المزيد من الأخبار






بوصوف يكتب: إجماع مغاربة العالم على عدم تأدية شعيرة الذبح… تضامن راقٍ يعكس وعيًا جماعيًا نادرًا


عبد الله بوصوف

المتابع الحذق والموضوعي لعلاقة الملك محمد السادس بمغاربة العالم، سيقف مذهولًا أمام مشهد سريالي لم تتمكن حتى علوم الاجتماع من فك أسراره وتفكيك شفراته.
فمن بين الثورات الهادئة التي قادها جلالة الملك محمد السادس، لا ينبغي نسيان تلك الموجهة لفائدة مغاربة العالم، بدءًا من الاستقبال الشخصي بميناء طنجة، وما يحمله ذلك الاستقبال من دلالات ورمزيات دينية، اجتماعية وسياسية. وقد لا تسعفنا هذه المناسبة في استعراض جميع المبادرات والمواقف، سواء على مستوى البناء المؤسساتي أو التنصيص الدستوري، غير أن الإشادات الملكية المتكررة بدور مغاربة العالم في الدفاع عن المقدسات الوطنية والوحدة الترابية، والمساهمة في التنمية، تظل أبرز دليل على متانة وصلابة العلاقة بين الملك وشعبه خارج حدود الوطن.

وقد شهد العالم مشاهد حية من هذا التعلق، أبرزها استقبال الجالية المغربية بهولندا لجلالة الملك في مارس 2016، حيث رابط العشرات أمام مقر إقامته، لتجديد البيعة بشكل تلقائي، وللسلام على “كبير العائلة”.

الحضور الطاغي لقضايا الجالية في الأجندة الملكية ليس سرًا، بل هو واقع معروف؛ إذ تشكل قضايا مغاربة الخارج أولوية في السياسة الملكية، وقد مثّل جلالته المحامي القوي والمدافع الأبرز عن حقوقهم وسمعتهم، كما جاء في خطابه لسنة 2016، حين دافع عنهم ضد تهم الإرهاب، منوهًا بالنموذج المغربي الوسطي في التدين.

ومن جانبها، لم تتأخر الجالية في مبادلة ملكها نفس الشعور، بكل وفاء واحترام. فلم تكن أبدًا الطرف الآخر أو المكون المنفصل، بل جسدت دائمًا الامتداد الطبيعي للأمة المغربية. ويكفي أن نستحضر ما جاء في أول خطاب للعرش لجلالة الملك، حين قال:
“إن جميع المغاربة بالنسبة لنا إخوة من رحم واحدة وأبناء بررة متساوون، تشدهم إلينا روابط التعلق والولاء.”

وهو توصيف دقيق وعميق للعلاقة التي تربط العرش المغربي بجاليته بالخارج، وهي الجالية ذاتها التي استجابت لنداء المغفور له الملك الحسن الثاني في نونبر 1975، وشاركت بحوالي 138 مهاجرًا في المسيرة الخضراء.
وهي نفسها التي ساهمت بقوة في أعمال التضامن إبان أزمة كوفيد-19، وفي زلزال الحوز سنة 2023، كما لعبت دورًا مهمًا في مجال الاستثمارات والتحويلات، مما مكّن خزينة الدولة من احتياطات مهمة من العملة الصعبة.

لكل هذه الاعتبارات، لم يكن الإجماع الأخير لمغاربة العالم على عدم تأدية شعيرة ذبح أضحية عيد الأضحى لسنة 2025، مع القيام في المقابل بجميع أشكال العمل الخيري والإنفاق وإقامة صلاة العيد، أمرًا مفاجئًا أو مستجدًا. بل هو امتداد طبيعي لمنظومة تضامن مطلق تجمع مغاربة العالم بوطنهم، واستجابة سليمة لنداء أمير المؤمنين، في إطار من الإجماع الوطني الراسخ.
ورغم محاولات بعض الجهات غير المغربية التشكيك في هذا السلوك الجماعي، واللعب على وتر الوقوف بعرفة، إلا أن المناسبة شكلت فقط فرصة لتجديد تأكيد الجالية على ولائها وتعلقها بأمير المؤمنين، الذي وصف المغاربة بالجسد الواحد، الخارج من رحم واحدة.

وفي هذا السياق، ندعو “الطابور” ومن معه إلى تأمل الرسالة الملكية السامية الصادرة بتاريخ 26 فبراير 2025، بشأن عدم تأدية شعيرة الذبح في عيد الأضحى. فبعيدًا عن لغة الأرقام المتعلقة بالقطيع المغربي، أو حسابات الضرر ورفع الحرج عن الطبقة المتوسطة، فإن مغاربة العالم مطوقون وملتزمون ببيعتهم الشرعية المقدسة لأمير المؤمنين.
وهي بيعة لا تعترف بحدود جغرافية، لأن الملك محمد السادس هو ملك لجميع المغاربة أينما كانوا، ومرتبطة بواجب التضامن مع قضايا الوطن، حتى وإن كانت بلدان إقامتهم لا تعاني من أي أزمة في الأضاحي. غير أن أخلاق “تمغربيت” تلزمهم بعدم تأدية شعيرة الذبح، ما داموا جزءًا من جسد واحد ومن رحم واحدة.

يدرك فقهاء القانون والباحثون في العلوم القانونية والاجتماعية جيدًا أن الآيات القرآنية التي تتضمنها الخطب الملكية ليست مجرد تزيين بلاغي، بل تشكل جزءًا جوهريًا من مضمونها وفلسفتها. ولهذا جاءت الآية الكريمة:
“قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني…”
كرد جامع مانع على كل من يحاول المتاجرة بالأزمات أو توظيف المناسبات الدينية للمزايدة أو التشويش.

إن الرسالة الملكية الصادرة يوم 26 فبراير لم تكن اعتباطية، بل صدرت عن مؤسسة إمارة المؤمنين، المكلفة شرعًا ودستورًا بإقامة شرائع الدين، بما يراعي المصلحة الشرعية ويرفع الحرج والضرر عن فئات المجتمع، داخل وخارج أرض الوطن.

لذلك، لم يكن مستغربًا أن نرى هذا الإجماع الكبير وسط مغاربة العالم على الالتزام بعدم ذبح أضحية العيد، ليس بسبب الخوف على قطعان بلدان الإقامة، بل احترامًا لمشاعر إخوانهم بالمغرب، وتعبيرًا راقيًا عن تضامن فريد مع شركائهم في جسد الوطن الواحد والرحم الواحدة.


تعليق جديد

التعليقات المنشورة لا تعبر بأي حال عن رأي الموقع وسياسته التحريرية
شكرا لالتزام الموضوعية وعدم الإساءة والتجريح