المزيد من الأخبار






بلال مرابط يكتب.. الريف وصورة المغرب الدبلوماسية.. تأثير متبادل وأسئلة معلّقة


بلال مرابط يكتب.. الريف وصورة المغرب الدبلوماسية.. تأثير متبادل وأسئلة معلّقة
بقلم: بلال مرابط

وسط تصاعد النزاعات الإقليمية في إفريقيا، برز المغرب كوسيط دبلوماسي، حيث توسط في عديد من القضايا خرج منها منتصرا، كالتوسط لإطلاق سراح خمسة من عناصر الدرك الإيفواري المعتقلين في بوركينا فاسو بتهمة التجاوز الحدودي غير القانوني، كما كان وسيطًا فعالًا في تحرير رئيس النيجر السابق محمد بازوم بعد انقلاب يوليوز 2023، نهيك عن استضاف اتفاق الصخيرات الليبي عام 2015، الذي أصبح مرجعًا في مفاوضات الأزمة الليبية. هذه الجهود وغيرها عززت حضوره في الاتحاد الإفريقي منذ عودته عام 2017، مكسبًا له سمعة كدولة قادرة على حل النزاعات.

إن نجاح المغرب في الوساطة يجعله شريكًا لا غنى عنه في الدبلوماسية الإفريقية، ولا نعتقد أن الدبلوماسية مجرد بروتوكلات رسمية تعرضها الشاشات الرسمية، بل لها وزنها، لكن السؤال يبقى: هل يستطيع المغرب موازنة طموحاته الدولية مع تحدياته الداخلية، مثل الهجرة غير الشرعية والفوارق الاقتصادية في مناطق مثل الريف؟ من وجهة نظري وقد يكون نظري يعاني ضعفاً، لا يمكن للمغرب تحقيق هذا الدور دون معالجة مشاكله الداخلية. وهذه النجاحات الخارجية تتطلب قاعدة محلية قوية لضمان استدامة الدور الوسيط.

كيف يستفيد المغرب (سياسيًا، اقتصاديًا، أو ثقافيًا) من لعب دور الوسيط في إفريقيا ؟

يلعب المغرب دور الوسيط في إفريقيا كأداة استراتيجية تحقق له فوائد متعددة على المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية. ونجاحه في الوساطات، مثل تحرير عناصر الدرك الإيفواري المحتجزين في بوركينا فاسو ورئيس النيجر السابق محمد بازوم، يمنحه مكانة قوية داخل الاتحاد الإفريقي ويكسبه ثقة الدول الإفريقية، ما يسهل عليه لعب دور أكبر في أي مفاوضات إقليمية. هذه الثقة تفتح أيضًا أبواب التعاون السياسي، كما ظهر من دعم قنصليات في العيون والداخلة لتعزيز موقفه في قضية الوحدة الترابية، ما يبرز المغرب شريكًا موثوقًا وفاعلًا على الساحة الإقليمية.

وتصرَّف هذه الثقة المكتسبة من الوساطة إلى فرص استثمارية ملموسة، إذ يمكن أن تصبح الدول الإفريقية المستفيدة من الوساطة شريكًا تجاريًا للمغرب. ويجسد مشروع ميناء الناظور غرب المتوسط هذا الرابط بين النفوذ السياسي والاستثمار الاقتصادي، فهو قادر على استقبال 5 ملايين حاوية سنويًا ومعالجة ملايين الأطنان من المشتقات النفطية، واستقطاب استثمارات تفوق 80 مليار درهم، وخلق نحو 80,000–100,000 فرصة عمل مباشرة وغير مباشرة. هذه المشاريع لا تعزز الاقتصاد الوطني فحسب، بل تدعم التنمية الاجتماعية في مناطق مثل الريف، حيث تتحول الثقة الدبلوماسية إلى أثر اقتصادي ملموس ينعكس على حياة المواطنين.

علاوة على ما سبق، يسهم المغرب في تعزيز مكانته الثقافية من خلال التعليم وبرامج التكوين، مثل منح دراسية لنحو 15,000 طالب إفريقي وبرامج تدريب 1,500 إمام، بهدف بناء علاقات ثقة طويلة الأمد مع الدول الإفريقية. وهؤلاء الطلاب والخريجون والأئمة يصبحون جسورًا بين المغرب ودولهم، ويعرفون المغرب كشريك موثوق "دعاية لكن غير مجانية"، ما يجعل وساطاته أكثر قبولًا وفعالية ويقوي فرص التعاون المستقبلي. والربط بين المكاسب السياسية، الاقتصادية، والثقافية، يحول دور المغرب في الوساطة إلى نفوذ متعدد الأبعاد يدعم التنمية المحلية والاستقرار الاجتماعي والاقتصادي في المغرب. ومع ذلك، تواجه هذه الفرص تحديات داخلية وإقليمية يجب معالجتها.


العوائق الخارجية أو الداخلية التي تعيق قدرة المغرب على الاستمرار في الوساطة.

يجد المغرب نفسه أمام عوائق خارجية ثقيلة تُقيّد قدرته على لعب دور الوسيط الفاعل في القارة الإفريقية، يتصدرها التوتر المزمن مع الجزائر. فالعلاقة المتوترة بين البلدين تجاوزت حدود الخلاف الثنائي لتتحول إلى عامل إقليمي ضاغط، يحرم المغرب من بناء جبهة مغاربية موحدة تُشكّل أساسًا لأي تعاون إفريقي. إغلاق الحدود منذ سنوات وقطع العلاقات الدبلوماسية عام 2021 جعل من الصعب على الرباط أن تُثبت نفسها كفاعل جامع، كما يعزز هذا الفعل عدم الثقة لدول كثيرة تجاه المغرب لاعتبار إستحالة نجاحها في الوساطة وهي في مشكلة مع جارتها المراهقة، بل وفتح الباب أمام سباق تسلح يُغذي انعدام الثقة ويُبقي احتمالية الصدام قائمة، وهو ما يُضعف صدقية المغرب أمام نظرائه الأفارقة.

ورغم أن ملك البلاد محمد السادس لم يتوقف في خطاباته الرسمية عن مد اليد إلى الجزائر والدعوة إلى الحوار، إلا أن الجمود المستمر من الجهة الأخرى يجعل هذه المبادرات تصطدم بواقع سياسي مغلق ومتزمت، ويترك الدور الإفريقي للمغرب مُعلّقًا بين الإرادة الملكية والعقبات الجيوسياسية.

أما داخليًا، فالتحديات لا تقل صعوبة. أزمة الثقة العميقة بين الشباب والمؤسسات المنتخبة تمثل أحد أبرز المعوقات أمام صورة المغرب كوسيط. فبحسب دراسة صادرة عن مرصد الشمال لحقوق الإنسان، فإن سبعة من كل عشرة شباب مغاربة لا يثقون في المؤسسات العمومية، ما يُضعف شرعيتها ويجعل مبادرات المغرب في الخارج تبدو مجرد سياسات حكومية تفتقر إلى الدعم الشعبي. وعندما يغيب صوت الشباب عن عملية صنع القرار، ويُستعاض عن الحوار معهم بخطاب توجيهي أحادي، يتكرس الشعور بالإقصاء. هذا الانفصال بين المؤسسات والجيل الصاعد يجعل التجربة الديمقراطية تبدو شكلية، ويُفقد الدبلوماسية المغربية ركيزة حيوية قائمة على المشاركة الوطنية.

في هذا السياق، حرص الملك محمد السادس في خطبه المتعددة على الدعوة إلى إشراك الشباب بشكل فعلي في صياغة القرارين السياسي والاقتصادي، مؤكدًا أن مستقبل البلاد لا يمكن أن يُبنى من دون طاقتهم وإبداعهم. غير أن ترجمة هذا التوجه على أرض الواقع ما تزال مرتبطة بإرادة المؤسسات، وهو ما يفسر الجدل الذي أثارته التعديلات المرتقبة على قانون الأحزاب التي تعدها وزارة الداخلية برئاسة عبد الوافي لفتيت، حيث تسعى هذه التعديلات إلى تحديد عدد ولايات زعماء الأحزاب في ولايتين، مع إمكانية إضافة ولاية ثالثة انتقالية وفق شروط دقيقة. هذه الخطوة، التي يُنظر إليها كمحاولة لتجديد النخب السياسية، قد تُمهّد الطريق أمام بروز قيادات شابة، بما يعزز الثقة المفقودة بين المواطن والدولة ويمنح السياسة المغربية نفسًا جديدًا يتناغم مع الخطاب الملكي.

وغير بعيداً عن هؤلاء الشباب، ومما يُفاقم الوضع غياب تواصل رقمي فعّال مع هذه الفئة. ففي وقت يعيشون فيه على إيقاع المنصات الاجتماعية، تظل لغة المؤسسات تقليدية وبطيئة، تُرسل رسائل أحادية الاتجاه أكثر مما تُنصت. هذه الفجوة تزيد من ضعف القوة الناعمة للمغرب، وتعطي انطباعًا بأن سياسته الخارجية لا تعكس بالضرورة إرادة داخلية متماسكة.

وجنباً إلى جنب، تقف الفوارق الاقتصادية كعامل آخر يُقوّض الدور الإقليمي. فالريف، على سبيل المثال، ما زال يعاني ضعف البنية التحتية وشحّ فرص العمل، في صورة صارخة لما وصفه جلالة الملك في خطاب العرش بـ”المغرب ذي السرعتين”. سرعة المدن الكبرى وسرعة لا نتحسسها حتى بأصابعنا في تنمية المنطقة. مشاريع كبرى مثل ميناء الناظور غرب المتوسط، التي كان يُعوَّل عليها لتغيير وجه المنطقة، ظلت رهينة التأجيل. فبعد أن حُددت "بعد تأجيل" سنة 2024 موعدًا للافتتاح، جاء تصريح وزير التجهيز نزار بركة في 2025 ليؤكد أن التدشين لن يتم قبل النصف الثاني من 2026، بسبب عراقيل تقنية ولوجستية. هذا التأخير لا يعني فقط ضياع فرص استثمارية، بل يُعمّق أيضًا شعور سكان المنطقة بالتهميش ويُغذي الإحباط الاجتماعي.

وتنعكس هذه الأوضاع مباشرة في تنامي ظاهرة الهجرة غير النظامية. فوفق تقرير المنظمة الدولية للهجرة (2025)، سُجلت 336 حالة وفاة قبالة السواحل المغربية خلال عام 2024، ضمن حصيلة إقليمية بلغت 3,488 وفاة أو اختفاء في شمال إفريقيا والشرق الأوسط. معظم الضحايا شباب يائس اختار مواجهة الأمواج بدل انتظار وعود تنموية مؤجلة. نهيك عن التقارير الإخبارية الشبه يومية التي تعرض توافد أعداد هائلة من شباب المنطقة وغيرها على سبتة ومليلية قصد اعتناق الحلم الأوروبي. هذه المآسي تكشف بوضوح أن العجز عن خلق أفق داخلي آمن ومستقر يضعف تلقائيًا قدرة المغرب على استثمار نفوذه الدبلوماسي في الخارج، فالدور الوسيط لا يكتسب مصداقيته إلا حين يستند إلى قاعدة اجتماعية واقتصادية متينة، تظهر أن المؤسسات والمجتمع على سكة واحدة.


الخطوات أو السياسات التي يمكن أن يتبعها المغرب لتحسين فعاليته في الوساطة.

لقد أثبتت التجربة المغربية في إفريقيا أن الوساطة لا تقتصر على الدبلوماسية الرسمية فقط، بل تمتد لتشمل أدوات ثقافية ودينية تخلق جسور ثقة بين المغرب ودوله الإفريقية الشريكة. ومن بين هذه الأدوات، تلعب الزوايا الصوفية المغربية، مثل الزاوية القادرية البودشيشية، دورًا بارزًا في تعزيز نفوذ المغرب الاجتماعي والروحي، ما يمكّنه من تقريب وجهات النظر وتهدئة التوترات في مناطق النزاع. حيث تشكل هذه الزوايا أداة دبلوماسية فريدة بفضل نفوذها الاجتماعي والروحي الواسع الذي يمتد إلى دول إفريقية مثل السنغال ومالي. وفقًا لحميد اعناية، باحث في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، فإن الزوايا الصوفية لعبت دورًا كبيرًا في بناء علاقات دينية وثقافية بين المغرب وإفريقيا، خاصة من خلال تنظيم ملتقيات صوفية مثل الملتقى العالمي للتصوف في مداغ بإقليم بركان.

هذه الملتقيات تجمع ممثلين من دول إفريقية لمناقشة قضايا مشتركة، مثل النزاعات القبلية حول الموارد، ما يخلق أجواء من الثقة والتفاهم تسهّل عمل الوساطة المغربية. ولا يُنظر إلى هذه الزوايا كمجرد أماكن للعبادة أو الاحتفاء بالطقوس الدينية، بل باعتبارها منصات اجتماعية وثقافية حيوية تبني جسورًا من التعاون والحوار بين المجتمعات المحلية والدبلوماسية الرسمية.

و استكمالًا لدور المغرب في تعزيز الوساطة عبر بناء الثقة مع الشركاء الإفريقيين، تأتي مبادرة المحيط الأطلسي كأداة استراتيجية أخرى، تربط دول غرب إفريقيا مثل نيجيريا ومالي. إذ تهدف هذه المبادرة إلى إنشاء موانئ وطرق تجارية، مثل ميناء الداخلة الأطلسي، لتسهيل التجارة وخلق فرص عمل، بما يعزز الاستقرار الاقتصادي ويقلل التوترات الأمنية، مثل النزاعات في الساحل، وبالتالي خلق بيئة مواتية للوساطة. كما يُعزّز التدريب الدبلوماسي في مؤسسات مثل الأكاديمية المغربية للدراسات الدبلوماسية قدرة المفاوضين على فهم الثقافات والسياسات الإفريقية، ما يجعل الوساطة أكثر فاعلية في النزاعات المعقدة.

كما لا يمكن للوساطة أن تنجح دون استقرار داخلي. الفوارق الاقتصادية، وعلى وجه الخصوص في منطقة الريف، وهو مثال حي للمغرب بسرعتين الذي أشار لها جلالة الملك في خطاب العرش، تضعف الثقة في المؤسسات، مما يؤثر على مصداقية المغرب كوسيط. وتسريع مشاريع مثل ميناء الناظور غرب المتوسط يمكن أن يخلق 80,000-100,000 فرصة عمل وبالتالي أداة معقولة لردع الإحباط الاجتماعي، كما أن الاستثمارات في البنية التحتية تعزز الاستقرار الداخلي، مما يجعل الدولة أكثر قدرة على قيادة الوساطة.


بالإضافة إلى ما سبق، يظل التوتر مع الجزائر، المتمثل في إغلاق الحدود وقطع العلاقات منذ 2021، أحد أبرز العوائق أمام فعالية المغرب كوسيط في إفريقيا. ومع ذلك، حرص المغرب بقيادة جلالة الملك على تقديم مبادرات حوارية غير مسبوقة، عبر التأكيد على ضرورة حوار صريح وأخوي واليد الممدودة تجاه الجارة الشقيقة. وتنظيم لقاءات ومبادرات اقتصادية وثقافية تحت مظلة الاتحاد الإفريقي لتعزيز التعاون الإقليمي. ورغم الجمود الجزائري المستمر، فإن هذه الخطوات تُظهر التزام المغرب بدوره الوسيط، وهو التزام يضع في الاعتبار أيضًا أثر هذه السياسات الدولية على المواطنين المغاربة، لا سيما في مناطق مثل الريف، حيث يُطرح السؤال عن مدى استفادتهم المباشرة أو غير المباشرة من هذه الجهود الدبلوماسية.

التأثير المباشر والغير مباشر لهذه السياسات الدولية على المواطنين المغاربة (الريف نموذجاً)

تثير السياسات الدولية التي ينخرط فيها المغرب نقاشًا واسعًا حول انعكاساتها على حياة المواطنين، خاصة في الريف التي تعيش على وقع هشاشة اجتماعية واقتصادية. فعلى الرغم من أن الرباط نجحت في تعزيز حضورها في القارة الإفريقية وكسب دعم دبلوماسي لقضية الصحراء المغربية، إلا أن المواطن العادي يواجه صعوبة في ربط هذه الإنجازات بواقعه اليومي.

ويظهر التناقض بشكل جلي حين يقارن أبناء الريف بين الصورة التي يُسوّق بها المغرب في الخارج كوسيط إقليمي مؤثر، وبين واقعهم المحلي الذي يعاني من تراجع الخدمات العمومية وضعف البنية التحتية. فمواطن من “نومرو ن 7” أو “أجدير” قد يشاهد الإنجازات المغربية خارجياً، بينما يعود متذمراً من مستشفى إقليمه، حيث يُبلغ بعدم توفر سرير أو يُعطى موعدًا بعيدًا عن موعد "أجله". ويزيد من هذا الإحساس انخراط المغرب في مشاريع إفريقية ضخمة، مثل خط أنابيب الغاز والاستثمارات الفلاحية، التي تتطلب موازنات هائلة، مما يدفع المواطن إلى التساؤل: هل تُصدّر التنمية إلى الخارج بينما القطاعات الحيوية مثل الصحة والتعليم والتشغيل ما تزال تعاني؟

وبينما تتصدر عناوين الإعلام قصص نجاح المغرب في إفريقيا، يظل جزء كبير من الشباب وسكان القرى المهمشة بعيدين عن الاستفادة المباشرة من هذه الإنجازات، ما يعمّق فجوة الثقة بين المواطن والمؤسسات ويزيد شعوره بأن الإنجازات تبقى خارجية الطابع ولا تمس حياته اليومية. هذا الواقع يطرح تحديًا على الدولة لإعادة ربط النجاحات الخارجية بالمنافع الملموسة داخل المناطق المهمشة، بما يعزز الشعور بالإنصاف ويقوّي الثقة الوطنية.

في النهاية، ورغم المكاسب الدبلوماسية التي يحققها المغرب في الخارج، فإن غياب مردود ملموس لهذه السياسات على المستوى المحلي يجعلها عرضة للانتقاد، ويؤكد أن أي نجاح خارجي لن يكتمل إلا إذا رافقه توازي داخلي ملموس ينعكس إيجابًا على المواطنين المحليين ويعزز الثقة في المؤسسات.


تعليق جديد

التعليقات المنشورة لا تعبر بأي حال عن رأي الموقع وسياسته التحريرية
شكرا لالتزام الموضوعية وعدم الإساءة والتجريح