المزيد من الأخبار






انقر هنا


انقر هنا
بقلم: بلال مرابط

دخلت هذا المقال بإرادتك؟ أم لأن عبارة صغيرة استفزت فضولك، ودغدغت فيك وهم “الاكتشاف”؟ وصورة حمراء عززت ذلك؟ الحقيقة أنك لم تفعل سوى ما خطط له آخرون منذ زمن: أن تضغط على رابط، أن تستهلك فكرة، أن تمنح وقتك وجهدك ونقرتك في الاتجاه الذي يخدم مصالحهم.

هذا ما نعيشه في حياتنا اليومية أكثر مما ندرك: حياتنا مليئة بالخيارات، لكن كم منها حقيقي، وكم منها مجرد استجابة لعوامل خارجية أو داخلية حتى، قد لا نعرفها؟ السؤال لم يعد مجرد مبدأ ديني عن هل الإنسان مسير أم مخير، بل أصبح واقعاً عملياً: كيف يؤثر محيطنا، بل حتى جسدنا وعقلنا، على قراراتنا وسلوكياتنا واستهلاكنا؟

في سنة 2000، وثّق الطب حالة غريبة لشخص كان لديه ميول جنسي شاذ، ليكتشف لاحقاً أن وراءه ورماً صغيراً في المخ. بعد إزالة الورم، عاد سلوكه إلى طبيعته تماماً، وتغيرت ميولاته بشكل واضح. هذه الحالة تطرح سؤالاً عميقاً: إلى أي مدى تتأثر اختياراتنا وعاداتنا وعواطفنا بعوامل خارج محيط إرادتنا؟ ورم صغير في المخ كان كافياً لتغيير ميول الشخص، دون أن يدرك هو السبب.

وبتأثر المخ هنا من عامل داخلي، يتضح أن عقولنا سهلة التأثر بعوامل أخرى، إذ أن التأثير ليس مقتصراً على الجسم فقط، بل يمتد إلى البيئة التي نتواجد فيها يومياً. خذ مثلاً: خطواتنا في السوبر ماركت ليست بريئة، صفوف البلاط أو الزليج تكون عند بعض الرفوف أصغر من غيرها والخطوط المتقاربة "حواف الزليج" توهمك أنك تسرع وذلك عندما تهتز عربتك بالمرور فوقها، وترسل إشارة لدماغ بشكل غير مباشر.. أن تمهل. لتتأمل الرفوف، وتستغرق وقتاً أطول بين المنتجات. كل لون، كل زاوية، كل ضوء، وحتى الموسيقى المرافقة ليست عشوائية، بل جزء من منظومة دقيقة تهدف إلى التأثير على قراراتنا دون أن نشعر بذلك.

وبحديثنا في هذا الجانب، لابد أن نذكر الشركات الكبرى أيضاً، والتي تستغل هذا الأسلوب بطرق أوسع: الإعلانات التي تصلنا في الوقت المناسب، ترتيب المنتجات، تصميم واجهات التطبيقات، كل شيء يهدف إلى توجيه اختياراتنا بشكل لطيف ودقيق. نحن نعتقد أننا نختار بحرية، لكن في الغالب نحن نتفاعل مع ما أعد لنا مسبقاً، ونستجيب لمؤثرات مصممة بعناية لتوجيه رغباتنا.

لكن كيف تعرف الشركات ذلك؟ الإنسان بطبعه كائن يميل إلى التكرار، يكرر الفعل نفسه إذا توفرت له نفس الظروف. وهذا ما يجعل كثيراً من التوقعات تتحقق وكأنها نبوءات مسبقة، بينما هي في حقيقتها مجرد نتيجة منطقية لمسار متكرر. فإذا اجتمعت نفس العوامل الخارجية والداخلية، فمن الطبيعي أن تقود إلى نفس النتيجة. وهنا يتضح أن ما نعتبره “اختياراً جديداً” ليس في الغالب إلا تكراراً لسلوك قديم في بيئة مشابهة، ولهذا تنجح الشركات في التنبؤ بعاداتنا، وتُبنى على ذلك أنظمة كاملة من التسويق والسياسة وحتى العلاقات الاجتماعية.

ومنها أيضاً التوقعات في مختلف الميادين، من الاقتصاد إلى الرياضة وحتى السياسة. فهي ليست خدعة سحرية، بل قوة علم النفس حين يُفهم جيداً: إذا تكررت الظروف نفسها، فإن البشر غالباً سيكررون السلوك ذاته، ما يجعل النتائج قابلة للتوقع بدرجة مدهشة. ولهذا تبنى البورصات على أنماط قديمة، وتخطط الحملات الدعائية على ردود أفعال متوقعة، وتنجح التنبؤات أحياناً فقط لأنها تستند إلى ميل الإنسان العميق إلى إعادة إنتاج نفسه في السياقات المشابهة.

الأمر ذاته ينطبق على حياتنا الاجتماعية والإعلامية. ما نراه من محتوى على منصات التواصل، أو البرامج التي نتابعها، وحتى الأخبار التي تصلنا، غالباً ما يتم اختيارها وفق ما سيشد انتباهنا أو يثير فضولنا. ما نظنه خياراً شخصياً يكون في كثير من الأحيان نتيجة تفاعلنا مع بيئة صممت لتثير اهتمامنا بطريقة دقيقة ومدروسة.

ولنا في التاريخ أيضا أمثلة على هذا التوجيه الخفي. في روما القديمة، كانت ساحات المصارعة وألعاب الترفيه وسيلة لإبقاء الناس منشغلين عن التفكير في القرارات الكبرى. وفي القرن العشرين، صارت الدعاية فناً قائماً بذاته، تقدم الأخبار والأحداث مع صياغة دقيقة لكيفية شعور الجمهور تجاهها. كل شيء يوحي بالاختيار الحر، بينما اللعبة الحقيقية تجري خلف الكواليس، بخطوط دقيقة لا تراها أعيننا.

وعندما نعود إلى حياتنا اليومية، نجد أنفسنا غالباً نسلك مسارات متكررة بلا وعي. كم مرة فتحت هاتفك لتفقد رسالة قصيرة، ووجدت نفسك بعد ساعة تتنقل بين مقاطع وفيديوهات لم تكن تخطط لها؟ كم مرة دخلت متجرًا بقصد شراء شيء واحد، وغادرت ومعك أشياء لم تكن ضمن قائمتك؟ هذه ليست مصادفة، بل نتيجة تفاعل عوامل داخلية وخارجية تراكمت لتوجّه سلوكك.

ومع ذلك، لا يجب أن نرى الأمر كقدر محتوم. الوعي وحده يمكن أن يكون خطوة صغيرة نحو حرية حقيقية. حين تدرك أن كثيراً مما يجذبك قد صُمم لجذبك، وتفهم كيف تؤثر البيئة والجسم على اختياراتك، تستطيع أن توقف نفسك، أن تقول “لا” حين تحاول رغبتك أن تتوسع بلا داعٍ، أن تتحكم ولو جزئياً في اختياراتك. الحرية ليست مطلقة، لكنها تصبح موجودة في لحظة وعيك، في قدرة قلبك وعقلك على التمييز بين ما تريد فعلاً وما تم توجيهك إليه.

أما “انقر هنا”، فقد كانت مجرد تجربة، تجربة لتذكيرك بأن وراء كل نقرة قصة أكبر مما تتصور. ويبقى السؤال معلقاً: هل اخترت أن تدخل، أم أن المقال هو من اختارك؟


تعليق جديد

التعليقات المنشورة لا تعبر بأي حال عن رأي الموقع وسياسته التحريرية
شكرا لالتزام الموضوعية وعدم الإساءة والتجريح