
بقلم: بلال مرابط
لطالما كان الإنسان منذ فجر التاريخ كائنًا يسير على خطين متوازيين: حب المعرفة من جهة، والرغبة في التعبير عن الذات من جهة أخرى. فالحوار كان ولا يزال الجسر الذي يعبر عليه الفكر إلى ساحات أوسع من الفهم والتفاهم.
في أثينا القديمة، حيث انطلقت الفلسفة، ظهر رجل بسيط المظهر لكنه عميق التفكير، يُدعى سقراط. لم يكن سقراط يحمل أعظم الإجابات، بل كان يحمل أعظم الأسئلة. أسئلة بسيطة لكنها حادة، تقطع وهم المعرفة الزائف، وتدعونا لننظر داخل أنفسنا لنكتشف كم نحن نجهل.
يُحكى أن سقراط لم يكن يردّ على كل كلمة تُقال، ولم يُصرخ ليُثبت رأيه، بل كان يستمع بابتسامة، يطرح سؤالًا بسيطًا يحرك تفكير خصمه أو صديقه. كان يعلم أن نزع الغرور هو مفتاح الحكمة، وأن القناعة تبدأ حين يُقر الإنسان بحدود معرفته.
لطالما كان الإنسان منذ فجر التاريخ كائنًا يسير على خطين متوازيين: حب المعرفة من جهة، والرغبة في التعبير عن الذات من جهة أخرى. فالحوار كان ولا يزال الجسر الذي يعبر عليه الفكر إلى ساحات أوسع من الفهم والتفاهم.
في أثينا القديمة، حيث انطلقت الفلسفة، ظهر رجل بسيط المظهر لكنه عميق التفكير، يُدعى سقراط. لم يكن سقراط يحمل أعظم الإجابات، بل كان يحمل أعظم الأسئلة. أسئلة بسيطة لكنها حادة، تقطع وهم المعرفة الزائف، وتدعونا لننظر داخل أنفسنا لنكتشف كم نحن نجهل.
يُحكى أن سقراط لم يكن يردّ على كل كلمة تُقال، ولم يُصرخ ليُثبت رأيه، بل كان يستمع بابتسامة، يطرح سؤالًا بسيطًا يحرك تفكير خصمه أو صديقه. كان يعلم أن نزع الغرور هو مفتاح الحكمة، وأن القناعة تبدأ حين يُقر الإنسان بحدود معرفته.
مع مرور القرون، ترسخت قواعد الحوار وأصول النقاش، وتعلم البشر أن يختلفوا بأسلوب حضاري، وأن يعتنوا بالاستماع بقدر اهتمامهم بالكلام. لكن مع تقدم التكنولوجيا، ودخولنا عصر الإنترنت وشبكات التواصل، تغيّر المشهد كليًا.
فلم يعد الحوار كما كان، بل أصبح سريعًا، سطحياً، حادًّا أحيانًا. وظهر ما يمكن تسميته بــ “عصر التعليق”، حيث تحولت كل منصة اجتماعية إلى ساحة معركة بين أصوات لا تهدأ، وأفكار لا تُهدأ، وكأن كل واحد منا يحمل شهادة عالمية في كل شيء.
إنها ظاهرة غريبة وعجيبة أن ترى في كل منشور، مهما كان بسيطًا، عاصفة من التعليقات التي تبدأ بالنقد الحادّ، وتنتهي بسيل من التصحيحات والتوجيهات والتوضيحات، كأنك تشاهد مؤتمرًا علميًا، وليس مجرد مشاركة بسيطة.
هذا الواقع ليس صدفة، ولا مجرد مزاج عابر، بل له أصول نفسية واجتماعية عميقة. فحسب الطب النفسي، إن الفرد الذي يمضي وقته في التنقيب عن أخطاء الآخرين، ويصر على تصحيحهم في كل مجال، يعاني غالبًا من شعور عميق بالنقص، أو خوف من ألا يكون مسموعًا.
التعليق المستمر هو بالنسبة له نوع من “التحفيز الذاتي”، وهو وسيلة لتعزيز وجوده الاجتماعي، حيث تمنحه التعليقات الكثير من الاهتمام الذي ربما يفتقده في حياته الواقعية.
فلم يعد الحوار كما كان، بل أصبح سريعًا، سطحياً، حادًّا أحيانًا. وظهر ما يمكن تسميته بــ “عصر التعليق”، حيث تحولت كل منصة اجتماعية إلى ساحة معركة بين أصوات لا تهدأ، وأفكار لا تُهدأ، وكأن كل واحد منا يحمل شهادة عالمية في كل شيء.
إنها ظاهرة غريبة وعجيبة أن ترى في كل منشور، مهما كان بسيطًا، عاصفة من التعليقات التي تبدأ بالنقد الحادّ، وتنتهي بسيل من التصحيحات والتوجيهات والتوضيحات، كأنك تشاهد مؤتمرًا علميًا، وليس مجرد مشاركة بسيطة.
هذا الواقع ليس صدفة، ولا مجرد مزاج عابر، بل له أصول نفسية واجتماعية عميقة. فحسب الطب النفسي، إن الفرد الذي يمضي وقته في التنقيب عن أخطاء الآخرين، ويصر على تصحيحهم في كل مجال، يعاني غالبًا من شعور عميق بالنقص، أو خوف من ألا يكون مسموعًا.
التعليق المستمر هو بالنسبة له نوع من “التحفيز الذاتي”، وهو وسيلة لتعزيز وجوده الاجتماعي، حيث تمنحه التعليقات الكثير من الاهتمام الذي ربما يفتقده في حياته الواقعية.
لكن لماذا لا يعجبهم شيء؟
الإجابة تكمن في أن البشر، بطبيعتهم، يبحثون عن السيطرة، وعن الانتصار في كل شيء. في عالم سريع كالإنترنت، حيث الكلمة قد تنتشر بسرعة البرق، ومنصات التواصل تحفز التنافس على الانتباه، صار النقد أداة سهلة للظهور.
ومع كثرة المحتوى، واحتدام السباق، أصبح الإعجاب قليلاً، والنقد كثيرًا، لأن النقد يلفت النظر أكثر من الإشادة، ويصنع صوتًا أعلى في ضجيج العالم الرقمي.
تخيل معي مشهداً كوميديًا: رجل يدخل مطعمًا جديدًا، ويبدأ في انتقاد كل طبق يقدمه، ولا يترك عنصرًا واحدًا دون تعليقه، على التوابل، على الطهي، على طريقة التقديم. والزبائن من حوله يصمتون، بينما هو يظن نفسه خبيرًا عالميًا في الطهي.
هذا المشهد المتكرر يحدث على الإنترنت يوميًا، حيث يصبح الجميع “طهاة”، “رياضيين”، “سياسيين”، “فنانين”، بلا تدريب أو معرفة عميقة، فقط لأنهم يملكون القدرة على كتابة التعليق والضغط على زر النشر.
من هنا، يطرح الطب النفسي مفهوم “التحفيز المفرط”، وهو حالة يُفرط فيها الدماغ في البحث عن المكافآت اللحظية، مثل اللايكات والتعليقات، والتي تعمل كمواد إدمانية تُنشط مراكز المتعة في الدماغ.
وهذا يفسر لماذا يجد البعض أنفسهم غارقين في عالم التعليقات، يكتبون ويعلقون بشكل هستيري أحيانًا، دون توقف، وكأنهم يركضون خلف خيال غير مرئي.
وفي نفس الوقت، هذه الظاهرة تكشف جانبًا آخر: حاجتنا العميقة للانتماء، والاعتراف، والرغبة في أن يكون لصوتنا وزن ومكان. فالتعليق هو نداء للاستماع، ورغبة في أن نكون جزءًا من المجتمع.
لكن هل كل هذا يعني أن عالم التعليقات عديم الفائدة؟ بالطبع لا. فهو ساحة للتعبير، وللرأي، وللمشاركة. لكن الأمر يتطلب منّا ضبط النفس، والوعي بأن لا نكون مجرد “معلقين” بل مشاركين حقيقيين.
والحل؟
ربما يكون في العودة قليلاً إلى روح سقراط، أن نسأل أكثر، ونصر على فهم الآخر، وأن نهدأ قبل أن نغضب، وأن نسمح بأن نجهل دون خوف، ونقبل أن الفهم رحلة لا نهاية لها.
وفي عالم التعليقات، دعونا نحاول أن نكون ذوي نكهة خاصة؛ لا نقداً مفرطاً، ولا صمتاً خانقاً، بل مزيجًا من الحكمة واللطف، والحرص على أن تبقى الكلمات جسورًا، لا أسلحة.
ولعل أجمل ما يُقال في هذا المجال، أن نتذكر أن السعادة أحيانًا لا تأتي من الفوز في نقاش، بل من استمتاعنا بالتواصل، واحتفالنا بالاختلاف، وبساطة المشاركة.
فهل تستطيع أن تتوقف عن التعليق للحظة، وتتنفس بعمق، وتفكر: هل يحتاج هذا العالم كل هذه الصراعات الصغيرة؟
ربما في الهدوء، تكتشف أكثر، وربما في الصمت، يسمع الآخرون ما لم يسمعوه في صخب الكلمات.
لكن، ماذا لو ما ورد عن دوافع النفس البشرية من حاجات للاهتمام والرغبة في الانتصار، ينطبق أيضًا على هذا المقال؟
الإجابة تكمن في أن البشر، بطبيعتهم، يبحثون عن السيطرة، وعن الانتصار في كل شيء. في عالم سريع كالإنترنت، حيث الكلمة قد تنتشر بسرعة البرق، ومنصات التواصل تحفز التنافس على الانتباه، صار النقد أداة سهلة للظهور.
ومع كثرة المحتوى، واحتدام السباق، أصبح الإعجاب قليلاً، والنقد كثيرًا، لأن النقد يلفت النظر أكثر من الإشادة، ويصنع صوتًا أعلى في ضجيج العالم الرقمي.
تخيل معي مشهداً كوميديًا: رجل يدخل مطعمًا جديدًا، ويبدأ في انتقاد كل طبق يقدمه، ولا يترك عنصرًا واحدًا دون تعليقه، على التوابل، على الطهي، على طريقة التقديم. والزبائن من حوله يصمتون، بينما هو يظن نفسه خبيرًا عالميًا في الطهي.
هذا المشهد المتكرر يحدث على الإنترنت يوميًا، حيث يصبح الجميع “طهاة”، “رياضيين”، “سياسيين”، “فنانين”، بلا تدريب أو معرفة عميقة، فقط لأنهم يملكون القدرة على كتابة التعليق والضغط على زر النشر.
من هنا، يطرح الطب النفسي مفهوم “التحفيز المفرط”، وهو حالة يُفرط فيها الدماغ في البحث عن المكافآت اللحظية، مثل اللايكات والتعليقات، والتي تعمل كمواد إدمانية تُنشط مراكز المتعة في الدماغ.
وهذا يفسر لماذا يجد البعض أنفسهم غارقين في عالم التعليقات، يكتبون ويعلقون بشكل هستيري أحيانًا، دون توقف، وكأنهم يركضون خلف خيال غير مرئي.
وفي نفس الوقت، هذه الظاهرة تكشف جانبًا آخر: حاجتنا العميقة للانتماء، والاعتراف، والرغبة في أن يكون لصوتنا وزن ومكان. فالتعليق هو نداء للاستماع، ورغبة في أن نكون جزءًا من المجتمع.
لكن هل كل هذا يعني أن عالم التعليقات عديم الفائدة؟ بالطبع لا. فهو ساحة للتعبير، وللرأي، وللمشاركة. لكن الأمر يتطلب منّا ضبط النفس، والوعي بأن لا نكون مجرد “معلقين” بل مشاركين حقيقيين.
والحل؟
ربما يكون في العودة قليلاً إلى روح سقراط، أن نسأل أكثر، ونصر على فهم الآخر، وأن نهدأ قبل أن نغضب، وأن نسمح بأن نجهل دون خوف، ونقبل أن الفهم رحلة لا نهاية لها.
وفي عالم التعليقات، دعونا نحاول أن نكون ذوي نكهة خاصة؛ لا نقداً مفرطاً، ولا صمتاً خانقاً، بل مزيجًا من الحكمة واللطف، والحرص على أن تبقى الكلمات جسورًا، لا أسلحة.
ولعل أجمل ما يُقال في هذا المجال، أن نتذكر أن السعادة أحيانًا لا تأتي من الفوز في نقاش، بل من استمتاعنا بالتواصل، واحتفالنا بالاختلاف، وبساطة المشاركة.
فهل تستطيع أن تتوقف عن التعليق للحظة، وتتنفس بعمق، وتفكر: هل يحتاج هذا العالم كل هذه الصراعات الصغيرة؟
ربما في الهدوء، تكتشف أكثر، وربما في الصمت، يسمع الآخرون ما لم يسمعوه في صخب الكلمات.
لكن، ماذا لو ما ورد عن دوافع النفس البشرية من حاجات للاهتمام والرغبة في الانتصار، ينطبق أيضًا على هذا المقال؟