونا-مقام الجهة اللامركزية، لتنفيذ بعض التزاماتها التي لم تقم بها بقصد أو لعجز أو إهمال، المستوحاة من التجربة الفرنسية، تعتبر السيف الرقابي الأكثر تسلطا على الجماعات الترابية. فعن طريق تقنية الحلول تمارس سلطات الوصاية رقابتها على رؤساء المجالس المنتخبة، التي تتحول بلا شك في معظم الأحيان إلى تحكم، بل إلى تعسف وشطط واعتداء على أعمال وصلاحيات تعتبر من صميم اختصاصاتهم -خاصة عندما يتعلق الأمر بالجانب المالي- فإذا كان من حق السلطة المحلية المعينة والممارسة للوصاية، الحلول محل رؤساء الجماعات المحلية في الحالات المشمولة بالنص القانوني، فإن ذلك الحق لا يمكن أن يتعدى ذلك إلى مجال التنظيم المالي، وعلى الخصوص صرف وأداء النفقات العمومية أو كما جاء في إحدى الأحكام المحال عليها .
لكن في المقابل، فإن هذا الأمر كان في السابق، حيث كان القاضي الإداري يقضي به في غياب النص القانوني، أما في ظل القوانين التنظيمية الجديدة، فإن الحلول المالي أصبح منصوصا عليه قانونا. حيث إذا امتنع رئيس المجلس عن الأمر بصرف نفقة وجب تسديدها، حق لسلطة الوصاية بعد مرور سبعة أيام من توجيه إعذار إلى الرئيس، أن تحيل إلى قاضي المستعجلات بالمحكمة الإدارية من أجل التصريح بجواز الحلول محل الرئيس في القيام بالأعمال المالية التي أمتنع عن القيام بها .
وفي نفس السياق، لا تنحصر تدخلات سلطات الوصاية في شؤون الجماعات الترابية على تلك الآليات والمكانيزمات المخولة لها بمقتضى القانون، بل تستغل جميع الوسائل المتاحة لها بحكم تعدد وتوسع صلاحياتها، لبسط سيطرتها على الهيئات المنتخبة. وهنا لابد من استحضار الوصاية الموجهة لمشاريع ميزانيات الجماعات الترابية، وما تشكله من خروج عن القانون ومن مس حقيقي وصارخ ومباشر بمبدأ المبادرة . وعلى صعيد آخر، يتدخل ممثلو سلطات الوصاية أحيانا في اختصاصات الهيئات المنتخبة، ضاربين بكل المقتضيات القانونية عرض الحائط، وذلك كما هو الأمر في بعض الحالات المتعلقة بإغلاق محلات تجارية ، وبسحب أو إلغاء أو إيقاف تراخيص مسلمة من طرف رؤساء المجالس الجماعية من الأشخاص المستفيدين منها، وذلك دون اللجوء حتى إلى مسطرة الحلول المخولة لهم قانونا .
الشدة والمغالاة، الصرامة والمبالغة، السيطرة والكثافة، الإفراط والتسلط، الثقل والهيمنة، التحكم والتجاوز، الشطط والغلو، الإسراف والتعسف، كلها مفاهيم وثنائيات تتعلق بالرقابة الإدارية على الجماعات الترابية بالمغرب، وما فتئ الحديث عن تدخلات السلطة المركزية في شؤون الوحدات المحلية المنتخبة يتخبط فيها. بل تشكل هذه المصطلحات بمعانيها ودلالاتها وأبعادها المختلفة الخاصية الأساسية التي تتميز بها الرقابة الإدارية، كما يجمع على ذلك معظم الدارسين والباحثين والمهتمين بالشأن العام المحلي. ولعل هذا الوصف ينطبق على كلا الرقابتين -وإن بنسب مختلفة- سواء تلك التي تمارسها سلطات الإشراف ممثلة في وزارة الداخلية بالخصوص، أو الرقابة التي تمارسها الوزارة المكلفة بالمالية. حيث إذا كانت الأولى تتكلف بتأمين مراقبة العمليات والشؤون الإدارية مع جانب من الشؤون المالية، وتتدخل من أجل ذلك في دقائق الأمور وتفاصيلها، فإن الثانية ونظرا لطبيعة مهامها وصلاحياتها، تختص بمراقبة جميع العمليات المحاسبية ومختلف الشؤون المالية للجماعات الترابية .
ولقد تبين من التعرف على مختلف التمظهرات والتجليات الرقابية ذات الطابع الإداري الممارسة على الجماعات الترابية بالمغرب، وجود رقابة صارمة على المشروعية، إن على المستوى المالي أو على المستوى الإداري خاصة في شقها المتعلق بالأشخاص . بل تمتد سلطات الوصاية برقابتها إلى التدخل في مدى ملاءمة قرارات وتصرفات الأجهزة والهيئات المحلية المنتخبة لاعتباراتها المختلفة والمتعددة . ولا مظنة هنا، أن تلك التدخلات المتنوعة لأجهزة الرقابة الإدارية تمثل انحرافا وتعديا واضحا على فلسفة وسياسة اللامركزية الإدارية الترابية، والتي تقوم على مبدأ "لا وصاية إلا بنص"، مع عدم التوسع في تفسير وتأويل ذلك النص. كما تشكل أحيانا اعتداء صارخا على مبدأ "المبادرة"، فهذا المبدأ إذا كان لابد أن يكون مقرونا بالإشراف والوصاية في إطار اللامركزية الإدارية الترابية، فإنه لا يتيح للدولة أي سلطة على أعمال وتصرفات الجماعات المحلية بخصوص الملاءمة. وذلك حفاظا على استقلاليتها، وعلى ماهية وكينونة اللامركزية الإدارية الترابية كما هو متعارف عليها.
ولعل نفس الخطوط العريضة للرقابة الإدارية، ونفس المكونات الرقابية حافظت عليها القوانين التنظيمية الجديدة للجماعات الترابية. فرغم كونها جاءت ببعض الإصلاحات هنا وهناك من قبيل إشراك القضاء الإداري في العديد من تمظهرات الرقابة الوصائية -خاصة ما يتعلق بمجال تأديب المنتخبين فرادى أو بشكل جماعي- فإن جل إن لم يكن كل عناصر ومكونات الرقابة الوصائية قد تم الاحتفاظ بها، (الحل، التوقيف، العزل، الحلول...). ومن هنا لا يمكن القول أن القوانين التنظيمية قد تجاوزت التدخلات المفرطة للرقابة الإدارية في شؤون الجماعات الترابية. وبالخصوص عندما ستصطدم أكثر بالواقع العملي والتطبيقي، حيث الفجوة البنيوية العميقة بين الخطاب والقانون والممارسة تستمر في الاتساع.
إن التدخلات المفرطة للرقابة الإدارية في شؤون الجماعات الترابية لا تحتاج إلى شرح وتوضيح، فهي بادية للعيان على جميع الأصعدة والمستويات ولا ريب فيها . ولعل المتأمل بداية في النصوص التشريعية والتنظيمية المؤطرة للجماعات الترابية بالمغرب، وما جاءت به من صيغ عامة وفضفاضة ، لا يمكنه إلا أن يخرج بنتيجة مفادها أن هناك سلطات واسعة خولتها القوانين المختلفة لسلطات الإشراف والوصاية على الوحدات المحلية المنتخبة أشخاصا وأعمالا. حيث تبدو سلطة راجحة ومسيطرة في جميع الحالات، ولا نكون مبالغين إذا قلنا -وخلافا للأصل- أنها هي التي تدير مشاريع التنمية على المستوى المحلي، وهي التي تتحكم في أوراشها إعدادا وتنفيذا ورقابة. فالهيئات المنتخبة -على سبيل المثال- يصعب عليها أن تقوم بتمرير أي قرار أو مشروع تنموي دون موافقة سلطات الوصاية، ويكاد يكون ذلك مستحيلا أحيانا. في حين تتمتع سلطات الوصاية -وبالخصوص وزارة الداخلية- على العديد من الوسائل والآليات والطرق التي تمكنها من تنفيذ رغباتها ومشاريعها، وذلك حتى دون موافقة الهيئات المنتخبة نفسها.
وكما هو معلوم في هذا الصدد، تتوزع الرقابة الوصائية بين الجانب الإداري والمالي للجماعات الترابية، وتشمل الوصاية على الشؤون الإدارية، الأشخاص، سواء بصفتهم الفردية أو الجماعية. في حين تشمل الوصاية على الأعمال جميع التصرفات الصادرة عن الوحدات اللامركزية، سواء كانت صادرة عن مجالس الجماعات الترابية أو تلك الصادرة عن رؤسائها. أما المراقبة الإدارية للشؤون المالية بالجماعات الترابية، فهي لا تقل عن نضيرتها شدة وصرامة ، حيث تنصب على جميع المعاملات المالية وبالأساس على الميزانية، بدء بالتحضير ومرورا بالاعتماد وليس انتهاء بالتنفيذ. أو بعبارة أخرى واعتمادا على معيار الزمن الذي تمارس فيه تلك الأنماط الرقابية، فإنها تتراوح بين الرقابة القبلية والرقابة المواكبة ثم الرقابة البعدية أو التقييمية. ومن هنا تتميز الرقابة الإدارية على الجماعات الترابية في المجال المالي بقوتها وكثافتها، مما يمنحها تأثيرا كبيرا على الخيارات المالية للمجالس المنتخبة. فتدخل سلطات الوصاية في الشؤون المالية للجماعات الترابية لا ينتهي عند إعداد الميزانية المحلية ولا عند المصادقة عليها، وإنما يتجاوز ذلك ليتركز في مرحلة تنفيذ تلك الميزانية وبعد التنفيذ أيضا .
وإذا كانت القوانين التنظيمية الجديدة للجماعات الترابية، قد جاءت ببعض المقتضيات الإصلاحية التي قد يكون من شأنها التخفيف من الرقابة الوصائية عموما، فإنها في المقابل حافظت على العديد من الاختصاصات والصلاحيات والسلطات الرقابية ذات الصبغة الإدارية، خاصة ما يتعلق بالرقابة على الشؤون المالية للجماعات الترابية. بل يمكن القول أن القوانين التنظيمية الجديدة قد وسعت بشكل غير مسبوق من نفوذ وزارة الداخلية، أو ما يسمى بالسلطة الحكومية المكلفة بالداخلية أو ممثليها الولاة والعمال -حسب نوع الجماعة الترابية المعنية بالرقابة الوصائية- خاصة في بعض المجالات. حيث أصبحت، نتيجة الصيغ الغامضة والفضفاضة التي تم إدراجها بشكل متعمد، تتحكم بسلاسة متناهية في الشؤون المالية المحلية عبر آلية التأشير على ميزانيات الجماعات الترابية ، وكذا من خلال آلية المراقبة القبلية لشرعية قرارات الرؤساء ومقررات المجالس المحلية المنتخبة.
وذلك فضلا عن إمكانية إدراج كل مسالة تريدها سلطات الوصاية بجداول أعمال دورات مجالس الجماعات الترابية. وحقها في الاعتراض على كل مسألة أدرجت بتلك الجداول، سواء من قبل الرؤساء أو أعضاء المكاتب أو أعضاء المجالس. ورغم أن الرقابة على شرعية مقررات وقرارات المجالس وعزل أعضائها تظل من اختصاص القضاء الإداري كسلطة مشرفة، إلا أن هذا الإجراء قد لا يمثل حصانة ضد انحراف السلطة من طرف ما يسمى بالسلطة الحكومية المكلفة بالداخلية، سيما في ظل استمرار تواجد نخب محلية غير مؤهلة وضعيفة ومعظمها لا يصلح للعمل السياسي لا من حيث المستوى التعليمي ولا من حيث الكفاءات ولا حتى من حيث الأخلاق.
ولعله يعتبر من نافل القول التأكيد على أن التخفيف من سلطات الوصاية وإصلاح الرقابة الوصائية، ليس بتغيير المصطلحات والمفاهيم كتغيير مصطلح الوصاية بالرقابة الإدارية، وتعويض مفهوم وزارة الداخلية بمفهوم السلطة الحكومية المكلفة بالداخلية من الناحية الشكلية مع الاحتفاظ بنفس الآليات والميكانزمات الوصائية، كما فعلت القوانين التنظيمية، وإنما التخفيف والإصلاح الحقيقي للرقابة الوصائية يتمثل في تقليص الممارسات الوصائية إلى الحد الأدنى. أو بعبارة أخرى يجب الاحتفاظ بأقل ما يمكن من تدخل الدولة -خاصة فيما يتعلق بالجانب المالي- حيث التعبير الحقيقي عن مبدأ المبادرة والتكريس الواقعي للشخصية المعنوية للجماعات الترابية.
وعلى صعيد متصل، وإذا كانت النصوص القانونية قد كرست التدخلات المفرطة للرقابة الإدارية في شؤون الجماعات الترابية، فإن تلك التدخلات على مستوى الواقع والممارسة ستكون أدهى وأمر، وأكثر ثقلا وصرامة وتأثيرا على استقلالية الجماعات المحلية . فحضور سلطات الوصاية بشكل يشوه مفهوم اللامركزية الإدارية الترابية ذات البعد الديمقراطي والتنموي، سمة أساسية في التجربة المغربية. بل أحيانا تحت مسمى الرقابة الإدارية وحماية المصلحة العامة، يتدخل ممثلو سلطات الوصاية حتى في الاختصاصات غير المراقبة للهيئات المنتخبة، ويكون ذلك بصفة خاصة إثر ممارسة سلطات الحلول المخولة لهم بمقتضى القانون.
ولعله في هذا الصدد، فقد عرضت في السابق على القاضي الإداري بعض القضايا قصد معالجة ذلك الإشكال، ومن بين تلك القضايا ما صدر عن المحكمة الإدارية بالدار البيضاء بين ناصر فردوسي ووزير الداخلية. وذلك بعد أن أصدر أحد ممثلي هذا الأخير، قرارا يقضي بعزل الطاعن من منصبه كموظف بالجماعة القروية أولاد عامر قيادة البروج إقليم سطات، مستندا في ذلك إلى مقتضيات الفصل 49 من ظهير 1976 بمثابة قانون يتعلق بالتنظيم الجماعي الأسبق. وقد كان جواب المحكمة كالتالي: "وحيث إن مقتضيات الفصل أعلاه تجيز للسلطة المختصة الحلول محل رئيس المجلس الجماعي، إذا امتنع هذا الأخير عن القيام بالأعمال الواجبة عليه بمقتضى القانون، وأن المشرع يعني بعبارة الأعمال، الاختصاصات المحددة والموكولة للرئيس بمقتضى قانون التنظيم الجماعي، أما غيرها من الأعمال الأخرى فلا تعطي للسلطة المحلية حق الحلول محل الرئيس في القيام بها"، ومن ثم تم إلغاء القرار .
إن مسألة حلول الجهة الوصائية -بمقتضى سلطاتها الاستثنائية المحددة قانونا-مقام الجهة اللامركزية، لتنفيذ بعض التزاماتها التي لم تقم بها بقصد أو لعجز أو إهمال، المستوحاة من التجربة الفرنسية، تعتبر السيف الرقابي الأكثر تسلطا على الجماعات الترابية. فعن طريق تقنية الحلول تمارس سلطات الوصاية رقابتها على رؤساء المجالس المنتخبة، التي تتحول بلا شك في معظم الأحيان إلى تحكم، بل إلى تعسف وشطط واعتداء على أعمال وصلاحيات تعتبر من صميم اختصاصاتهم -خاصة عندما يتعلق الأمر بالجانب المالي- فإذا كان من حق السلطة المحلية المعينة والممارسة للوصاية، الحلول محل رؤساء الجماعات المحلية في الحالات المشمولة بالنص القانوني، فإن ذلك الحق لا يمكن أن يتعدى ذلك إلى مجال التنظيم المالي، وعلى الخصوص صرف وأداء النفقات العمومية أو كما جاء في إحدى الأحكام المحال عليها .
لكن في المقابل، فإن هذا الأمر كان في السابق، حيث كان القاضي الإداري يقضي به في غياب النص القانوني، أما في ظل القوانين التنظيمية الجديدة، فإن الحلول المالي أصبح منصوصا عليه قانونا. حيث إذا امتنع رئيس المجلس عن الأمر بصرف نفقة وجب تسديدها، حق لسلطة الوصاية بعد مرور سبعة أيام من توجيه إعذار إلى الرئيس، أن تحيل إلى قاضي المستعجلات بالمحكمة الإدارية من أجل التصريح بجواز الحلول محل الرئيس في القيام بالأعمال المالية التي أمتنع عن القيام بها .
وفي نفس السياق، لا تنحصر تدخلات سلطات الوصاية في شؤون الجماعات الترابية على تلك الآليات والمكانيزمات المخولة لها بمقتضى القانون، بل تستغل جميع الوسائل المتاحة لها بحكم تعدد وتوسع صلاحياتها، لبسط سيطرتها على الهيئات المنتخبة. وهنا لابد من استحضار الوصاية الموجهة لمشاريع ميزانيات الجماعات الترابية، وما تشكله من خروج عن القانون ومن مس حقيقي وصارخ ومباشر بمبدأ المبادرة . وعلى صعيد آخر، يتدخل ممثلو سلطات الوصاية أحيانا في اختصاصات الهيئات المنتخبة، ضاربين بكل المقتضيات القانونية عرض الحائط، وذلك كما هو الأمر في بعض الحالات المتعلقة بإغلاق محلات تجارية ، وبسحب أو إلغاء أو إيقاف تراخيص مسلمة من طرف رؤساء المجالس الجماعية من الأشخاص المستفيدين منها، وذلك دون اللجوء حتى إلى مسطرة الحلول المخولة لهم قانونا .
الفرع الثاني: ضرورة النهوض بالرقابة الإدارية على الجماعات الترابية
على قدر أهمية الرقابة الإدارية وضرورتها لحماية مبادئ المشروعية والملاءمة والذود عن المصلحة العامة، طرحت بالمغرب مسألة الشدة والصرامة الرقابية والوصائية المبالغ فيها. ومن هنا إذا كان من المتفق عليه بين مختلف الفقهاء الباحثين والدارسين والمهتمين، هو أن الوصاية والرقابة الإدارية تعتبر من أركان اللامركزية الإدارية الترابية التي لا يمكن الاستغناء عنها -بأي حال من الأحوال- في إطار الدولة الموحدة، فإن نفس الاتفاق قائم بينهم أو ربما بشكل أكثر إجماعا وتوافقا، حول ضرورة تحقيق المرونة في تلك الرقابة. ولا ريب هنا أن مسألة تقليص أجهزة المراقبة الإدارية على الجماعات الترابية (الفقرة الأولى)، إلى جانب تخفيف التدخلات الرقابية الإدارية بالجماعات الترابية (الفقرة الثانية)، تعتبر من المقتضيات والمتطلبات الأساسية لتحقيق تلك المرونة. فالتجربة والممارسة أثبتت في المغرب أنه لا داعي لكل تلك الأجهزة والتدخلات الرقابية، حتى يتم ضمان انضباط الوحدات المحلية المنتخبة، وامتثالها للمبادئ القانونية والأخلاقية.
الفقرة الأولى: تقليص أجهزة المراقبة الإدارية على الجماعات الترابية
إذا كانت أول فكرة أو خلاصة يمكن أن يخرج بها الباحث أو المتأمل في الرقابة الإدارية على الجماعات الترابية بالمغرب، هي تضخم الأجهزة والجهات الممارسة لتلك الرقابة. مما ينعكس سلبا على الوحدات المنتخبة وتدبير الشؤون المحلية، وعلى الرقابة والحكامة الترابية بصفة عامة، فإن المصلحة العامة والضرورة والمنطق الإصلاحي يقتضي أن أول ما يمكن القيام به لتحقيق النجاعة الرقابية، وتجنب عرقلة وإعاقة التنمية المحلية، هو تقليص عدد المتدخلين أو أجهزة المراقبة الإدارية على الجماعات الترابية. فالعبرة -كما هو معلوم- ليست بكثرة الأجهزة والوسائل الرقابية واتساع رقعة الوصاية والمراقبة الإدارية وتكرارها، وإنما بمدى نجاعة وفعالية المنظومة الرقابية في الذود عن المصلحة العامة ، وفي ضمان وحماية حقوق وحريات المرتفقين والمتعاملين مع تلك الجماعات الترابية.
إن تقليص أجهزة المراقبة الإدارية على الجماعات الترابية المغربية ينبغي أن يشكل إحدى الخيارات الاستراتيجية للدولة من أجل النهوض بالحكامة الترابية. ذلك أن أي سياسة تنموية محلية تقدم عليها الدولة بإشراك الجماعات الترابية، لا بد لها من رقابة ملائمة مؤهلة وحديثة مرنة، قادرة على الدعم والدفع والمواكبة للمنتخبين المحليين. وذلك قصد تمكينهم من المساهمة الفعالة في الارتقاء بتدبير الشأن العام المحلي، ومن ترجمة المشاريع التنموية إلى أعمال واقعية وملموسة، ليستفيد منها في آخر المطاف المواطن المغربي باعتباره المعنى الأول والمستفيد من تجويد التنمية المحلية إذا تم، ومن الحكامة الترابية عموما.
ولعل تقليص أجهزة المراقبة الإدارية على الجماعات الترابية، سيمثل في المستقبل القريب هاجسا أساسيا، سيشغل بال كل الجهات الهادفة إلى جعل المغرب دولة ديمقراطية. بحيث ستطرح مسألة التضخم والتعدد في أجهزة المراقبة الإدارية، العديد من الإشكالات ذات الارتباط العميق بمجمل التحولات التنظيمية والنظامية والسوسيو-اقتصادية التي ستعرفها بنية التدبير الترابي المحلي. وذلك نتيجة الإصلاحات المتعلقة بتضاعف الاختصاصات والصلاحيات في القوانين التنظيمية الصادرة مؤخرا لتنظيم الجماعات الترابية في المغرب مستقبلا . وفي سياق ذي صلة، تجدر الإشارة إلى أن هذه النصوص القانونية الجديدة الصادرة تنفيذا لمقتضيات دستور 2011 -ورغم بعض الإصلاحات التي جاء في إطار الرقابة الإدارية- فهي لم تعمل على تقليص أجهزة ومؤسسات تلك الرقابة كما كان منتظرا منها كما لم تعقلن الرقابة الإدارية عموما. ومن ثم لا يسعنا إلا أن نسجل ذلك على مضض، مع المطالبة بتدارك وتصحيح الوضعية في المستقبل القريب.
إنه وفي سياق التحولات الكبرى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتنموية التي تضاعفت سرعتها وديناميتها، وفي إطار التحديات والمتغيرات المتعددة التي بات يفرضها النظام العالمي الجديد على المغرب. ثم في ظل التحولات التي يعيشها المجتمع المغربي داخليا، حيث تضاعفت متطلبات التنمية ومستلزمات الحكامة الترابية، فقد أضحت الدولة مطالبة أكثر من أي وقت مضى بتبني استراتيجية إصلاحية وتحديثية، لمنظومة الرقابة الإدارية على الجماعات الترابية. بحيث ينبغي أن تتسم بالشمولية والفعالية، والملاءمة والنجاعة المتوازنة مع المرونة. ولعل ذلك ليس من شأنه تطوير الأداء الإداري والتنموي للوحدات المحلية المنتخبة فقط، وإنما بفعله أيضا سيتم السير نحو إرساء جماعات ترابية مواطنة خدومة عصرية وحديثة، قادرة على الانسجام مع أدوارها الجديدة والمشاركة الفعالة في التنمية الشاملة للبلاد.
بل إن من شأن تقليص وعقلنة وترشيد أجهزة المراقبة الإدارية على الجماعات الترابية في المغرب -وبدون مبالغة- أن يجعل من تلك الجماعات أشخاصا مدعمة ومبادرة، وقد تكون فعالة في دعم القضايا الكبرى للوطن، خاصة إذا تم بشكل متواز الارتقاء السياسي بالنخب المحلية. ومن ثم قد تتماهى الجماعات الترابية في المستقبل مع الدور الجديد المفترض أن تقوم به الدولة إزاء اللامركزية الإدارية الترابية، حيث من المفترض أن يقوم أساسا على الأبعاد الاستراتيجية والإشرافية والمواكباتية والتحكيمية فقط. وذلك تماشيا مع متطلبات المرحلة ومع المنحى العالمي الجديد، السائد اليوم حول مفهوم الدولة، حيث يتجه حتمية ولزاما نحو جعل دورها يقتصر على المساعدة والمواكبة للأشخاص اللامركزية بدل التدخل المباشر في عملية الإنتاج والتنمية المحلية، وعلى التقنين والتقويم العادل بدل مباشرة التسيير والتدبير.
وعلى صعيد آخر، وإذا كان التخفيف والتقليص الشكلي والعضوي لأجهزة المراقبة الإدارية للجماعات الترابية له كل هذه الأهمية والأبعاد التنموية والتحديثية الداخلية والخارجية، فإن هذه المسألة المتعلقة بضرورة تقليص أجهزة المراقبة الإدارية على الجماعات الترابية، ليست قضية إلغاء وحذف للأجهزة الرقابية فقط. بل مسألة جد معقدة لابد لها من تخطيط واستراتيجية ودراسة معمقة لتلك البنيات والأجهزة والهياكل، حتى يتم التخلص والاستغناء على أقلها أهمية وجدارة وكفاءة رقابية. أو على الأقل -وإن لم يكن ذلك ممكنا- فالتخلص من تلك التي تمارس نفس الوظائف والصلاحيات الرقابية، مع ترك أقلها تكلفة وأيسرها وطأة على الاستقلالية المالية والإدارية للجماعات الترابية.
وبالرجوع إلى الواقع العملي والممارساتي، نجد أنه صحيحا هناك العديد من التقارب والتقريبية في مهام واختصاصات بعض الجهات الرقابية، بل تصل بعض الأجهزة والجهات الرقابية أحيانا وفي بعض الحالات إلى حد التطابق والتماثل في الوظائف الرقابية . وهو الأمر الذي يقتضي ويستلزم الاستغناء عن إحداها أو بعضها أو أكثر، -إذا كان هناك أزيد من جهة رقابية تمارس نفس الصلاحية أو الاختصاص الرقابي- وذلك تجنبا لتضييع الجهود والوقت وإهدار الزمن التنموي وتفاديا للتكرار في الفعل الرقابي الذي يكون أحيانا بدون جدوى. وهذا التضخم بالتأكيد لا يمكن أن يكون هنا إلا مسألة سلبية معيبة ومعرقلة لأنشطة الجماعات الترابية، بل هو بعيد كل البعد عن الجودة والجدوى من الوصاية والرقابة الإدارية عموما.
إن تقليص أجهزة المراقبة الإدارية على الجماعات الترابية في المغرب مسألة ضرورية وأساسية، وتهدف إلى تبسيط الرقابة وتجويدها وتسهيلها. ومن ثم تيسير الحياة اليومية للمرتفق وتيسير نشاط الوحدات المنتخبة عموما، ومطاردة التعطيل والتعقيد والبيروقراطية بمفهومها السلبي في تدبير الشؤون العامة المحلية. فالأجهزة الوصائية والرقابية المرغوبة في هذا الصدد، هي تلك التي تؤدي أفضل رقابة ممكنة بأقل مجهود ممكن وفي أسرع وقت ممكن، مع أقل تكلفة مالية وبشرية ممكنة وفي أفضل الظروف الممكنة. ومن هنا ولكي يكون الأمر كذلك، لابد من الترشيد والعقلنة الشكلية والموضوعية لمنظومة الرقابة الإدارية الموجودة حاليا، وملاءمتها مع متطلبات الفعالية والنجاعة، ومع مستلزمات التنمية المحلية المستدامة والحكامة الترابية المنشودة.
ولعل من أولى الجهات والمكونات المعنية والمطالبة بتقليص أجهزتها الرقابية، هي وزارة الداخلية المشرفة على اللامركزية الترابية والإدارة المحلية المنتخبة. فإذا كان معلوما أن تلك الوزارة بمقتضى الإشراف هي المسؤولة عن الجماعات الترابية وتمارس عليها وصايتها بشكل مباشر، وهي عبارة عن مراقبة واسعة ودقيقة ومستمرة، بحيث تشمل جميع الأشخاص والأنشطة بالوحدات المنتخبة. فلماذا تم استحداث كل تلك الأجهزة والآليات الرقابية الأخرى؟ وأيا كان الرد والجواب عن هذا السؤال، فالترشيد والعقلنة الرقابية يقتضيان حذف وإلغاء بعض الأجهزة الرقابية وفي مقدمتها المفتشية العامة للمالية المحلية ، وإدماج بعض مهامها غير المالية ضمن اختصاصات ووظائف المفتشية العامة للإدارة الترابية. فوجودها (أي المفتشية العامة للمالية المحلية) إذا كان غير مبرر من الناحية العملية، لكون معظم مهامها أو بعضها يمارس من قبل الأجهزة والجهات الرقابية التابعة للوزارة المكلفة بالمالية، التي هي أكثر منها تخصصا واتقانا للعمليات الرقابية، فإن اختصاصها لا يمكن أن يكون إلا مضيعة للوقت وهدرا أو تبذيرا للمال العام المحلي، الذي قد تكون مجالات أخرى في أمس الحاجات إليه. ومن هنا لابد من إعادة النظر في وجود المفتشية العامة للمالية المحلية بشكل متواز، أو بالأحرى في إطار الإصلاحات الهيكلية المراد مباشرتها قبل الدخول الفعلي في تجربة اللامركزية المتقدمة والجهوية الموسعة.
ولكن في الحقيقة قبل هذا وذاك، لابد بل يجب على وزارة الداخلية إعادة النظر في مسألة تقاسم اختصاصاتها الوصائية مع ممثليها المحليين (العمال والولاة). تجاوزا لمشكلة التضخم والازدواجية في ممارسة تلك الاختصاصات وتدقيقا في تحديد المسؤوليات، بجعل الرقابة الوصائية من اختصاص مندوبيها الترابيين. وإذا كان هذا الأمر قد يطرح بعض الإشكالات والمخاوف أو الهواجس لدى الدولة كعادتها، في حالة منح الاختصاصات الوصائية بشكل مباشر من طرف السلطة التشريعية وبصريح النصوص للولاة والعمال، فإن الحل موجود وهو اللاتمركز الإداري، حيث يعتبر هذا الأسلوب دعامة أساسية لتحديث الدولة ومرافقها ، ومن ثم ممارسة الوصاية من طرف سلطة عدم التمركز الإداري. فأسلوب اللاتمركز إلى جانب أهميته في تقليص هياكل المراقبة الإدارية خاصة على مستوى وزارة الداخلية (هياكل الإدارة المركزية)، فهو يمكن الجماعات المحلية، من اتخاذ القرار بالسهولة والسرعة المطلوبتين، نظرا لقرب الولاة والعمال من تلك الجماعات واتصالهم بها بصفة مباشرة ودائمة. أضف إلى ذلك أن فكرة تقريب الوصاية من الجماعات الترابية سيضمن إنجاز العمل الوصائي بدقة وفعالية أكثر .
إن الملك محمد السادس ومنذ إعلانه عن انطلاق التحضير لورش الجهوية الموسعة، ما فتئ يؤكد على ضرورة تطوير اللاتمركز الواسع، حتى تتمكن الجهوية الْمُنْتَظَرَة من الرقي بالتنمية المحلية وبلوغ مستوى الحكامة الترابية. فقد جاء في خطابه الموجه إلى المشاركين في الملتقى الوطني حول الجماعات المحلية بأكادير "إن اعتزازنا بالخطوات الهامة التي قطعها نظامنا اللامركزي، لا يعادله إلا حرصنا على تثبيت دعائمه بنظام الجهوية الواسعة واللاتمركز الإداري... ومهما يكن تقدمنا في مجال ترسيخ النظام اللامركزي، فإنه سيظل ناقصا، ما لم يدعمه إصلاح نظام الجهات، وبناء أقطاب جهوية متجانسة، واعتماد التدبير غير المتمركز للشأن المحلي. لذا نعتبر أنه قد آن الأوان، للعمل على تسريع مسلسل اللاتمركز الإداري وتوسيع صلاحياته، باعتباره لازمة ضرورية، لمواكبة الجهوية الواسعة، ..." . ولعل المؤسسة الملكية في هذا الخطاب إذا كانت متحدثة عن أهمية اللاتمركز الإداري للجهوية واللامركزية بصفة عامة، وبمختلف تجلياته وتمظهراته، فإن المقصود هنا بالدرجة الأولى هو لاتمركز سلطات الوصاية.
هذا باختصار عن وزارة الداخلية وبعض ما يمكن بذله للتخفيف من التضخم، بتقليص أجهزة المراقبة الإدارية على الجماعات الترابية التابعة لها، أما بخصوص الوزارة المكلفة بقطاع المالية الممارس الثاني لسلطات الوصاية على تلك الجماعات، فإنه ينبغي عليها هي الأخرى أن تقلص من هياكلها وأجهزتها المتدخلة في ممارسة الرقابة الإدارية على المالية المحلية. وهنا نستحضر أن تلك الوزارة تمارس رقابتها من خلال المفتشية العامة للمالية والخزينة العامة للمملكة، وكذا من خلال المحاسبين العموميين المضطلعين بمسألة المراقبة المحاسبية للعمليات المالية أثناء التنفيذ بشكل مباشر . ولا ظن أن الأمر هنا لا يستدعي ولا يتطلب تدخل كل تلك الأجهزة -خاصة إذا علمنا أن لها العديد من الاختصاصات المتكررة والمتقاربة- فمن أجل تكريس الجودة والحكامة الترابية أصبح لزاما على الوزارة المكلفة بالمالية أن تعمل على إدماج تلك الأجهزة الثلاث وحوكمتها مع ترشيد وعقلنة اختصاصاتها.
ولما لا يتم في هذا الصدد أيضا، السعي والتفكير بجدية في مسألة إدماج بعض مصالح وأجهزة الرقابة الإدارية التابعة لوزارة الداخلية، في تلك التابعة للوزارة المكلفة بالمالية رسميا -خاصة تلك التي تمارس رقابة مالية صرفة- فالرقابة المالية ذات الطابع الإداري في الأصل هي اختصاص صرف لوزارة المالية. والجماعات الترابية أشخاص معنوية عامة تخضع للقانون العام ويجب أن تعمل تحت إشراف الدولة بمفهومها النسقي المتكامل، وليس لوزارة الداخلية وحدها، التي ترتبط في المخيال الشعبي المغربي بالأمن وبالهواجس الضبطية أكثر مما ترتبط بأمور أخرى.
ولعله بذلك سيندمج العمل الرقابي الإداري على المستوى المحلي من خلال ضمان وحدة التمثيلية الرقابية أولا، ثم من خلال وحدة التمثيلية ما بين أجهزة وزارة الداخلية المكلفة بالرقابة الإدارية، ونظيرتها التابعة للوزارة المكلفة بقطاع المالية المتقاربة في العمل والأنشطة المزاولة، وذلك باندماج المصالح التابعة لها في بنية إدارية واحدة. وهذا الأمر ليس إيجابيا بالنسبة لتقليص أجهزة المراقبة الإدارية على الجماعات الترابية لإرساء التجانس والتناسق والفعالية في النشاط الرقابي فقط، بل سيبسط النظام الرقابي على الجماعات الترابية عموما، كما سيمكن ذلك وفي نفس الإطار من تحديد مسؤولية الأجهزة المراقبة التي فشلت في أداء مهامها الرقابية قصد المحاسبة والمتابعة.
على قدر أهمية الرقابة الإدارية وضرورتها لحماية مبادئ المشروعية والملاءمة والذود عن المصلحة العامة، طرحت بالمغرب مسألة الشدة والصرامة الرقابية والوصائية المبالغ فيها. ومن هنا إذا كان من المتفق عليه بين مختلف الفقهاء الباحثين والدارسين والمهتمين، هو أن الوصاية والرقابة الإدارية تعتبر من أركان اللامركزية الإدارية الترابية التي لا يمكن الاستغناء عنها -بأي حال من الأحوال- في إطار الدولة الموحدة، فإن نفس الاتفاق قائم بينهم أو ربما بشكل أكثر إجماعا وتوافقا، حول ضرورة تحقيق المرونة في تلك الرقابة. ولا ريب هنا أن مسألة تقليص أجهزة المراقبة الإدارية على الجماعات الترابية (الفقرة الأولى)، إلى جانب تخفيف التدخلات الرقابية الإدارية بالجماعات الترابية (الفقرة الثانية)، تعتبر من المقتضيات والمتطلبات الأساسية لتحقيق تلك المرونة. فالتجربة والممارسة أثبتت في المغرب أنه لا داعي لكل تلك الأجهزة والتدخلات الرقابية، حتى يتم ضمان انضباط الوحدات المحلية المنتخبة، وامتثالها للمبادئ القانونية والأخلاقية.
الفقرة الأولى: تقليص أجهزة المراقبة الإدارية على الجماعات الترابية
إذا كانت أول فكرة أو خلاصة يمكن أن يخرج بها الباحث أو المتأمل في الرقابة الإدارية على الجماعات الترابية بالمغرب، هي تضخم الأجهزة والجهات الممارسة لتلك الرقابة. مما ينعكس سلبا على الوحدات المنتخبة وتدبير الشؤون المحلية، وعلى الرقابة والحكامة الترابية بصفة عامة، فإن المصلحة العامة والضرورة والمنطق الإصلاحي يقتضي أن أول ما يمكن القيام به لتحقيق النجاعة الرقابية، وتجنب عرقلة وإعاقة التنمية المحلية، هو تقليص عدد المتدخلين أو أجهزة المراقبة الإدارية على الجماعات الترابية. فالعبرة -كما هو معلوم- ليست بكثرة الأجهزة والوسائل الرقابية واتساع رقعة الوصاية والمراقبة الإدارية وتكرارها، وإنما بمدى نجاعة وفعالية المنظومة الرقابية في الذود عن المصلحة العامة ، وفي ضمان وحماية حقوق وحريات المرتفقين والمتعاملين مع تلك الجماعات الترابية.
إن تقليص أجهزة المراقبة الإدارية على الجماعات الترابية المغربية ينبغي أن يشكل إحدى الخيارات الاستراتيجية للدولة من أجل النهوض بالحكامة الترابية. ذلك أن أي سياسة تنموية محلية تقدم عليها الدولة بإشراك الجماعات الترابية، لا بد لها من رقابة ملائمة مؤهلة وحديثة مرنة، قادرة على الدعم والدفع والمواكبة للمنتخبين المحليين. وذلك قصد تمكينهم من المساهمة الفعالة في الارتقاء بتدبير الشأن العام المحلي، ومن ترجمة المشاريع التنموية إلى أعمال واقعية وملموسة، ليستفيد منها في آخر المطاف المواطن المغربي باعتباره المعنى الأول والمستفيد من تجويد التنمية المحلية إذا تم، ومن الحكامة الترابية عموما.
ولعل تقليص أجهزة المراقبة الإدارية على الجماعات الترابية، سيمثل في المستقبل القريب هاجسا أساسيا، سيشغل بال كل الجهات الهادفة إلى جعل المغرب دولة ديمقراطية. بحيث ستطرح مسألة التضخم والتعدد في أجهزة المراقبة الإدارية، العديد من الإشكالات ذات الارتباط العميق بمجمل التحولات التنظيمية والنظامية والسوسيو-اقتصادية التي ستعرفها بنية التدبير الترابي المحلي. وذلك نتيجة الإصلاحات المتعلقة بتضاعف الاختصاصات والصلاحيات في القوانين التنظيمية الصادرة مؤخرا لتنظيم الجماعات الترابية في المغرب مستقبلا . وفي سياق ذي صلة، تجدر الإشارة إلى أن هذه النصوص القانونية الجديدة الصادرة تنفيذا لمقتضيات دستور 2011 -ورغم بعض الإصلاحات التي جاء في إطار الرقابة الإدارية- فهي لم تعمل على تقليص أجهزة ومؤسسات تلك الرقابة كما كان منتظرا منها كما لم تعقلن الرقابة الإدارية عموما. ومن ثم لا يسعنا إلا أن نسجل ذلك على مضض، مع المطالبة بتدارك وتصحيح الوضعية في المستقبل القريب.
إنه وفي سياق التحولات الكبرى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتنموية التي تضاعفت سرعتها وديناميتها، وفي إطار التحديات والمتغيرات المتعددة التي بات يفرضها النظام العالمي الجديد على المغرب. ثم في ظل التحولات التي يعيشها المجتمع المغربي داخليا، حيث تضاعفت متطلبات التنمية ومستلزمات الحكامة الترابية، فقد أضحت الدولة مطالبة أكثر من أي وقت مضى بتبني استراتيجية إصلاحية وتحديثية، لمنظومة الرقابة الإدارية على الجماعات الترابية. بحيث ينبغي أن تتسم بالشمولية والفعالية، والملاءمة والنجاعة المتوازنة مع المرونة. ولعل ذلك ليس من شأنه تطوير الأداء الإداري والتنموي للوحدات المحلية المنتخبة فقط، وإنما بفعله أيضا سيتم السير نحو إرساء جماعات ترابية مواطنة خدومة عصرية وحديثة، قادرة على الانسجام مع أدوارها الجديدة والمشاركة الفعالة في التنمية الشاملة للبلاد.
بل إن من شأن تقليص وعقلنة وترشيد أجهزة المراقبة الإدارية على الجماعات الترابية في المغرب -وبدون مبالغة- أن يجعل من تلك الجماعات أشخاصا مدعمة ومبادرة، وقد تكون فعالة في دعم القضايا الكبرى للوطن، خاصة إذا تم بشكل متواز الارتقاء السياسي بالنخب المحلية. ومن ثم قد تتماهى الجماعات الترابية في المستقبل مع الدور الجديد المفترض أن تقوم به الدولة إزاء اللامركزية الإدارية الترابية، حيث من المفترض أن يقوم أساسا على الأبعاد الاستراتيجية والإشرافية والمواكباتية والتحكيمية فقط. وذلك تماشيا مع متطلبات المرحلة ومع المنحى العالمي الجديد، السائد اليوم حول مفهوم الدولة، حيث يتجه حتمية ولزاما نحو جعل دورها يقتصر على المساعدة والمواكبة للأشخاص اللامركزية بدل التدخل المباشر في عملية الإنتاج والتنمية المحلية، وعلى التقنين والتقويم العادل بدل مباشرة التسيير والتدبير.
وعلى صعيد آخر، وإذا كان التخفيف والتقليص الشكلي والعضوي لأجهزة المراقبة الإدارية للجماعات الترابية له كل هذه الأهمية والأبعاد التنموية والتحديثية الداخلية والخارجية، فإن هذه المسألة المتعلقة بضرورة تقليص أجهزة المراقبة الإدارية على الجماعات الترابية، ليست قضية إلغاء وحذف للأجهزة الرقابية فقط. بل مسألة جد معقدة لابد لها من تخطيط واستراتيجية ودراسة معمقة لتلك البنيات والأجهزة والهياكل، حتى يتم التخلص والاستغناء على أقلها أهمية وجدارة وكفاءة رقابية. أو على الأقل -وإن لم يكن ذلك ممكنا- فالتخلص من تلك التي تمارس نفس الوظائف والصلاحيات الرقابية، مع ترك أقلها تكلفة وأيسرها وطأة على الاستقلالية المالية والإدارية للجماعات الترابية.
وبالرجوع إلى الواقع العملي والممارساتي، نجد أنه صحيحا هناك العديد من التقارب والتقريبية في مهام واختصاصات بعض الجهات الرقابية، بل تصل بعض الأجهزة والجهات الرقابية أحيانا وفي بعض الحالات إلى حد التطابق والتماثل في الوظائف الرقابية . وهو الأمر الذي يقتضي ويستلزم الاستغناء عن إحداها أو بعضها أو أكثر، -إذا كان هناك أزيد من جهة رقابية تمارس نفس الصلاحية أو الاختصاص الرقابي- وذلك تجنبا لتضييع الجهود والوقت وإهدار الزمن التنموي وتفاديا للتكرار في الفعل الرقابي الذي يكون أحيانا بدون جدوى. وهذا التضخم بالتأكيد لا يمكن أن يكون هنا إلا مسألة سلبية معيبة ومعرقلة لأنشطة الجماعات الترابية، بل هو بعيد كل البعد عن الجودة والجدوى من الوصاية والرقابة الإدارية عموما.
إن تقليص أجهزة المراقبة الإدارية على الجماعات الترابية في المغرب مسألة ضرورية وأساسية، وتهدف إلى تبسيط الرقابة وتجويدها وتسهيلها. ومن ثم تيسير الحياة اليومية للمرتفق وتيسير نشاط الوحدات المنتخبة عموما، ومطاردة التعطيل والتعقيد والبيروقراطية بمفهومها السلبي في تدبير الشؤون العامة المحلية. فالأجهزة الوصائية والرقابية المرغوبة في هذا الصدد، هي تلك التي تؤدي أفضل رقابة ممكنة بأقل مجهود ممكن وفي أسرع وقت ممكن، مع أقل تكلفة مالية وبشرية ممكنة وفي أفضل الظروف الممكنة. ومن هنا ولكي يكون الأمر كذلك، لابد من الترشيد والعقلنة الشكلية والموضوعية لمنظومة الرقابة الإدارية الموجودة حاليا، وملاءمتها مع متطلبات الفعالية والنجاعة، ومع مستلزمات التنمية المحلية المستدامة والحكامة الترابية المنشودة.
ولعل من أولى الجهات والمكونات المعنية والمطالبة بتقليص أجهزتها الرقابية، هي وزارة الداخلية المشرفة على اللامركزية الترابية والإدارة المحلية المنتخبة. فإذا كان معلوما أن تلك الوزارة بمقتضى الإشراف هي المسؤولة عن الجماعات الترابية وتمارس عليها وصايتها بشكل مباشر، وهي عبارة عن مراقبة واسعة ودقيقة ومستمرة، بحيث تشمل جميع الأشخاص والأنشطة بالوحدات المنتخبة. فلماذا تم استحداث كل تلك الأجهزة والآليات الرقابية الأخرى؟ وأيا كان الرد والجواب عن هذا السؤال، فالترشيد والعقلنة الرقابية يقتضيان حذف وإلغاء بعض الأجهزة الرقابية وفي مقدمتها المفتشية العامة للمالية المحلية ، وإدماج بعض مهامها غير المالية ضمن اختصاصات ووظائف المفتشية العامة للإدارة الترابية. فوجودها (أي المفتشية العامة للمالية المحلية) إذا كان غير مبرر من الناحية العملية، لكون معظم مهامها أو بعضها يمارس من قبل الأجهزة والجهات الرقابية التابعة للوزارة المكلفة بالمالية، التي هي أكثر منها تخصصا واتقانا للعمليات الرقابية، فإن اختصاصها لا يمكن أن يكون إلا مضيعة للوقت وهدرا أو تبذيرا للمال العام المحلي، الذي قد تكون مجالات أخرى في أمس الحاجات إليه. ومن هنا لابد من إعادة النظر في وجود المفتشية العامة للمالية المحلية بشكل متواز، أو بالأحرى في إطار الإصلاحات الهيكلية المراد مباشرتها قبل الدخول الفعلي في تجربة اللامركزية المتقدمة والجهوية الموسعة.
ولكن في الحقيقة قبل هذا وذاك، لابد بل يجب على وزارة الداخلية إعادة النظر في مسألة تقاسم اختصاصاتها الوصائية مع ممثليها المحليين (العمال والولاة). تجاوزا لمشكلة التضخم والازدواجية في ممارسة تلك الاختصاصات وتدقيقا في تحديد المسؤوليات، بجعل الرقابة الوصائية من اختصاص مندوبيها الترابيين. وإذا كان هذا الأمر قد يطرح بعض الإشكالات والمخاوف أو الهواجس لدى الدولة كعادتها، في حالة منح الاختصاصات الوصائية بشكل مباشر من طرف السلطة التشريعية وبصريح النصوص للولاة والعمال، فإن الحل موجود وهو اللاتمركز الإداري، حيث يعتبر هذا الأسلوب دعامة أساسية لتحديث الدولة ومرافقها ، ومن ثم ممارسة الوصاية من طرف سلطة عدم التمركز الإداري. فأسلوب اللاتمركز إلى جانب أهميته في تقليص هياكل المراقبة الإدارية خاصة على مستوى وزارة الداخلية (هياكل الإدارة المركزية)، فهو يمكن الجماعات المحلية، من اتخاذ القرار بالسهولة والسرعة المطلوبتين، نظرا لقرب الولاة والعمال من تلك الجماعات واتصالهم بها بصفة مباشرة ودائمة. أضف إلى ذلك أن فكرة تقريب الوصاية من الجماعات الترابية سيضمن إنجاز العمل الوصائي بدقة وفعالية أكثر .
إن الملك محمد السادس ومنذ إعلانه عن انطلاق التحضير لورش الجهوية الموسعة، ما فتئ يؤكد على ضرورة تطوير اللاتمركز الواسع، حتى تتمكن الجهوية الْمُنْتَظَرَة من الرقي بالتنمية المحلية وبلوغ مستوى الحكامة الترابية. فقد جاء في خطابه الموجه إلى المشاركين في الملتقى الوطني حول الجماعات المحلية بأكادير "إن اعتزازنا بالخطوات الهامة التي قطعها نظامنا اللامركزي، لا يعادله إلا حرصنا على تثبيت دعائمه بنظام الجهوية الواسعة واللاتمركز الإداري... ومهما يكن تقدمنا في مجال ترسيخ النظام اللامركزي، فإنه سيظل ناقصا، ما لم يدعمه إصلاح نظام الجهات، وبناء أقطاب جهوية متجانسة، واعتماد التدبير غير المتمركز للشأن المحلي. لذا نعتبر أنه قد آن الأوان، للعمل على تسريع مسلسل اللاتمركز الإداري وتوسيع صلاحياته، باعتباره لازمة ضرورية، لمواكبة الجهوية الواسعة، ..." . ولعل المؤسسة الملكية في هذا الخطاب إذا كانت متحدثة عن أهمية اللاتمركز الإداري للجهوية واللامركزية بصفة عامة، وبمختلف تجلياته وتمظهراته، فإن المقصود هنا بالدرجة الأولى هو لاتمركز سلطات الوصاية.
هذا باختصار عن وزارة الداخلية وبعض ما يمكن بذله للتخفيف من التضخم، بتقليص أجهزة المراقبة الإدارية على الجماعات الترابية التابعة لها، أما بخصوص الوزارة المكلفة بقطاع المالية الممارس الثاني لسلطات الوصاية على تلك الجماعات، فإنه ينبغي عليها هي الأخرى أن تقلص من هياكلها وأجهزتها المتدخلة في ممارسة الرقابة الإدارية على المالية المحلية. وهنا نستحضر أن تلك الوزارة تمارس رقابتها من خلال المفتشية العامة للمالية والخزينة العامة للمملكة، وكذا من خلال المحاسبين العموميين المضطلعين بمسألة المراقبة المحاسبية للعمليات المالية أثناء التنفيذ بشكل مباشر . ولا ظن أن الأمر هنا لا يستدعي ولا يتطلب تدخل كل تلك الأجهزة -خاصة إذا علمنا أن لها العديد من الاختصاصات المتكررة والمتقاربة- فمن أجل تكريس الجودة والحكامة الترابية أصبح لزاما على الوزارة المكلفة بالمالية أن تعمل على إدماج تلك الأجهزة الثلاث وحوكمتها مع ترشيد وعقلنة اختصاصاتها.
ولما لا يتم في هذا الصدد أيضا، السعي والتفكير بجدية في مسألة إدماج بعض مصالح وأجهزة الرقابة الإدارية التابعة لوزارة الداخلية، في تلك التابعة للوزارة المكلفة بالمالية رسميا -خاصة تلك التي تمارس رقابة مالية صرفة- فالرقابة المالية ذات الطابع الإداري في الأصل هي اختصاص صرف لوزارة المالية. والجماعات الترابية أشخاص معنوية عامة تخضع للقانون العام ويجب أن تعمل تحت إشراف الدولة بمفهومها النسقي المتكامل، وليس لوزارة الداخلية وحدها، التي ترتبط في المخيال الشعبي المغربي بالأمن وبالهواجس الضبطية أكثر مما ترتبط بأمور أخرى.
ولعله بذلك سيندمج العمل الرقابي الإداري على المستوى المحلي من خلال ضمان وحدة التمثيلية الرقابية أولا، ثم من خلال وحدة التمثيلية ما بين أجهزة وزارة الداخلية المكلفة بالرقابة الإدارية، ونظيرتها التابعة للوزارة المكلفة بقطاع المالية المتقاربة في العمل والأنشطة المزاولة، وذلك باندماج المصالح التابعة لها في بنية إدارية واحدة. وهذا الأمر ليس إيجابيا بالنسبة لتقليص أجهزة المراقبة الإدارية على الجماعات الترابية لإرساء التجانس والتناسق والفعالية في النشاط الرقابي فقط، بل سيبسط النظام الرقابي على الجماعات الترابية عموما، كما سيمكن ذلك وفي نفس الإطار من تحديد مسؤولية الأجهزة المراقبة التي فشلت في أداء مهامها الرقابية قصد المحاسبة والمتابعة.
الفقرة الثانية: تخفيف التدخلات الرقابية الإدارية بالجماعات الترابية
لقد أجمع كل من تعرف على النظام الرقابي والوصائي المعتمد أو بالأحرى "المسلط" على الجماعات الترابية بالمغرب، أنه لابد ومن الضروري تخفيف التدخلات الرقابية ذات الصبغة الإدارية في شؤون تلك الجماعات. فالرقابة التي تمارسها الوزارة المكلفة بالمالية على الميزانية والشؤون المالية المحلية، صارمة وشديدة ومبالغ فيها، وهي بذلك معرقلة ومعيقة لاختصاصات وأنشطة الوحدات المنتخبة. الأمر الذي يستدعي بل يستلزم تخفيفها وتقليصها وملاءمتها مع متطلبات التنمية المحلية المستدامة ومقتضيات اللامركزية المتقدمة المقبلة.
أما الرقابة الإدارية أو بالأحرى الوصاية الإدارية التي تمارسها وزارة الداخلية، فهي أشد وطأة في هذا الصدد، بل هي السيف المسلط بقوة على الاستقلالية الإدارية والمالية للجماعات الترابية بالمغرب. ومن هنا لا يقتضي الأمر بالنسبة لتلك الرقابة تخفيفا وتقليصا وملاءمة -كما هو الأمر بالنسبة للرقابة التي تمارسها الوزارة المكلفة بالمالية فقط- بل يستلزم الواقع المحلي تغيير وتجديد فلسفتها ومنطق ممارستها جذريا وبشكل شامل. كما أنه لابد في هذا الإطار من إلغاء وحذف العديد من الاختصاصات والممارسات الرقابية المعرقلة التي باتت غير مرغوب فيها ، لاسيما وأن المغرب مقبل على الجهوية المتقدمة واللامركزية المتطورة التي لن تقوم لها قائمة إذا بقيت الرقابة الإدارية على حالها.
إن متطلبات الحكامة الترابية ومستلزمات التنمية المحلية أصبحت تفرض تجاوز مرحلة الوصاية الإدارية بمفهومها الضيق والتقليدي، والمتجلي في الرقابة الوصائية من أجل الرقابة، ومن أجل تكريس المقاربة الضبطية وتحكم الدولة في تلابيب الديمقراطية الترابية. حيث كانت وما تزال حجر عثرة تقف في طريق التنمية المحلية، ويتم ممارستها وفق منظور أمني احترازي ضيق، وكأن الغرض منها هو عرقلة وتعطيل أعمال الهيآت المنتخبة، وليس الأخذ بيد المنتخبين والذود عن المصلحة العامة. لكن في المقابل، هذا الطرح لا يقوم على إنكار وإلغاء الوصاية، ولا يعني بأي حال من الأحوال المطالبة باستقالة الدولة من مهام مراقبة المجال الترابي، بقدر ما يذهب في اتجاه ضرورة تقليص وترشيد وعقلنة أو حوكمة اختصاصات سلطات الوصاية، مع تخويل الهيئات المنتخبة مزيدا من الحرية ومن القدرة على المبادرة. فالرقابة الإدارية على الجماعات الترابية تظل خيارا لا محيد عنه، وفي نفس الوقت تعد ملاءمة الوصاية والرقابة مع متطلبات الحكامة المحلية ومستلزمات التنمية الشاملة المستدامة والمنشودة مطلبا لا بديل عنه، سواء تعلق الأمر برقابة وزارة الداخلية أو إلى حد ما بالرقابة التي تمارسها الوزارة المكلفة بالمالية.
وإذا كان منطق التدرج والتأني والانتقالية يتطلب الحذر من التحرر المفاجئ والموسع للجماعات الترابية، فإن استمرار الرقابة الإدارية على الشأن العام المحلي، لابد أن تصبح قائمة على بعض القواعد والمنطلقات الأساسية وهي على الخصوص:
- قاعدة التخفيف: وتقوم على حصر الرقابة الإدارية المركزية على المقررات المحلية تدريجيا، إلى أن يتم الاحتفاظ بالرقابة على أهمها وأكثرها تأثيرا وحساسية دون غيرها ؛
- قاعدة التقريب الزمني والمكاني: وتتمثل في تقليص الآجال الرقابية، وتقوية الدور الوصائي لممثلي الدولة (كيفا وليس كما) في إطار اللاتمركز الإداري نظرا لأهميته ، في تكريس مبدأ التقريب والترابية، وذلك شريطة أن يتم تشديد محاسبة أولئك الولاة والعمال إلى جانب المنتخبين، على الحصيلة والنتائج ومدى سرعة الإنجاز وجودة الأداء؛
- قاعدة الثنائية الفاعلة في الرقابة: وتقوم على أساس التخصص، وعلى أساس التقاسم المتكامل والمتلائم للاختصاصات الوصائية بين كل من وزارة الداخلية والوزارة المكلفة بالمالية، حيث أن الأولى لن تقوم إلا بما لا يمكن للثانية أن تقوم به بالشكل المطلوب والمتناسب، ونفس الشيء بالنسبة للثانية، فلن تتدخل إلا فيما تكون فيه الأدرى والأجدر بالتدخل؛
ولعل التجربة الفرنسية في مجال مراقبة الجماعات الترابية تعد نموذجية ورائدة، فالاختصاص الوصائي شهد تقليصا ملحوظا، نتيجة الاقتناع بكونه التحدي الحقيقي من أجل تكريس الحكامة في التنمية المحلية . ففي المجال الإداري أصبحت سلطات الوصاية محرومة من المراقبة السابقة على مقررات المجالس المنتخبة ، خاصة ما يتعلق بالمجالس الجهوية. وذلك على أساس تعويض تلك الرقابة بحق الدولة في اللجوء إلى القضاء الإداري، إذا لوحظ نوعا من عدم الشرعية في المقررات الجهوية أو قرارات رئيس الجهة. وفي الميدان المالي أصبحت سلطات الوصاية ملزمة بعرض شرعية معظم الأعمال المالية على رقابة المجالس الجهوية للحسابات، وليس لها الحق في أن تنفرد في الرقابة عليها. وعلى هذا الأساس، يمكن اعتبار رفع الوصاية من لدن المشرع الفرنسي على الجهات، بأنه لم يكن يهدف إلى ترك تلك الجهات عائمة كل في دائرة وظائفها وصلاحياتها واختصاصاتها ، بل كان ذلك دعما للتنمية وحفاظا على المصلحة العامة. إذ قام باستبدال أساليب الرقابة، في إطار منظور جديد ومتطور للرقابة الإدارية، وذلك حتى لا تنقطع أواصر الصلة بين الدولة والجهات، وحتى تظل تلك الصلة مبنية على إشراف ومواكبة الدولة مع الاحترام المتبادل والثقة المتقاسمة بينهما.
وجدير بالإشارة هنا، أن القوانين التنظيمية للجماعات الترابية الصادرة مؤخرا تنفيذا للدستور، إذا كانت قد جعلت القضاء الإداري هو المختص وحده بعزل الأعضاء، وللتصريح ببطلان مداولات مجالس الجماعات الترابية، وكذا وقف تنفيذ المقررات والقرارات التي قد تشوبها عيوب قانونية، فإنها في المقابل، وسعت بشكل كبير نفوذ العمال والولاة خاصة في بعض المجالات . هذا ناهيك عن الإبقاء على الرقابة المسبقة للقرارات المالية، مما سيؤدي إلى التحكم وبشكل كبير في مصير ميزانيات الجماعات الترابية عبر آلية التأشير عليها.
ولعل هذا الأمر مما يستدعي الانتباه له حيث ضرورة التعجيل بتداركه في القريب العاجل، فرغم أن الرقابة على شرعية مقررات وقرارات المجلس وعزل أعضائه تظل من اختصاص القضاء، فإن هذا الإجراء لا يمثل حصانة ضد انحراف السلطة من جانب سلطات الوصاية، سيما في ظل استمرار الرقابة المسبقة على القرار المالي. ومن ثم لابد من إلغاء هذه الرقابة الوصائية، خاصة بالنسبة للقرارات المالية التي تستدعي الاستعجال والسرعة لتدارك متطلبات التنمية، باعتماد المرونة، وبتقليص الآجال وتخفيف مضمون الرقابة الوصائية إلى أقصى حد ممكن.
إن كون الرقابة الوصائية تعتبر ركنا من أركان اللامركزية الإدارية الترابية، لا يعني بالضرورة ولا بأي حال من الأحوال، التمسك بالاتجاه التقليدي في تطبيق الوصاية والرقابة الإدارية. ذلك لأن التطبيق الجامد والصارم لهذا المبدأ، سيعمل لا محالة على المس بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي والإداري للوحدات المحلية، حتى وإن تم إدخال القضاء الإداري. فالديمقراطية المحلية لا تقبل بالإخضاع الشامل لمقررات وأعمال الهيئات المحلية للرقابة المسبقة من طرف سلطات الوصاية. كما لا تقبل وبنفس القدر أو ربما أكثر بتلك الآجال الرقابية التي كانت ممنوحة لسلطات الوصاية، قصد إبداء أراءها ومواقفها وإعداد جوابها على نشاط أو فعل أو تصرف تريد جماعة ترابية معينة القيام به. أو بالنسبة للآجال التي ستمنح لها عندما تدخل القوانين التنظيمية حيز التنفيذ. فتلك الآجال رغم تقليصها شيئا ما مقارنة مع ما كان في السابق ، فإننا نرى أنها مازالت طويلة قد تعرقل عمل الجماعات الترابية، وبالتالي حبذ لو يتم تقليصها أكثر.
وبالرجوع إلى مسألة اللاتمركز الإداري في المجال الوصائي نجدها أساسية ومهمة للنجاعة الرقابية والتقريب الزماني والمكاني لها، حيث تؤسس لحوار مباشر بين الدولة والجماعات المحلية . فأسلوب عدم التركيز الإداري -كما هو معلوم- إلى جانب كونه يحقق السرعة في إنجاز الخدمات الإدارية، لاسيما في الأماكن النائية عن العاصمة. ويجعل المواطن في قلب المرفق العمومي، من خلال ضمان علاقة فعالة بين المرتفق والإدارة، فهو يؤدي إلى تجويد العلاقة القائمة بين الإدارة المركزية والمصالح الخارجية من جهة، وبشكل أساسي بين الدولة والجماعات المحلية من جهة أخرى . ولعله لهذا السبب فقد جاء في خطاب للملك بمناسبة الذكرى الثامنة لعيد العرش "وترسيخا للحكامة الترابية، فإننا مصممون على توطيد اللاتمركز والجهوية مع وجوب تلازم الجهوية الناجعة، مع تفعيل نظام اللاتمركز الواسع والملموس، ...." . أما في خطابه بمناسبة الذكرى الثالثة والثلاثين للمسيرة الخضراء فقد بدا الملك أكثر تأكيدا وعزما على ضرورة إصلاح وتحديث نظام اللاتمركز بحيث بعد تذكيره بأنه "مهما وفرنا للجهوية من تقدم، فستظل محدودة، ما لم تقترن بتعزيز مسار اللاتمركز" قرر أنه من أجل ذلك، "يتعين إعطاء دفعة قوية لعمل الدولة على المستوى الترابي، خاصة في مجال إعادة تنظيم الإدارة المحلية وجعلها أكثر تناسقا وفعالية ..." .
ولا شك هنا أن ذلك الحرص الملكي على ضرورة تحديث نظام اللاتمركز وتوسيعه بشكل متلازم مع الجهوية المتقدمة في خطاباته المختلفة، ليس تأكيدا عاديا، بل هو نتاج تفكير وتجربة عميقة. ذلك لأن اللامركزية ببلادنا وعلى الرغم مما بلغته من تقدم فقد كان بإمكانها أن تبلغ أكثر لو تم تعضيدها بسياسة محكمة في ميدان اللاتمركز الإداري خاصة في المجال الوصائي.
ومن جهة أخرى، فإن ذلك التأكيد مع استعمال كلمة "الواسع" و"المتقدم" هو تنبيه للجهات المعنية على أن اللاتمركز المراد ترسيخه، ليس ذلك المعهود في إدارتنا والذي بمقتضاه كانت الحكومة "تتخلص من بعض صلاحياتها الثانوية التي تثقل كاهل الإدارة المركزية" . بل إن اللاتمركز المقصود هنا هو ذلك الذي يقوم على إعادة التوزيع الواضح والدقيق للسلط والاختصاصات لا سيما الوصائية منها بين المركزي والترابي، مع تكاملهما (اللامركزية واللاتمركز) في إطار مشروع وطني متماسك ومندمج. ومع خضوع سلطات أولئك الولاة والعمال لمحاسبة ومراقبة الدولة باستمرار، قصد تأهيلها وتقويمها وملاءمتها لمتطلبات الاستقلالية الإدارية والمالية للجماعات الترابية.
ولعله امتثالا لتصور المؤسسة الملكية حول الرقابة الوصائية، وتكريسا للمفهوم الجديد للسلطة الذي يحتم منطقيا إلغاء -أو على الأقل- التخفيف بشكل ملموس من الوصاية التقليدية وتمتيع الجماعات الترابية باستقلالية إدارية ومالية كبيرة ، فقد تم التأكيد بصريح العبارة في تقرير اللجنة الاستشارية حول الجهوية المتقدمة، على ضرورة التخلي عن الوصاية بمفهومها الكلاسيكي، وتعويضها بمراقبة أكثر حداثة ومرونة. حيث تتمتع بمقتضاها الجماعات الترابية بحرية أكبر وسلطات مهمة وهامش أوسع للمبادرة، وذلك مع مراعاة ضرورة إشراف الدولة على أنشطة المجالس الجهوية، وباقي المجالس المنتخبة، ومراقبتها المستمرة والدائمة لتلك الانشطة.
إن من مقتضيات المرونة التي نص عليها التقرير في هذا الصدد، هي ضرورة وضع استراتيجية علمية لإعادة النظر في المقاربة التقليدية "ﻟﻠﻭﺼﺎﻴﺔ"، وذلك بالحد التدريجي من المراقبة القبلية ومن مراقبة الملاءمة. ﻭكذا تقوية التقييم وتعزيز المراقبة البعدية، مع الحفاظ على المراقبة القبلية للشرعية، شريطة أن لا يترتب على اللجوء إلى القضاء توقيف تنفيذ المقررات، إلا بقرار من المحكمة المختصة . ولعل هذه التوجيهات هي التي حاولت القوانين التنظيمية تكريسها، لكن ذلك مازال دون المستوى المطلوب. فالدولة مازالت لم تستطع بعد التخلص من عقدة التحكم في المجال الترابي، وهو ما يبدوا بوضوح على المستوى المالي، حيث الإبقاء على التأشير المسبق في القوانين التنظيمية الجديدة.
وخلاصة في هذا الإطار، يمكن القول أنه رغم تلك الاقتراحات الواردة في التقرير والتي تم تكريس البعض منها في القوانين التنظيمية، والرامية إلى تكريس الديمقراطية الترابية، وتوسيع اختصاصات الوحدات المحلية، والتخفيف من حدة الوصاية والرقابة المسبقة ، فإنه لا يمكن للجهوية المتقدمة أن تحقق التنمية المندمجة والمستدامة المنشودة بدون وجود الإرادة الحقيقية لدى الموارد البشرية، والارتقاء بالممارسة. فقد أثبت الواقع المعاش والتجربة التي راكمها واكتسبها المغرب بخصوص الإصلاح منذ الاستقلال، أن الخطاب السياسي مهما كان متفائلا والنصوص مهما كانت متقدمة، فهي تظل وتبقى دائما عاجزة في ظل غياب الإرادة الحقيقية وتدني الممارسة.
لقد أجمع كل من تعرف على النظام الرقابي والوصائي المعتمد أو بالأحرى "المسلط" على الجماعات الترابية بالمغرب، أنه لابد ومن الضروري تخفيف التدخلات الرقابية ذات الصبغة الإدارية في شؤون تلك الجماعات. فالرقابة التي تمارسها الوزارة المكلفة بالمالية على الميزانية والشؤون المالية المحلية، صارمة وشديدة ومبالغ فيها، وهي بذلك معرقلة ومعيقة لاختصاصات وأنشطة الوحدات المنتخبة. الأمر الذي يستدعي بل يستلزم تخفيفها وتقليصها وملاءمتها مع متطلبات التنمية المحلية المستدامة ومقتضيات اللامركزية المتقدمة المقبلة.
أما الرقابة الإدارية أو بالأحرى الوصاية الإدارية التي تمارسها وزارة الداخلية، فهي أشد وطأة في هذا الصدد، بل هي السيف المسلط بقوة على الاستقلالية الإدارية والمالية للجماعات الترابية بالمغرب. ومن هنا لا يقتضي الأمر بالنسبة لتلك الرقابة تخفيفا وتقليصا وملاءمة -كما هو الأمر بالنسبة للرقابة التي تمارسها الوزارة المكلفة بالمالية فقط- بل يستلزم الواقع المحلي تغيير وتجديد فلسفتها ومنطق ممارستها جذريا وبشكل شامل. كما أنه لابد في هذا الإطار من إلغاء وحذف العديد من الاختصاصات والممارسات الرقابية المعرقلة التي باتت غير مرغوب فيها ، لاسيما وأن المغرب مقبل على الجهوية المتقدمة واللامركزية المتطورة التي لن تقوم لها قائمة إذا بقيت الرقابة الإدارية على حالها.
إن متطلبات الحكامة الترابية ومستلزمات التنمية المحلية أصبحت تفرض تجاوز مرحلة الوصاية الإدارية بمفهومها الضيق والتقليدي، والمتجلي في الرقابة الوصائية من أجل الرقابة، ومن أجل تكريس المقاربة الضبطية وتحكم الدولة في تلابيب الديمقراطية الترابية. حيث كانت وما تزال حجر عثرة تقف في طريق التنمية المحلية، ويتم ممارستها وفق منظور أمني احترازي ضيق، وكأن الغرض منها هو عرقلة وتعطيل أعمال الهيآت المنتخبة، وليس الأخذ بيد المنتخبين والذود عن المصلحة العامة. لكن في المقابل، هذا الطرح لا يقوم على إنكار وإلغاء الوصاية، ولا يعني بأي حال من الأحوال المطالبة باستقالة الدولة من مهام مراقبة المجال الترابي، بقدر ما يذهب في اتجاه ضرورة تقليص وترشيد وعقلنة أو حوكمة اختصاصات سلطات الوصاية، مع تخويل الهيئات المنتخبة مزيدا من الحرية ومن القدرة على المبادرة. فالرقابة الإدارية على الجماعات الترابية تظل خيارا لا محيد عنه، وفي نفس الوقت تعد ملاءمة الوصاية والرقابة مع متطلبات الحكامة المحلية ومستلزمات التنمية الشاملة المستدامة والمنشودة مطلبا لا بديل عنه، سواء تعلق الأمر برقابة وزارة الداخلية أو إلى حد ما بالرقابة التي تمارسها الوزارة المكلفة بالمالية.
وإذا كان منطق التدرج والتأني والانتقالية يتطلب الحذر من التحرر المفاجئ والموسع للجماعات الترابية، فإن استمرار الرقابة الإدارية على الشأن العام المحلي، لابد أن تصبح قائمة على بعض القواعد والمنطلقات الأساسية وهي على الخصوص:
- قاعدة التخفيف: وتقوم على حصر الرقابة الإدارية المركزية على المقررات المحلية تدريجيا، إلى أن يتم الاحتفاظ بالرقابة على أهمها وأكثرها تأثيرا وحساسية دون غيرها ؛
- قاعدة التقريب الزمني والمكاني: وتتمثل في تقليص الآجال الرقابية، وتقوية الدور الوصائي لممثلي الدولة (كيفا وليس كما) في إطار اللاتمركز الإداري نظرا لأهميته ، في تكريس مبدأ التقريب والترابية، وذلك شريطة أن يتم تشديد محاسبة أولئك الولاة والعمال إلى جانب المنتخبين، على الحصيلة والنتائج ومدى سرعة الإنجاز وجودة الأداء؛
- قاعدة الثنائية الفاعلة في الرقابة: وتقوم على أساس التخصص، وعلى أساس التقاسم المتكامل والمتلائم للاختصاصات الوصائية بين كل من وزارة الداخلية والوزارة المكلفة بالمالية، حيث أن الأولى لن تقوم إلا بما لا يمكن للثانية أن تقوم به بالشكل المطلوب والمتناسب، ونفس الشيء بالنسبة للثانية، فلن تتدخل إلا فيما تكون فيه الأدرى والأجدر بالتدخل؛
ولعل التجربة الفرنسية في مجال مراقبة الجماعات الترابية تعد نموذجية ورائدة، فالاختصاص الوصائي شهد تقليصا ملحوظا، نتيجة الاقتناع بكونه التحدي الحقيقي من أجل تكريس الحكامة في التنمية المحلية . ففي المجال الإداري أصبحت سلطات الوصاية محرومة من المراقبة السابقة على مقررات المجالس المنتخبة ، خاصة ما يتعلق بالمجالس الجهوية. وذلك على أساس تعويض تلك الرقابة بحق الدولة في اللجوء إلى القضاء الإداري، إذا لوحظ نوعا من عدم الشرعية في المقررات الجهوية أو قرارات رئيس الجهة. وفي الميدان المالي أصبحت سلطات الوصاية ملزمة بعرض شرعية معظم الأعمال المالية على رقابة المجالس الجهوية للحسابات، وليس لها الحق في أن تنفرد في الرقابة عليها. وعلى هذا الأساس، يمكن اعتبار رفع الوصاية من لدن المشرع الفرنسي على الجهات، بأنه لم يكن يهدف إلى ترك تلك الجهات عائمة كل في دائرة وظائفها وصلاحياتها واختصاصاتها ، بل كان ذلك دعما للتنمية وحفاظا على المصلحة العامة. إذ قام باستبدال أساليب الرقابة، في إطار منظور جديد ومتطور للرقابة الإدارية، وذلك حتى لا تنقطع أواصر الصلة بين الدولة والجهات، وحتى تظل تلك الصلة مبنية على إشراف ومواكبة الدولة مع الاحترام المتبادل والثقة المتقاسمة بينهما.
وجدير بالإشارة هنا، أن القوانين التنظيمية للجماعات الترابية الصادرة مؤخرا تنفيذا للدستور، إذا كانت قد جعلت القضاء الإداري هو المختص وحده بعزل الأعضاء، وللتصريح ببطلان مداولات مجالس الجماعات الترابية، وكذا وقف تنفيذ المقررات والقرارات التي قد تشوبها عيوب قانونية، فإنها في المقابل، وسعت بشكل كبير نفوذ العمال والولاة خاصة في بعض المجالات . هذا ناهيك عن الإبقاء على الرقابة المسبقة للقرارات المالية، مما سيؤدي إلى التحكم وبشكل كبير في مصير ميزانيات الجماعات الترابية عبر آلية التأشير عليها.
ولعل هذا الأمر مما يستدعي الانتباه له حيث ضرورة التعجيل بتداركه في القريب العاجل، فرغم أن الرقابة على شرعية مقررات وقرارات المجلس وعزل أعضائه تظل من اختصاص القضاء، فإن هذا الإجراء لا يمثل حصانة ضد انحراف السلطة من جانب سلطات الوصاية، سيما في ظل استمرار الرقابة المسبقة على القرار المالي. ومن ثم لابد من إلغاء هذه الرقابة الوصائية، خاصة بالنسبة للقرارات المالية التي تستدعي الاستعجال والسرعة لتدارك متطلبات التنمية، باعتماد المرونة، وبتقليص الآجال وتخفيف مضمون الرقابة الوصائية إلى أقصى حد ممكن.
إن كون الرقابة الوصائية تعتبر ركنا من أركان اللامركزية الإدارية الترابية، لا يعني بالضرورة ولا بأي حال من الأحوال، التمسك بالاتجاه التقليدي في تطبيق الوصاية والرقابة الإدارية. ذلك لأن التطبيق الجامد والصارم لهذا المبدأ، سيعمل لا محالة على المس بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي والإداري للوحدات المحلية، حتى وإن تم إدخال القضاء الإداري. فالديمقراطية المحلية لا تقبل بالإخضاع الشامل لمقررات وأعمال الهيئات المحلية للرقابة المسبقة من طرف سلطات الوصاية. كما لا تقبل وبنفس القدر أو ربما أكثر بتلك الآجال الرقابية التي كانت ممنوحة لسلطات الوصاية، قصد إبداء أراءها ومواقفها وإعداد جوابها على نشاط أو فعل أو تصرف تريد جماعة ترابية معينة القيام به. أو بالنسبة للآجال التي ستمنح لها عندما تدخل القوانين التنظيمية حيز التنفيذ. فتلك الآجال رغم تقليصها شيئا ما مقارنة مع ما كان في السابق ، فإننا نرى أنها مازالت طويلة قد تعرقل عمل الجماعات الترابية، وبالتالي حبذ لو يتم تقليصها أكثر.
وبالرجوع إلى مسألة اللاتمركز الإداري في المجال الوصائي نجدها أساسية ومهمة للنجاعة الرقابية والتقريب الزماني والمكاني لها، حيث تؤسس لحوار مباشر بين الدولة والجماعات المحلية . فأسلوب عدم التركيز الإداري -كما هو معلوم- إلى جانب كونه يحقق السرعة في إنجاز الخدمات الإدارية، لاسيما في الأماكن النائية عن العاصمة. ويجعل المواطن في قلب المرفق العمومي، من خلال ضمان علاقة فعالة بين المرتفق والإدارة، فهو يؤدي إلى تجويد العلاقة القائمة بين الإدارة المركزية والمصالح الخارجية من جهة، وبشكل أساسي بين الدولة والجماعات المحلية من جهة أخرى . ولعله لهذا السبب فقد جاء في خطاب للملك بمناسبة الذكرى الثامنة لعيد العرش "وترسيخا للحكامة الترابية، فإننا مصممون على توطيد اللاتمركز والجهوية مع وجوب تلازم الجهوية الناجعة، مع تفعيل نظام اللاتمركز الواسع والملموس، ...." . أما في خطابه بمناسبة الذكرى الثالثة والثلاثين للمسيرة الخضراء فقد بدا الملك أكثر تأكيدا وعزما على ضرورة إصلاح وتحديث نظام اللاتمركز بحيث بعد تذكيره بأنه "مهما وفرنا للجهوية من تقدم، فستظل محدودة، ما لم تقترن بتعزيز مسار اللاتمركز" قرر أنه من أجل ذلك، "يتعين إعطاء دفعة قوية لعمل الدولة على المستوى الترابي، خاصة في مجال إعادة تنظيم الإدارة المحلية وجعلها أكثر تناسقا وفعالية ..." .
ولا شك هنا أن ذلك الحرص الملكي على ضرورة تحديث نظام اللاتمركز وتوسيعه بشكل متلازم مع الجهوية المتقدمة في خطاباته المختلفة، ليس تأكيدا عاديا، بل هو نتاج تفكير وتجربة عميقة. ذلك لأن اللامركزية ببلادنا وعلى الرغم مما بلغته من تقدم فقد كان بإمكانها أن تبلغ أكثر لو تم تعضيدها بسياسة محكمة في ميدان اللاتمركز الإداري خاصة في المجال الوصائي.
ومن جهة أخرى، فإن ذلك التأكيد مع استعمال كلمة "الواسع" و"المتقدم" هو تنبيه للجهات المعنية على أن اللاتمركز المراد ترسيخه، ليس ذلك المعهود في إدارتنا والذي بمقتضاه كانت الحكومة "تتخلص من بعض صلاحياتها الثانوية التي تثقل كاهل الإدارة المركزية" . بل إن اللاتمركز المقصود هنا هو ذلك الذي يقوم على إعادة التوزيع الواضح والدقيق للسلط والاختصاصات لا سيما الوصائية منها بين المركزي والترابي، مع تكاملهما (اللامركزية واللاتمركز) في إطار مشروع وطني متماسك ومندمج. ومع خضوع سلطات أولئك الولاة والعمال لمحاسبة ومراقبة الدولة باستمرار، قصد تأهيلها وتقويمها وملاءمتها لمتطلبات الاستقلالية الإدارية والمالية للجماعات الترابية.
ولعله امتثالا لتصور المؤسسة الملكية حول الرقابة الوصائية، وتكريسا للمفهوم الجديد للسلطة الذي يحتم منطقيا إلغاء -أو على الأقل- التخفيف بشكل ملموس من الوصاية التقليدية وتمتيع الجماعات الترابية باستقلالية إدارية ومالية كبيرة ، فقد تم التأكيد بصريح العبارة في تقرير اللجنة الاستشارية حول الجهوية المتقدمة، على ضرورة التخلي عن الوصاية بمفهومها الكلاسيكي، وتعويضها بمراقبة أكثر حداثة ومرونة. حيث تتمتع بمقتضاها الجماعات الترابية بحرية أكبر وسلطات مهمة وهامش أوسع للمبادرة، وذلك مع مراعاة ضرورة إشراف الدولة على أنشطة المجالس الجهوية، وباقي المجالس المنتخبة، ومراقبتها المستمرة والدائمة لتلك الانشطة.
إن من مقتضيات المرونة التي نص عليها التقرير في هذا الصدد، هي ضرورة وضع استراتيجية علمية لإعادة النظر في المقاربة التقليدية "ﻟﻠﻭﺼﺎﻴﺔ"، وذلك بالحد التدريجي من المراقبة القبلية ومن مراقبة الملاءمة. ﻭكذا تقوية التقييم وتعزيز المراقبة البعدية، مع الحفاظ على المراقبة القبلية للشرعية، شريطة أن لا يترتب على اللجوء إلى القضاء توقيف تنفيذ المقررات، إلا بقرار من المحكمة المختصة . ولعل هذه التوجيهات هي التي حاولت القوانين التنظيمية تكريسها، لكن ذلك مازال دون المستوى المطلوب. فالدولة مازالت لم تستطع بعد التخلص من عقدة التحكم في المجال الترابي، وهو ما يبدوا بوضوح على المستوى المالي، حيث الإبقاء على التأشير المسبق في القوانين التنظيمية الجديدة.
وخلاصة في هذا الإطار، يمكن القول أنه رغم تلك الاقتراحات الواردة في التقرير والتي تم تكريس البعض منها في القوانين التنظيمية، والرامية إلى تكريس الديمقراطية الترابية، وتوسيع اختصاصات الوحدات المحلية، والتخفيف من حدة الوصاية والرقابة المسبقة ، فإنه لا يمكن للجهوية المتقدمة أن تحقق التنمية المندمجة والمستدامة المنشودة بدون وجود الإرادة الحقيقية لدى الموارد البشرية، والارتقاء بالممارسة. فقد أثبت الواقع المعاش والتجربة التي راكمها واكتسبها المغرب بخصوص الإصلاح منذ الاستقلال، أن الخطاب السياسي مهما كان متفائلا والنصوص مهما كانت متقدمة، فهي تظل وتبقى دائما عاجزة في ظل غياب الإرادة الحقيقية وتدني الممارسة.
خاتـمة
تعتبر الرقابة على الجماعات المحلية كأشخاص معنوية عامة تم إحداثها بمقتضى اللامركزية الترابية، مسألة ضرورية وحتمية لابد منها في النموذج المغربي، فالدولة موحدة محسوم في أمرها تاريخيا ودستوريا، واللامركزية إدارية ترابية ستقوم على الجهوية المتقدمة بعد تبني القوانين التنظيمية المذكورة، ولن تصل درجة اللامركزية السياسية في جميع الظروف والأحوال. والرقابة هنا، خاصة الإدارية، إذا كانت تشكل المقابل الموضوعي لمفهوم الاستقلالية، وهما (أي الرقابة والاستقلالية) ركنان أساسيان في اللامركزية الإدارية الترابية، بحيث قد يصلان أحيانا إلى حد "التناقض" والتنافر إذا تم تغليب أحدهما عن الآخر، فإنه بسبب ذلك، وقصد ضمان التطور المنشود لسياسة اللامركزية الترابية، لا ينبغي التوقف عن التفكير المتواصل فيهما، قصد الموازنة والملاءمة والتوفيق بينهما باستمرار.
ولعل الملاءمة الدائمة، والمواءمة المستمرة المتواصلة إذا كانت مهمة وضرورية من أجل استمرارية الممارسة اللامركزية الترابية، فإنها قد تزداد أهمية، وتصبح لزاما على المسؤولين أحيانا وفي بعض الحالات عندما يقع تضارب بين المبدأين. وبصفة خاصة إذا تعلق الأمر بدولة نامية متطلعة نحو الأفضل، كالمملكة المغربية، حيث التحديات منذ الاستقلال كثيرة والمشاكل متعددة، والمؤثرات الداخلية والخارجية متنوعة بين سلبية وايجابية، وأخرى تتوقف طبيعتها على كيفية التعامل معها. ففي الوقت الذي تسعى فيه القوى الحية في المجتمع نحو التكريس الحقيقي للديمقراطية والتنمية الترابية، وإرساء دولة الحق والقانون، والتي من أبرز مظاهرها تقوية سياسة اللامركزية الترابية، وقوامها الرقابة الملائمة وربط المسؤولية بالمحاسبة، تعترض المغرب عوارض مختلفة، أبرزها إشكال الهاجس الأمني والصرامة الرقابية، ومن ثم محدودية تنزيل مبادئ الحكامة التي جاء بها الدستور الجديد وضعف الجودة في التدخلات العمومية.
وإذا كان السعي نحو التطور والتقدم والتحول الإيجابي والرغبة في تحقيق التنمية المستدامة من خلال تعزيز المقاربة الترابية، يعتبر مطلبا ملحا من قبل المواطنين، ولا يمكن بلوغه إلا بتكريس الاستقلال الإداري والمالي الحقيقي للوحدات المحلية المنتخبة، فإن هاجس الحفاظ على وحدة الدولة وقوتها وسلطاتها ومركزيتها، بل وامتيازاتها وتحكمها، ظل دائما حاضرا وبقوة لدى مختلف المسؤولين خاصة المركزيين، وفي مختلف المراحل التي مرت منها اللامركزية الترابية بالمغرب. وهكذا كان لذلك الهدفين (تكريس استقلالية الجماعات الترابية ورغبة احتكار السلطة) انعكاسات وتداعيات بارزة على مقاربة الدولة للمسألة التنموية المحلية، ومن ثم على منهجها في الرقابة على الجماعات الترابية عموما. حيث تأرجحت السياسة العامة للدولة في مجال اللامركزية الإدارية الترابية بين خدمة الهدفين المتناقضين تحت غطاء مبدأي الاستقلالية والرقابة مع تغليب الثاني عن الأول للأهداف المذكورة.
ولعله لا أدل على ذلك، من تلك الفجوة العميقة والمفارقة الصارخة، التي ظلت دائما حاضرة قائمة بين الخطاب والقانون والممارسة بخصوص سياسة اللامركزية الترابية. ففي الوقت الذي كان ومازال الأسلوب اللامركزي يحتل فيه مكانة خاصة ومتميزة على مستوى الخطاب السياسي الرسمي، وكانت النصوص القانونية قد حملت بعضا من تلك التوجهات السياسية دون أن تصل إلى المستوى المطلوب، نجد أن الممارسة والواقع العملي شيء أخر، حيث تكرست الرقابة الصارمة والمشددة والمبالغ فيها عمليا وتطبيقيا. فالممارسة في المغرب غالبا ما تشكل عقبة كؤود وحجر عثرة في طريق الجهود والمبادرات الإصلاحية المتخذة. ولعل هذه المفارقة والوضعية المختلة تفسر بالأساس بوجود خلل وارتياب بالنسبة إلى نهج سياسة حقيقية واضحة ودقيقة في ميدان اللامركزية الترابية بصفة عامة، وفي المجال الرقابي بصفة خاصة. ومن هنا وإذا كانت القوانين التنظيمية الصادرة مؤخرا، قد جاءت ببعض المقتضيات الإيجابية بخصوص الرقابة محاولة تجاوز بعض اختلالات النظام الرقابي السابق، فإن الحسم والفصل ستعود للممارسة العملية على أرض الواقع.
إن الرقابة الإدارية متمثلة في وصاية وزارة الداخلية ومراقبة الوزارة المكلفة بالمالية، إذا كانت تشكل أهم مكون من مكونات نظام الرقابة على الجماعات الترابية بالمغرب، فإنها تعتبر أكثر المظاهر والتجليات الرقابية اختلالا وتأثيرا بالنسبة للتنمية المحلية بصفة خاصة، وللحكامة الترابية عموما. لكن في المقابل، فإن الحقيقة التي لا ريب فيها هي أن الوصاية أو الرقابة الإدارية بصفة عامة، رغم شدتها وصرامتها وتضخم الأجهزة الممارسة لها، ورغم الحاجة الملحة إلى تحديثها تقليصا من هياكلها وتخفيفا من تدخلاتها، فإنه لا يمكن الاستغناء عنها بشكل كلي وكامل وتعويضها بالرقابة القضائية الصرفة. وذلك أولا، لأن ممارسة الرقابة الإدارية على الجماعات الترابية من طرف الدولة، تعتبر ركنا من أركان اللامركزية الترابية، ثم نظرا لكون تلك الرقابة تتسم بالقرب والشمولية. فالرقابة الإدارية ورغم الانتقادات الموجهة إليها تبقى هي الأقرب للجماعات المحلية، وهي قاب قوسين أو أدنى دائما من خباياها ومشاكلها. أما من حيث نطاقها فهي الأكثر تدقيقا وشمولية، بحيث تشمل جميع وظائف واختصاصات الوحدات المحلية المنتخبة، ومن هنا تأتي أهميتها ومكانتها، خاصة إذا تمت ملاءمتها لمتطلبات الجماعات المحلية ولمستلزمات التنمية والحكامة الترابية مستقبلا، وتم ترشيدها وتهذيبها ولجمها بإشراك القضاء الإداري في ممارستها.
وإذا كان هذا الأمر يعتبر من بين المحاولات الإيجابية المحسوبة إلى حد ما لقوانين التنظيمية الصادرة مؤخرا، حيث تم إدخال القضاء الإداري في الرقابة الإدارية (الوصائية) كمشرف عليها، يعود له الحسم في العديد من الممارسات الرقابية، مع الإبقاء على الرقابة الإدارية، فإنه في المقابل، لم يتم رفع يد وزارة الداخلية على الجماعات الترابية من خلال تعويضها بجهة مشرفة أخرى. بل كرست النصوص الجديدة -وإلى جانب الاحتفاظ بالعديد من الممارسات الوصائية الصرفة العائدة لسلطات الوصاية دون إشراف القضاء الإداري عليها- إصلاحا أو بالأحرى تغييرا شكليا ليس إلا. حيث عوضت عبارة وزارة الداخلية بعبارة السلطة الحكومية المكلفة بالداخلية، ولا شك أن إبدال التسمية لتغيير الصورة النمطية الماثلة في الذهن لدى المواطن حول الوصاية، ليس إصلاحا، بل يمكن قراءته قراءة عكسية.
تعتبر الرقابة على الجماعات المحلية كأشخاص معنوية عامة تم إحداثها بمقتضى اللامركزية الترابية، مسألة ضرورية وحتمية لابد منها في النموذج المغربي، فالدولة موحدة محسوم في أمرها تاريخيا ودستوريا، واللامركزية إدارية ترابية ستقوم على الجهوية المتقدمة بعد تبني القوانين التنظيمية المذكورة، ولن تصل درجة اللامركزية السياسية في جميع الظروف والأحوال. والرقابة هنا، خاصة الإدارية، إذا كانت تشكل المقابل الموضوعي لمفهوم الاستقلالية، وهما (أي الرقابة والاستقلالية) ركنان أساسيان في اللامركزية الإدارية الترابية، بحيث قد يصلان أحيانا إلى حد "التناقض" والتنافر إذا تم تغليب أحدهما عن الآخر، فإنه بسبب ذلك، وقصد ضمان التطور المنشود لسياسة اللامركزية الترابية، لا ينبغي التوقف عن التفكير المتواصل فيهما، قصد الموازنة والملاءمة والتوفيق بينهما باستمرار.
ولعل الملاءمة الدائمة، والمواءمة المستمرة المتواصلة إذا كانت مهمة وضرورية من أجل استمرارية الممارسة اللامركزية الترابية، فإنها قد تزداد أهمية، وتصبح لزاما على المسؤولين أحيانا وفي بعض الحالات عندما يقع تضارب بين المبدأين. وبصفة خاصة إذا تعلق الأمر بدولة نامية متطلعة نحو الأفضل، كالمملكة المغربية، حيث التحديات منذ الاستقلال كثيرة والمشاكل متعددة، والمؤثرات الداخلية والخارجية متنوعة بين سلبية وايجابية، وأخرى تتوقف طبيعتها على كيفية التعامل معها. ففي الوقت الذي تسعى فيه القوى الحية في المجتمع نحو التكريس الحقيقي للديمقراطية والتنمية الترابية، وإرساء دولة الحق والقانون، والتي من أبرز مظاهرها تقوية سياسة اللامركزية الترابية، وقوامها الرقابة الملائمة وربط المسؤولية بالمحاسبة، تعترض المغرب عوارض مختلفة، أبرزها إشكال الهاجس الأمني والصرامة الرقابية، ومن ثم محدودية تنزيل مبادئ الحكامة التي جاء بها الدستور الجديد وضعف الجودة في التدخلات العمومية.
وإذا كان السعي نحو التطور والتقدم والتحول الإيجابي والرغبة في تحقيق التنمية المستدامة من خلال تعزيز المقاربة الترابية، يعتبر مطلبا ملحا من قبل المواطنين، ولا يمكن بلوغه إلا بتكريس الاستقلال الإداري والمالي الحقيقي للوحدات المحلية المنتخبة، فإن هاجس الحفاظ على وحدة الدولة وقوتها وسلطاتها ومركزيتها، بل وامتيازاتها وتحكمها، ظل دائما حاضرا وبقوة لدى مختلف المسؤولين خاصة المركزيين، وفي مختلف المراحل التي مرت منها اللامركزية الترابية بالمغرب. وهكذا كان لذلك الهدفين (تكريس استقلالية الجماعات الترابية ورغبة احتكار السلطة) انعكاسات وتداعيات بارزة على مقاربة الدولة للمسألة التنموية المحلية، ومن ثم على منهجها في الرقابة على الجماعات الترابية عموما. حيث تأرجحت السياسة العامة للدولة في مجال اللامركزية الإدارية الترابية بين خدمة الهدفين المتناقضين تحت غطاء مبدأي الاستقلالية والرقابة مع تغليب الثاني عن الأول للأهداف المذكورة.
ولعله لا أدل على ذلك، من تلك الفجوة العميقة والمفارقة الصارخة، التي ظلت دائما حاضرة قائمة بين الخطاب والقانون والممارسة بخصوص سياسة اللامركزية الترابية. ففي الوقت الذي كان ومازال الأسلوب اللامركزي يحتل فيه مكانة خاصة ومتميزة على مستوى الخطاب السياسي الرسمي، وكانت النصوص القانونية قد حملت بعضا من تلك التوجهات السياسية دون أن تصل إلى المستوى المطلوب، نجد أن الممارسة والواقع العملي شيء أخر، حيث تكرست الرقابة الصارمة والمشددة والمبالغ فيها عمليا وتطبيقيا. فالممارسة في المغرب غالبا ما تشكل عقبة كؤود وحجر عثرة في طريق الجهود والمبادرات الإصلاحية المتخذة. ولعل هذه المفارقة والوضعية المختلة تفسر بالأساس بوجود خلل وارتياب بالنسبة إلى نهج سياسة حقيقية واضحة ودقيقة في ميدان اللامركزية الترابية بصفة عامة، وفي المجال الرقابي بصفة خاصة. ومن هنا وإذا كانت القوانين التنظيمية الصادرة مؤخرا، قد جاءت ببعض المقتضيات الإيجابية بخصوص الرقابة محاولة تجاوز بعض اختلالات النظام الرقابي السابق، فإن الحسم والفصل ستعود للممارسة العملية على أرض الواقع.
إن الرقابة الإدارية متمثلة في وصاية وزارة الداخلية ومراقبة الوزارة المكلفة بالمالية، إذا كانت تشكل أهم مكون من مكونات نظام الرقابة على الجماعات الترابية بالمغرب، فإنها تعتبر أكثر المظاهر والتجليات الرقابية اختلالا وتأثيرا بالنسبة للتنمية المحلية بصفة خاصة، وللحكامة الترابية عموما. لكن في المقابل، فإن الحقيقة التي لا ريب فيها هي أن الوصاية أو الرقابة الإدارية بصفة عامة، رغم شدتها وصرامتها وتضخم الأجهزة الممارسة لها، ورغم الحاجة الملحة إلى تحديثها تقليصا من هياكلها وتخفيفا من تدخلاتها، فإنه لا يمكن الاستغناء عنها بشكل كلي وكامل وتعويضها بالرقابة القضائية الصرفة. وذلك أولا، لأن ممارسة الرقابة الإدارية على الجماعات الترابية من طرف الدولة، تعتبر ركنا من أركان اللامركزية الترابية، ثم نظرا لكون تلك الرقابة تتسم بالقرب والشمولية. فالرقابة الإدارية ورغم الانتقادات الموجهة إليها تبقى هي الأقرب للجماعات المحلية، وهي قاب قوسين أو أدنى دائما من خباياها ومشاكلها. أما من حيث نطاقها فهي الأكثر تدقيقا وشمولية، بحيث تشمل جميع وظائف واختصاصات الوحدات المحلية المنتخبة، ومن هنا تأتي أهميتها ومكانتها، خاصة إذا تمت ملاءمتها لمتطلبات الجماعات المحلية ولمستلزمات التنمية والحكامة الترابية مستقبلا، وتم ترشيدها وتهذيبها ولجمها بإشراك القضاء الإداري في ممارستها.
وإذا كان هذا الأمر يعتبر من بين المحاولات الإيجابية المحسوبة إلى حد ما لقوانين التنظيمية الصادرة مؤخرا، حيث تم إدخال القضاء الإداري في الرقابة الإدارية (الوصائية) كمشرف عليها، يعود له الحسم في العديد من الممارسات الرقابية، مع الإبقاء على الرقابة الإدارية، فإنه في المقابل، لم يتم رفع يد وزارة الداخلية على الجماعات الترابية من خلال تعويضها بجهة مشرفة أخرى. بل كرست النصوص الجديدة -وإلى جانب الاحتفاظ بالعديد من الممارسات الوصائية الصرفة العائدة لسلطات الوصاية دون إشراف القضاء الإداري عليها- إصلاحا أو بالأحرى تغييرا شكليا ليس إلا. حيث عوضت عبارة وزارة الداخلية بعبارة السلطة الحكومية المكلفة بالداخلية، ولا شك أن إبدال التسمية لتغيير الصورة النمطية الماثلة في الذهن لدى المواطن حول الوصاية، ليس إصلاحا، بل يمكن قراءته قراءة عكسية.