المزيد من الأخبار






تاريخنا.. معالم من التجربة التحررية والسياسية في مشروع "فنيق" أنوال


تاريخنا.. معالم من التجربة التحررية والسياسية  في مشروع "فنيق" أنوال
ناظورسيتي: محمد زاهد

إن الرهان الذي يواجه أجيال اليوم، هو مدى الوفاء للرموز التاريخية وللذاكرة الوطنية والوجدانية. الوفاء بنوع من الصدق والإخلاص والسمو. الوفاء في اتجاه تضميد جراح الذاكرة الجماعية وترميم ثقوبها. والوفاء لذاكرة الخطابي هو إخلاص وتكريم للذاكرة الوطنية. والوفاء لذاكرة أمثال الأمير الخطابي، هو وفاء أيضا وإخلاص للوطن.

ماذا تبقى،إذن، من التجربة التحررية والسياسية للأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي؟ وماذا تبقّى من "ملحمة الذهب والدم"؟ هل يمكن القول بأن المُتبقَّى منها هو الثابت، والرائح هو المتحول؟.

الواقع أن دراسة وتأمل بعض المعالم التي طبعت تجربة وفكر الأمير الخطابي توحي بأن مشروعه كله ثابت، فكرا وممارسة. مشروع تحرري كان قد بدأ يتلمس طريقه إلى الواقع، ولا يزال، في زمن ما أحوجنا فيه إلى مثل هذه المشاريع التي تنم عن مضمون حي.

إن التجربة التحررية والسياسية التي أسست لها حرب الريف التحررية، وامتداداتها العسكرية والفكرية والسياسية، جديرة بالقراءة والتأمل لما تنم عنه من ارث كفاحي وتراث سياسي وفكري وراهنية.

ومن أبرز معالم هذا المشروع التحرري والسياسي، طبيعة رمزه الذي يعد شخصية استثنائية بكل المقاييس. شخصية أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها سبقت زمنها وشخصية خارج التصنيف. إنها شخصية محمد بن عبد الكريم الخطابي، القائد العسكري والزعيم السياسي والرجل الديبلوماسي والإنساني. إنه "فينيق أنوال" بتعبير زكية داوود.

الخطابي: روافد متكاملة

إن القول بخصوصية واستثنائية ابن عبد الكريم هو راجع بالأساس إلى خصوصية وتكامل الروافد التي تغذت منها هذه الشخصية. ولعل تعدد هذه الروافد هو ما كان أساس تشكل وتطور التجربة والمشروع الذي تبلور في سياق تفاعل شخصية الأمير مع معطيات واقعه وزمانه، وهو ما سنتوقف عنده باختصار شديد.

1- الرافد المحلي:

من المعلوم أن "مولاي محند" ينتمي إلى قرية أجدير إحدى مكونات قبيلة ايت ورياغل بالريف الأوسط من عائلة محترمة ومتعلمة. وقد مكنه الانتماء إلى هذا الواقع الاجتماعي والجغرافي بكل تفاعلاته وبفضل احتكاكه ونشوءه في ظل الثقافة المحلية التي كانت سائدة بكل قيمها ومميزاتها وكذا طبيعة المجتمع الريفي آنذاك، فضلا عم ما وفره الموقع الاستراتيجي لأجدير القريبة من حجرة النكور التي كانت تحت سيطرة الاسبان قبل احتلال المغرب...وكلها عناصر ساهمت في نبوغ وتكون هذه الشخصية العبقرية بكل خصائصها ومميزاتها.

2- الرافد الوطني:

من الروافد التي تركت بصماتها واضحة في مسار البطل ابن عبد الكريم، الرافد الوطني. ويتجلى ذلك من خلال انتقال الخطابي للإقامة بتطوان مع أولى سنوات القرن الماضي مع ما كانت تحتله هذه المدينة آنذاك وكذا إقامته فيما بعد بفاس لغرض استكمال دراسته. والواقع أن تواجده بفاس خلال هذه المرحلة بحكم أن فاس كانت تمثل آنذاك العاصمة السياسية والعلمية للمغرب، قد مكنه ذلك من امتلاك العلم والمعرفة وسمح له الأمر بالاطلاع على مجمل التطورات المتسارعة التي كانت يعرفها المغرب ومجريات الأمور من خلال احتكاكه مع مجموعة من الشخصيات العلمية والسياسية. ويمكن القول بأن هذه المرحلة هي بمثابة البناء الثاني في مسار تشكل شخصية الخطابي.

3- الرافد الكوني:

كانت مرحلة ما بعد متابعة واستكمال الدراسة بتطاوين وفاس هي بمثابة معانقة الرافد الثالث الذي شكل أساس روح شخصية البطل والمقاوم ابن عبد الكريم. ويتجلى ذلك من خلال احتكاكه مع الاسبان الذين كانوا متواجدين بجزيرة النكور وانتقاله إلى مليلية فيما بعد، وهي الفترة الحاسمة في حياة هذا الرمز الخالد.

فقد مكنته هذه الفترة التي قضايا بمليلية من الاطلاع والانفتاح أكثر على ما كان يعيشه العالم آنذاك من أحداث وتحولات وتطورات. كما كانت هذه المرحلة فرصة مكنته من اكتساب تجربة وخبرة عبر اشتغاله في مجالات التدريس والقضاء والصحافة لمدة تقارب 15 سنة.

إن احتكاك أسد الريف بالاسبان تحديدا، هو ما مكنه من بلورة رؤية وتصور شكل أساس مشروعه فيما بعد، بحكم أن هذه الروافد كانت تعكس الشروط والمعطيات التاريخية والذهنية والاجتماعية والوجدانية التي صنعت الأمير الخطابي.

الخطابي: أبعاد متعددة

أين تتجلى أبعاد شخصية الزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي من خلال تجربته؟ وكيف تبلورت هذه الأبعاد المتعددة على مستوى مشروعه التحرري والسياسي وفكره وعبقريته؟.

من ابرز هذه الأبعاد التي تترجم طبيعة هذه الشخصية، هناك البعد العسكري، والسياسي، والإنساني وكلها أبعاد تعكس هوية الفكر الوطني والوعي التاريخي الذي تولد عند الأمير في سياق وظرفية خاصة.

1- البعد العسكري:

تقول زكية داوود في هذا الإطار: " زعزعت إستراتيجية عبد الكريم الحربية النظام الاستعماري وهو في أوج قوته آنذاك".

وقد بينت مختلف أطوار حرب الريف 1920-1926 التي قادها البطل مولاي محند إلى جانب زعامات أخرى، مدى حضور البعد العسكري في إستراتيجيته التحررية رغم أن الأمير الخطابي لم يسبق له أن تخرج من أية مدرسة عسكرية أو كلية حربية. ورغم كونه هو مبدع حرب العصابات وملهم حركات التحرر العالمي ونموذج القائد العسكري، فهو قبل ذلك كان رجل سلم وسلام وحوار.

ومعلوم أن حرب التحرر الوطني والهزائم العسكرية التي ألحقتها المقاومة الريفية بالقوات الاستعمارية آنذاك ومحدودية الوسائل والإمكانيات الحربية المعتمدة والانتصارات العارمة التي ألحقت بالدول الاستعمارية هزائم كارثية...كلها جزء من التجربة التحررية والتي سجلها في ظرفية زمنية استثنائية وقياسية. إنها ظرفية الحرب وتآكل بنيات المجتمع الريفي. ورغم ذلك فقد سجل ملحمة من الانتصارات التي بقيت خالدة وهو ما يفسر قوة التحالف الاستعماري والتجاءه إلى استعمال الأسلحة الكيماوية والمحظورة.

2- البعد السياسي والإنساني:

إضافة إلى كون ابن عبد الكريم قائد عسكري فهو زعيم سياسي وكانت تجربته السياسية التي بلورها في خضم عشرينيات القرن الماضي نموذجية. ومن أهم معالمها أوجه "الحداثة السياسية" التي طبعت هذه التجربة، تأسيس دولة حديثة بمؤسسات حكومية وبرلمانية وجيش وإدارات وديبلوماسيين وإصلاح المنظومة القضائية وإقامة العدل، وتوج ذلك بوضع دستور وإنشاء المدارس وخلق أوراش. كما سعى إلى تنمية وتقدم وتطوير منطقة الريف وكذا إشاعته للسلم المدني، وتقويم النظام الجبائي والإداري والزراعي وإرساء دعائم دولة قوية وحداثية تتجاوز الأوضاع السائدة آنذاك... وكلها إنجازات قياسية بالنظر لطبيعة ظرفية الحرب القائمة.

لقد ظل –تقول زكية داود- محمد بن عبد الكريم الخطابي مهووسا ب"هوس الحداثة" أو "وسواس الحداثة" و ب"تحديث بلاده وتمكينها من أسباب التقدم التقني". وهو بهذه الانجازات لم يكن مجرد زعيم قبلي وفقيه بسيط لا يفقه شيئا في السياسة وأمور التنظيم والبناء والإصلاح الجذري. كما أنه لم يكن مجرد مجاهد ومصلح ديني بمنظور ضيق ومتزمت، بقدر ما كان شخصية ثورية تمتلك رؤية مجتمعية ومشروع حداثي قائم على تصور واضح للسياسة الدولية. تقول الكاتبة والصحفية زكية داود: "أسس –عبد الكريم- جمهورية الريف وخطوط هاتفية، وعدالة، وأشغال كبرى، مدفوعا برغبة مدهشة في إفادة منطقته من أسباب التقدم التقني". وتضيف: "لقد جاء قبل الأوان فعلا. قبل الأوان فيما يتعلق بمحاولاته الحداثية التي أسيئ فهمها، وتوظيفه للتماسك الاجتماعي الذي لم يكن في البداية ديني المنزع، ودولته وجمهوريته. ولكن قبل الأوان أيضا بالنسبة للقوى الكبرى.

علاوة على كون البطل ابن عبد الكريم كان رجل دولة ومطلع على مجمل الأحداث الدولية آنذاك ومتتبع لكل ما كان يعرفه العالم، فقد كشف عن وجه آخر لتجربته وهو الوجه الإنساني والكوني من خلال العديد من المواقف التي سجلها التاريخ وهي المواقف التي كان ينتصر فيها لقيم الحرية والعدالة والكرامة وضد الاستغلال والقهر والعبودية.


تعليق جديد

التعليقات المنشورة لا تعبر بأي حال عن رأي الموقع وسياسته التحريرية
شكرا لالتزام الموضوعية وعدم الإساءة والتجريح