
بقلم: بلال مرابط
لا يحتاج المرء إلى كثير من الفطنة ليدرك أن الحكومة المغربية تتحدث اليوم "في سياساتها" بلغة قديمة في زمن تغير فيه كل شيء. لغة خشبية جامدة، مكررة، لا تصمد أمام جيل ولد وفي يده هاتف ذكي، وتعود أن يجد الإجابة في ثوان عبر محرك بحث.
جيل اليوم، جيل “زد”، لا يكتفي بالسماع، بل يسأل، يناقش، ويطالب بالجواب العاجل. سرعة هذا الجيل ليست تهمة ضده، بل دلالة على عالم مختلف يعيش فيه، عالم لم يعد يقبل أن يدار بمنطق الأعراف البالية أو الردود الفضفاضة. بل أن على الحكومة أن تتأقلم مع هذا الإيقاع، لأنها تخدم هؤلاء الشباب لا التقاليد التي تجاوزها الزمن.
لقد سئم الشباب من المفارقات الصارخة بين قطاع وآخر، يزور المستشفى فيرى انهيار البنية الصحية، ثم يشاهد في المقابل كيف تصرف الملايير في كرة القدم، فيدرك أن الأولويات معكوسة. الأسوأ من ذلك، أنه حين تسنح له الفرصة للتعبير عن غضبه، يسمع الحكومة تكذب معاناته ببرودة: “لقد فعلنا، نحن بصدد، الأرقام تشير…”. والحقيقة أن الناس لا يحتاجون إلى تذكير بما قيل، بل إلى حلول ملموسة، إلى استماع جدي أو على الأقل إلى اعتراف صريح بالواقع.
وإذا كان فوزي لقجع قد نجح، بصفته رئيسا للجامعة الملكية لكرة القدم، في الدفع بالرياضة إلى واجهة الإنجاز، فإننا نتساءل عن غياب “فوزي آخر” في الصحة والتعليم. نحتاج إلى قادة بهذا النفس، بل وقبل الرياضة نفسها، في القطاعات التي تلامس حياة المغاربة اليومية وكرامتهم المباشرة.
لكن قبل أن نسترسل في جلد هذا الجيل أو الحكم عليه بخيانة الوطن لمجرد أن بعض أفراده انزلقوا إلى أعمال عنف وشغب، علينا أن نتوقف قليلا. أعمال الشغب التي رافقت الاحتجاجات الأخيرة، والتي بلغت ذروتها بمصرع شابين في لقليعة إثر تدخل للدرك الملكي بعدما حاول هؤلاء اقتحام سرية الدرك والاستيلاء على الذخيرة، لا يمكن النظر إليها كحدث عابر. نعم، من يختار العنف يتحمل مسؤوليته القانونية والأخلاقية، لكن هل نملك رفاهية تجاهل التراكمات التي صنعت هذه الانفجارات؟
كثيرون وصفوا هؤلاء بالخونة، لكن لنسأل أنفسنا: ماذا عن الذي خرج في روبورطاج، يخاطب الدولة قائلاً: “عندكم مدة ديال شهر ويلا ماسمعتوناش غانبداو فالاغتيالات” وهو بين أبناء حيه وكأنه يخاطب صاحبته! أهو خائن أيضا، أم مجرد شاب يائس وجد لحظة ليصرخ بجهل وبدون وعي في وجه مؤسسات لم تعد تسمعه؟
نحن لا ننكر أن تدخل أياد خارجية وارد، فالدول المعادية لا تفوت فرص الانقضاض على استقرار أوطان غيرها. لكن هؤلاء الذين خرجوا هنا ليسوا بيادق بيد الخارج؛ إنهم أبناء وطن أهملوا، يعيشون يوميا عنفا أشد وقعا من عنف الشارع: في المستشفيات حين يطردون بلا علاج، في الإدارات العمومية حين يقابلون بأجوبة جافة، في المؤسسات التي تسد أبوابها بحجة “رجع نهار تنين”...
ثم ماذا ننتظر من جيل يشرب كل يوم أخبارا تافهة على منصات التواصل؟ أن يصنع لنا وطنا مثاليا؟ الحقيقة أنه وطني مثلنا تماما، لكن الوطنية في هذا الزمن باتت تقاس بشعار ناد كروي، بينما من يدافع عن كرامة الناس يُتهم بالخيانة.
المسؤولية الأولى هنا تتحملها الحكومة. لأنها تركت هذا الفراغ القاتل، ولم تحسن أن تغير نظرة الشباب للأحزاب، ولم تستثمر في وعيهم عبر تعليم جيد. هؤلاء الذين يصنفون اليوم كـ”مخربين” هم نتاج سياسة عقيمة قبل أن يكونوا نتاج شارع غاضب.
وحين يخاطب هؤلاء الشباب أحزابا نالت شرعيتها من أصواتهم، قائلين إن أوضاعنا مزرية، يكون الجواب أرقاما وتبريرات جوفاء: “لقد فعلنا… نحن بصدد… المؤشرات تشير…”. بينما الأصل أن مهمة الأحزاب هي أن تقنع الناس، لا أن تقنع نفسها.
هذا الوضع ليس بجديد. يكفي أن نستعيد خطاب العرش لملك البلاد في 2017: “وإذا أصبح ملك المغرب، غير مقتنع بالطريقة التي تمارس بها السياسة، ولا يثق في عدد من السياسيين، فماذا بقي للشعب؟ لكل هؤلاء أقول: كفى، واتقوا الله في وطنكم، إما أن تقوموا بمهامكم كاملة، وإما أن تنسحبوا.”
لكن، الشعب أيضا يتحمل نصيبه من المسؤولية، حين يبيع صوته بثمن بخس ثم يلعن القدر. اختياراتنا في الصناديق هي التي صنعت هذا المشهد، ليس في الحكومة فقط بل في كل مؤسساتنا.
إن الانفجارات لم تأت عبثا. بل هي ردة فعل على فراغ قاتل. ومن خرج في الشارع ليس خائنا بل مغربيا غاضبا أو مخربا جاهلا، وإن أخطأ في التعبير. وكما يقول المثل: لكل فعل رد فعل مساو له في القوة ومضاد له في الاتجاه.
الحكومة، التي لم تتجرأ على مخاطبة الشعب رسميا بعد خمسة أيام من المظاهرات، تتحمل المسؤولية الكبرى. نحن لا نبرر العنف ولا نقول إنه الطريق الصحيح، لكننا نذكر: إذا لم تتحمل الحكومة مسؤوليتها في فهم الوضع واحتوائه، فإنها تكون شريكة في تغذية النار. وأفضل ما يمكنها فعله، إن لم تكن قادرة على الإصلاح، هو أن تضع المفاتيح وتغادر.
فالمغرب يعيش بسرعتين، كما قال الملك نفسه. والسؤال يظل قائما: من أين جاء العنف؟ سؤال سخيف، لأننا جميعا نعرف من أين جاء.
"للأمانة فقد خرج الناطق الرسمي باسم الحكومة قبل قليل في تصريح له… ولنا عودة لذلك"
لا يحتاج المرء إلى كثير من الفطنة ليدرك أن الحكومة المغربية تتحدث اليوم "في سياساتها" بلغة قديمة في زمن تغير فيه كل شيء. لغة خشبية جامدة، مكررة، لا تصمد أمام جيل ولد وفي يده هاتف ذكي، وتعود أن يجد الإجابة في ثوان عبر محرك بحث.
جيل اليوم، جيل “زد”، لا يكتفي بالسماع، بل يسأل، يناقش، ويطالب بالجواب العاجل. سرعة هذا الجيل ليست تهمة ضده، بل دلالة على عالم مختلف يعيش فيه، عالم لم يعد يقبل أن يدار بمنطق الأعراف البالية أو الردود الفضفاضة. بل أن على الحكومة أن تتأقلم مع هذا الإيقاع، لأنها تخدم هؤلاء الشباب لا التقاليد التي تجاوزها الزمن.
لقد سئم الشباب من المفارقات الصارخة بين قطاع وآخر، يزور المستشفى فيرى انهيار البنية الصحية، ثم يشاهد في المقابل كيف تصرف الملايير في كرة القدم، فيدرك أن الأولويات معكوسة. الأسوأ من ذلك، أنه حين تسنح له الفرصة للتعبير عن غضبه، يسمع الحكومة تكذب معاناته ببرودة: “لقد فعلنا، نحن بصدد، الأرقام تشير…”. والحقيقة أن الناس لا يحتاجون إلى تذكير بما قيل، بل إلى حلول ملموسة، إلى استماع جدي أو على الأقل إلى اعتراف صريح بالواقع.
وإذا كان فوزي لقجع قد نجح، بصفته رئيسا للجامعة الملكية لكرة القدم، في الدفع بالرياضة إلى واجهة الإنجاز، فإننا نتساءل عن غياب “فوزي آخر” في الصحة والتعليم. نحتاج إلى قادة بهذا النفس، بل وقبل الرياضة نفسها، في القطاعات التي تلامس حياة المغاربة اليومية وكرامتهم المباشرة.
لكن قبل أن نسترسل في جلد هذا الجيل أو الحكم عليه بخيانة الوطن لمجرد أن بعض أفراده انزلقوا إلى أعمال عنف وشغب، علينا أن نتوقف قليلا. أعمال الشغب التي رافقت الاحتجاجات الأخيرة، والتي بلغت ذروتها بمصرع شابين في لقليعة إثر تدخل للدرك الملكي بعدما حاول هؤلاء اقتحام سرية الدرك والاستيلاء على الذخيرة، لا يمكن النظر إليها كحدث عابر. نعم، من يختار العنف يتحمل مسؤوليته القانونية والأخلاقية، لكن هل نملك رفاهية تجاهل التراكمات التي صنعت هذه الانفجارات؟
كثيرون وصفوا هؤلاء بالخونة، لكن لنسأل أنفسنا: ماذا عن الذي خرج في روبورطاج، يخاطب الدولة قائلاً: “عندكم مدة ديال شهر ويلا ماسمعتوناش غانبداو فالاغتيالات” وهو بين أبناء حيه وكأنه يخاطب صاحبته! أهو خائن أيضا، أم مجرد شاب يائس وجد لحظة ليصرخ بجهل وبدون وعي في وجه مؤسسات لم تعد تسمعه؟
نحن لا ننكر أن تدخل أياد خارجية وارد، فالدول المعادية لا تفوت فرص الانقضاض على استقرار أوطان غيرها. لكن هؤلاء الذين خرجوا هنا ليسوا بيادق بيد الخارج؛ إنهم أبناء وطن أهملوا، يعيشون يوميا عنفا أشد وقعا من عنف الشارع: في المستشفيات حين يطردون بلا علاج، في الإدارات العمومية حين يقابلون بأجوبة جافة، في المؤسسات التي تسد أبوابها بحجة “رجع نهار تنين”...
ثم ماذا ننتظر من جيل يشرب كل يوم أخبارا تافهة على منصات التواصل؟ أن يصنع لنا وطنا مثاليا؟ الحقيقة أنه وطني مثلنا تماما، لكن الوطنية في هذا الزمن باتت تقاس بشعار ناد كروي، بينما من يدافع عن كرامة الناس يُتهم بالخيانة.
المسؤولية الأولى هنا تتحملها الحكومة. لأنها تركت هذا الفراغ القاتل، ولم تحسن أن تغير نظرة الشباب للأحزاب، ولم تستثمر في وعيهم عبر تعليم جيد. هؤلاء الذين يصنفون اليوم كـ”مخربين” هم نتاج سياسة عقيمة قبل أن يكونوا نتاج شارع غاضب.
وحين يخاطب هؤلاء الشباب أحزابا نالت شرعيتها من أصواتهم، قائلين إن أوضاعنا مزرية، يكون الجواب أرقاما وتبريرات جوفاء: “لقد فعلنا… نحن بصدد… المؤشرات تشير…”. بينما الأصل أن مهمة الأحزاب هي أن تقنع الناس، لا أن تقنع نفسها.
هذا الوضع ليس بجديد. يكفي أن نستعيد خطاب العرش لملك البلاد في 2017: “وإذا أصبح ملك المغرب، غير مقتنع بالطريقة التي تمارس بها السياسة، ولا يثق في عدد من السياسيين، فماذا بقي للشعب؟ لكل هؤلاء أقول: كفى، واتقوا الله في وطنكم، إما أن تقوموا بمهامكم كاملة، وإما أن تنسحبوا.”
لكن، الشعب أيضا يتحمل نصيبه من المسؤولية، حين يبيع صوته بثمن بخس ثم يلعن القدر. اختياراتنا في الصناديق هي التي صنعت هذا المشهد، ليس في الحكومة فقط بل في كل مؤسساتنا.
إن الانفجارات لم تأت عبثا. بل هي ردة فعل على فراغ قاتل. ومن خرج في الشارع ليس خائنا بل مغربيا غاضبا أو مخربا جاهلا، وإن أخطأ في التعبير. وكما يقول المثل: لكل فعل رد فعل مساو له في القوة ومضاد له في الاتجاه.
الحكومة، التي لم تتجرأ على مخاطبة الشعب رسميا بعد خمسة أيام من المظاهرات، تتحمل المسؤولية الكبرى. نحن لا نبرر العنف ولا نقول إنه الطريق الصحيح، لكننا نذكر: إذا لم تتحمل الحكومة مسؤوليتها في فهم الوضع واحتوائه، فإنها تكون شريكة في تغذية النار. وأفضل ما يمكنها فعله، إن لم تكن قادرة على الإصلاح، هو أن تضع المفاتيح وتغادر.
فالمغرب يعيش بسرعتين، كما قال الملك نفسه. والسؤال يظل قائما: من أين جاء العنف؟ سؤال سخيف، لأننا جميعا نعرف من أين جاء.
"للأمانة فقد خرج الناطق الرسمي باسم الحكومة قبل قليل في تصريح له… ولنا عودة لذلك"