المزيد من الأخبار






الفاعل السياسي والنقابي محمد الصلحيوي يكتب عن القضية الديمقراطية


الفاعل السياسي والنقابي محمد الصلحيوي يكتب عن القضية الديمقراطية
ذ.محمد الصلحيوي

قدمت لنا القناة التلفزية الثانية يوم الأربعاء، 08.04.2015، ضمن برنامج "مباشرة معكم" لحظة سياسية غاية في الأهمية والدلالة، وهذا بصرف النظر عن مقصديات وأهداف القناة، ومن وراءها السياسة الرسمية، حيث جمعت ثلاثة أطراف على طاولة التناظر والمواجهة، أحزاب الحكومة وأحزاب ما يسمى بالمعارضة البرلمانية وممثلة المعارضة الشعبية الديمقراطية واليسارية.
ما يهم من هذا البرنامج التلفزيوني شيئان: صورة طاولة التناظر والمواجهة والمضامين المعبر عنها من طرف عناصر تلك الصورة.

على مستوى الصورة: حرصت القناة الثانية أن تقدم عبر –مخرجها- صورة مكثفة لطبيعة التعدد السياسي بالبلاد: خمسة أحزاب وممثل الأكاديميين أو الباحثين أو المثقفين(ولا أعرف من أين يأتون بهذه النماذج)، والجميع على طاولة البلاطو ومعهم مدير البرنامج، تصنيفه أنه أحضر الأغلبية والمعارضة (والحزب الصغير)، ومعهم الفقيه الدستوري، مع اجتهاد خاص للمخرج الذي أبعد من الصورة الحضور الذي صاحب الأمينة العامة للحزب الاشتراكي الموحد، ومنسقة فدرالية اليسار الديمقراطي في نفس الآن.

إن الخدعة السياسية لمثل هكذا صورة هي: " أولاد عبد الواحد كلهم واحد" إلا أن الرفيقة نبيلة منيب"فجرت" هذه الصورة من الداخل، وأعادت ترتيب عناصرها حين أكدت أن أمر هذه المناظرة من حيث الواقع الماثل أمامنا هو طرف واحد( الحزب الاشتراكي الموحد) في مواجهة أربعة (4) أحزاب و"المثقف" خامسهم، وبهذا أعادت الأمينة العامة الأمور إلى نصابها وحقيقتها، وحين أراد مقدم البرنامج إرباكها بالقول" وهل المعارضة والأغلبية سيان" أجابته بمعنى قطعي هما وجهان لعملة واحدة (بحال بحال).

على مستوى المضمون: أراد معد البرنامج ووراءه القناة الثانية، تقديم خلطة سياسية للمشاهد المغربي( السياسي وغير السياسي) تكون فيها الأمينة العامة والحزب الاشتراكي الموحد الذي تمثله تائهة بين "قطبين" "الأغلبية والمعارضة" وهذا هو المقصود من استدعائها، فانقلب الوضع من حيث التأثير والتلقي إلى نقيض ذلك، أحزاب رجعية وإدارية ومتمخزنة غارقة في نقاش حول التحكيم: أهو دستوري أم غير دستوري؟ ما هي المؤسسات الدستورية؟ ولماذا لم يشاورهم رئيس الحكومة؟ وتصريحاته هنا وهناك.

كانت تدخلات الأمينة العامة واضحة ومنهجية، وتأكيدها أن انتظارات الشعب المغربي من هكذا نقاش هو ما جاءت به حركة 20 فبراير من حرية تعبير وكرامة العيش والعدالة الاجتماعية في توزيع الثرة الوطنية، بكل ما يستتبعها من إجراءات عملية في التعليم والصحة والسكن والأجور ومحاربة البطالة، وناظم كل هذا نظام سياسي يؤسس للملكية البرلمانية، وهو الغائب في المناظرة سواء لدى الأحزاب المسماة أغلبية أو شقيقتها المسماة بالمعارضة. واقع الحال يؤكد ردة فكرية وبؤسا سياسيا، والتحكيم الحالي استجداء سياسي. والمشكل لا يتعلق برئيس حكومة ( مع محاسبته على اختياراته) بل المشكل في كون دستور 2011 لم يؤسس للديمقراطية الحقيقية. كانت تدخلات الأمينة العامة نبيلة منيب كافية لتوحيدهم ( أغلبية ومعارضة) في الرد عليها فوجدوا في الكلمات من قبيل: العدمية- تبخيس المكتسبات- الخطاب الثوري الملجأ الوحيد والعشوائي في مواجهتها.

إن برنامج "مباشرة معكم" ومن حيث الشكل والمضمون، والذي تابعه المغاربة، يفرض هنا إعادة صياغة الرؤية الديمقراطية التي يمتاح وينهل منها الحزب الاشتراكي الموحد، لأن السؤال الذي يعيد طرح نفسه هو: هل الوضع المغربي العام لا يعطي سوى المخزنة أو العدمية ؟ أم أن هناك الخيار الآخر لدمقرطة الدولة والمجتمع وإقامة الملكية البرلمانية ؟

لنطرح المسألة...

رغم أن السمة العامة للدستور المغربي الحالي، باعتباره أسمى وثيقة في البلاد، هي أنه غير ديمقراطي، وأنه يكرس الثوابت المخزنية من حيث الجوهر، وأنه يترك المجال واسعا للتراجع عن المكتسبات الديمقراطية، ورغم تعرض الحركة اليسارية الديمقراطية تاريخيا للقمع ومحاولة اجتثاث من الجذور (مختلف الاغتيالات والتصفيات لما بعد الاستقلال، أو القمع الشرس لأجنحة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، أو سنوات الرصاص الذي تعرض لها اليسار المغربي السبعيني) رغم كل ذلك فإن الطبقة السائدة لم تستطع تسييد خيارها الأحادي، المطلق، ولا أن تقضي القضاء المبرم على الحركة الجماهيرية المناضلة وفي قلبها الحركة اليسارية الديمقراطية.

إن الوضعية أعلاه قد غطت العشرين سنة لما بعد الاستقلال والتي توجت بتغيير جذري على مستوى رؤى النضال والتغيير، إذ أدى تطور الواقع الموضوعي وتبدل معطياته بأجنحة أساسية داخل الحركة التقدمية واليسارية إلى تبني الخيار الديمقراطي كاستراتيجية للتغيير، بعد تأكدها من تجاوز المعطى الموضوعي لثنائية "إصلاح أم ثورة" فلا الطبقة السائدة استطاعت تسييد منطق الإصلاح الخدوم لمصالحها والقضاء على المعارضة، ولا الأخيرة استطاعت إسقاط النظام بكل الأساليب والأشكال التي اتبعتها، من هنا تأتى التوافق الموضوعي حول الديمقراطية باعتبارها حاجة موضوعية لمختلف الصراعات الطبقية.

إن دولة الحق والقانون كصيغة للصراع الاقتصادي، والمسلسل الانتخابي كصيغة للديمقراطية السياسية، أطرا – بالإضافة إلى مجالات أخرى- ثمانينيات وتسعينيات والعشرية الأولى من الألفية الثانية، وقد أنهتها حركة 20 فبراير 2011.

إن المجمل هنا ومن زاوية تحقيبية أن سياسة الكر والفر أو الانفتاح والانغلاق، الذي نهجته الطبقة السائدة لم تأت أكلها، فالقمع وحده لا يقضي على المعارضة اليسارية، بل يقويها، لأنها تخرج من كل موجة قمعية أكثر ثباتا وإصرارا على التغيير، والشواهد على ذلك انتفاضة الريف 1958، انتفاضة 23 مارس بالدار البيضاء، والحركة المسلحة 3 مارس 1973، وانتفاضة يناير بالريف 1984. كل ذلك دفع الطبقة السائدة إلى تبني خيارا تكميليا وتأسيسيا في نفس الآن، لانفتاح ما بعد طرح القضية الوطنية وهو ديمقراطية الواجهة مصاحبة بثلاث معطيات:

- اضعاف المدرسة العمومية بإفراغها من كل مضمون تنويري عقلاني.

- تدجين المثقفين وتحويلهم إلى أصوات مرددة عوض فاعلين منتجين.

- غرس سيكولوجية الخوف وتفريخ الأحزاب الإدارية والنقابات المحنطة.

وبالمقابل، استغلت الحركة الديمقراطية واليسارية انفتاح أواخر السبعينيات وما تلاه، لإعادة الارتباط بالحركة الجماهيرية، خصوصا بالبادية المغربية، وإعادة هيكلة تنظيماتها، بعد كل الانهاكات والتشتيت الذي تعرضت له خلال سنوات الرصاص المظلمة.

لقد كان ذلك الانفتاح في ظل تلك الشروط يخدم حاجة موضوعية لدى الطرفين المتصارعين، حاجة الحركة الديمقراطية واليسارية في أخد النفس، وحاجة الطبقة السائدة للخروج من الأزمة الخانقة خصوصا بعد محاولتين انقلابيتين: إن الالتقاء موضوعي إذن والحاجة مشتركة في ظل شرط مواجهة تناقضات معركة الوحدة الترابية. إن الخلاصة التي خرج بها اليسار أواخر السبعينيات هي التالية:

أن التناقض الرئيسي الذي يفرق بين القوى الديمقراطية من جهة، والرجعية من جهة ثانية، لا زال قائما، إذ ليس شكل الصراع في طور من أطواره هو الذي يحدد طبيعة التناقض بين الطرفين، بل طبيعة المصالح الطبقية التي يحملها كل منهما في مرحلة تاريخية معينة هي المحدد والمقرر الحاسم.

ولقد كان على الحركة اليسارية والحركة التقدمية عموما دخول مرحلة النضال الديمقراطي الراديكالي بكل وضوح وتبصر، من جهة مواجهة ديمقراطية الواجهة بوعي ديمقراطي أصيل ومواجهة التيار اليسراوي العدمي، بسلاح الفكر النقدي لكشف تخبطاته التنظيمية والفكرية والنضالية من جهة ثانية. فبالإضافة إلى عدميته الوطنية، موقفه من المسلسل الانتخابي الذي لم ير فيه إلا الملهاة، فهو يعتبر الانتخابات مجرد مهزلة ليس إلا.

كان تقييم اليسار لمعركة انتخابات 76 و 77، الجماعية والتشريعية، معركة سياسية وطبقية حقيقية بين جبهة قوى التقدم والديمقراطية من جهة، وجبهة الرجعية والبرجوازية الوطنية المساومة من جهة ثانية، وكأي انتخابات، ولو كانت بالتزوير والرشوة والقمع، فإنها ترسم لوحة تقريبية لموازين القوى ومواقف أطرافها.

وكان تقييم اليسار الديمقراطي الراديكالي لتلك المعركة كالتالي:

- خوف الطبقة السائدة من أن أي تعبير حر للجماهير، وعدائها المكين للديمقراطية الليبرالية، فالسمة الإقطاعية القمعية هي السمة البارزة لسلوكها اتجاه الجماهير.

- استعداد البرجوازية الوطنية المتوسطة الدائم للمساومة على الجزء القليل من الديمقراطية الليبرالية، مترجمة بذلك قصر نفسها، وطبيعتها التجارية، وعقلية الربح والخسارة، تلك سمتها في سلوكها السياسي.

- ضعف تدخل جماهير العمال والفلاحين في المعترك السياسي، نتيجة التدمير الممنهج الذي مارسته البيروقراطية في الإتحاد المغربي للشغل الذي عمل على ترسيخ عزلة الطبقة العاملة عن قوى التحرر، وضعف الأخيرة في البادية ووسط الفلاحين الفقراء.

- الانتشار الواسع لمزاج جماهيري رافض، وفي حالات غير مكترث ولا مبالي بسبب فقدان الثقة في جدية الانتخابات وأهميتها النضالية.

تلك كانت أهم سمات أواسط السبعينيات والذي خلص اليسار منها إلى:
أولا: أن الذي يناضل بثبات من أجل الديمقراطية الليبرالية على أوسع نطاق لأنها تخدم صراعه الطبقي من أجل الديمقراطية الشعبية، ليست البرجوازية الحاكمة، ولا البرجوازية الوطنية المساومة، بل بالضبط الطبقات الشعبية الكادحة.

ثانيا: أن الوعي الديمقراطي لا زال في بدايته، رغم المشاركة الجماهيرية، لأنه يواجه ميزان قوى غير متكافئ من جهة، ولأنه يواجه ضعف الوعي السياسي وسط الجماهير من جهة ثانية. ويسود التزوير والرشوة والقمع لأن الطبقة السائدة مطمئنة لغياب ردة فعل قوية على تلك الأساليب.

وخلاصة اليسار حول هذه القضية هي:

أن التجارب اليسارية عالميا، والتجربة المغربية الخاصة، تؤكد بما لا يقبل الجدل أو الشك، أن المشاركة في البرلمانات والمجالس ولو كانت رجعية لا تضر اليسار والتقدم الديمقراطي، بل تفيدهما وتقدمهما إن أحسنت القوى اليسارية استعمالها، مع التصعيد اللازم لانتصار الديمقراطية الحقيقية.

شرط واحد يضعه اليساريون على أنفسهم وهو ألا ينوب نضالهم الجماعي والبرلماني عن نضالهم الجماهيري في مجرى الصراع المباشر مع الطبقة السائدة، وان لا يستعيضون عن هدف الديمقراطية الشعبية بالبرلمانية البرجوازية البلهاء.

إن النضال الانتخابي بالنسبة لليساريين الراديكاليين كالنضال الاقتصادي بالنسبة للطبقة العاملة. لأنه يهدف إلى تحسين شروط النضال السياسي، كما أن الثاني يهدف إلى تحسين شروط الاستغلال الطبقي من أجل اقتلاع جذوره. فكلما كان الهامش الليبرالي واسعا كلما سهل على اليساريين تعبئة الجماهير وتوعيتها وتنظيمها لتهييئها للتغيير المنشود.

لقد تشبث اليسار المغربي بمبدئيته تلك، ووعيه الحاد بأهمية تطوير المكتسبات وكان دائما ضد هدر الطاقات النضالية الجماهيرية، وبنفس طويل في ربط جسور التنسيق والتحالف مع قوى التقدم، وتجاوز مقولة " إفلاس الإصلاحية" التي سادت وسط اليسار السبعيني في نقده للأحزاب خصوصا للاتحاد الوطني للقوات الشعبية.

انخرط الجزء الأساسي من اليسار السبعيني (=الجديد) إذن في النضال الديمقراطي الجماهيري مسلحا برؤية ديمقراطية صلبة، نواتها الاساسية نسبية المساهمة النضالية لليسار إلى جانب قوى التقدم الأخرى، والخروج نهائيا من الخلاصات والمواقف الإطلاقية التي صاحبت نشوءه وتشكله داخل الحقل السياسي المغربي، كما تجاوز نهائيا تضخم الأنا الطليعية مفسحا المجال للعمل النضالي الجبهوي، منطلقا من الانتخابات هي قاعدة التمثيل الشعبي، وبالتالي المشاركة فيها هي القاعدة والمقاطعة هي الاستثناء، متوجها صوب بناء روافع النضال الديمقراطي خاصة الشباب والنساء، والدفع نحو دمقرطة النقابات المناضلة.

إن ذلك التحول /التطور هو الذي حول اليسار إلى رقم حقيقي على الساحة الوطنية، على الرغم من استمرار قمعه ومضايقة نشاطاته، وكذا طبخ ملفات مزيفة لمناضلاته ومناضليه.

فليس غريبا إذن أن تجتمع تعبيرات اليسار غير العدمي( فعلا وليس تشهيرا) في الحزب الاشتراكي الموحد، مقدمة الجواب الجذري لتشتت فصائله.وليس غريبا أن يجد الحزب الاشتراكي الموحد في حركة 20 فبراير تعبيرا سياسيا ونضاليا لرؤيته الكفاحية، وينخرط فيها بدون تردد.

إن من أفضال حركة 20 فبراير أنها أنهت مرحلة ما سمي " بالمسلسل الديمقراطي" أو "الهامش الديمقراطي"، وأكدت من خلال منطقها استحالة الاستمرار في تأجيل الديمقراطية الحقيقية، وبالتالي للملكية البرلمانية مخرجا /تطورا لطبيعة الوضع المغربي، وقد سرعت هذه الحركة وتيرة الفرز داخل الحقل السياسي، وتبلورت خريطة الاصطفاف من مطلب الدستور الديمقراطي المؤسس للملكية البرلمانية.

إن دستور 2011 الإلتفافي على مطالب حركة 20 فبراير، التي هي حركة تغييرية وليست حركة احتجاجية، أنه دفع مختلف القوى المنتمية تاريخيا للصف الوطني الديمقراطي إلى تجديد تموقعاتها السياسية، والخروج من دوائر الالتباس والغموض والتردد.

إن حزب التقدم والاشتراكية قد تحول فعلا إلى دكان من الدكاكين الانتخابية، وبالتالي فالتهيان السياسي الذي خلفه فيه الراحل علي يعته، مع نسبية دور الأشخاص في صنع مصائر، تطور إلى وضعية الحزب الحالية، والاتحاد الاشتراكي قد حسم أمره، وطهر صفوفه من كل ذي صلة مع الاتحاد الاشتراكي كما صاغه المؤتمر الاستثنائي 1975. وبالتالي أغلق ما يمكن تسميتها بالمرحلة البوعبيدية، واختار التمخزن وبكل تداعياتها التنظيمية والفكرية.أما حزب لاستقلال الذي لا يعرف لونه، فقد واصل سياسته المحافظة والبركماتية المساومة. السؤال الختامي هو: ما طبيعة التناقض الرئيسي الراهن؟

إن طرفي التناقض في تمظهره الحالي هو: القوى الرجعية والمحافظة والإدارية والمتمخزنة من جهة، وفيدرالية اليسار الديمقراطي والجبهة النقابية ومختلف الحساسيات الفكرية المتنورة والسياسية المناضلة من جهة ثانية.


تعليق جديد

التعليقات المنشورة لا تعبر بأي حال عن رأي الموقع وسياسته التحريرية
شكرا لالتزام الموضوعية وعدم الإساءة والتجريح