المزيد من الأخبار






الظلامية في الفكر و فكر الممانعة


الظلامية في الفكر و فكر الممانعة
بقلم : عبد الكريم بولعيون

وأنا أقرأ مقالا عنونه صاحبه خالد قدومي ب " الممانعة خدمة مجانية للظلامية " منشورا في عدة مواقع محلية ، وجدت نفسي بعد برهة مضطرا ، لا للرد عليه أو نقض مغالطاته و ومفارقاته ، فالرد في اعتقادي ينبغي حينما يكون حديث صاحبه أوضح ، وحججه تكون منيعة ، وأفكاره ناضجة ، و عناصره متسلسلة ، يبني لا يهجو ، ينسق لا يبعثر ، يناقش لا يؤدلج ، يميز لا يعمم ، لا يجمع بين التيارات المختلفة في قفة واحدة بل و حتى بين التي لا تمثل إلا صاحبها ؛ وكأنها الدلتونية أوقعت بصاحبنا ، فلم يعد يميز بين ألوان التيارات السياسية و الفكرية المختلفة ؛ لكني أجد نفسي فقط راغبا في تسجيل بعض الملاحظات الضرورية و التركيز على بعض المفاهيم الفكرية بدل الخوض في جدال عقيم لا طائل من ورائه .

فصاحبنا كما فهمت من كلامه دعوته جد ملحة الى ليبرالية متحررة تقضي على كل فكر ظلامي رجعي و متخلف ، بيد أنه للمفارقة سقط في ديكتاتورية فكرية فيها من الدوغمائية و الوثوقية ما يجعلها أكثر ظلامية لا تعرف غير نفي الآخر و استئصال البدائل المخالفة ، و اجتثاث التجارب المتنوعة . أي ليبرالية هذه التي يتحدث عنها صاحبنا لا من حيث المعنى و التطبيق ؟ لقد كانت و مازالت طوباوية ، ظلت مجرد اسم دون مسمى ، لم يكن لها أي وقع إيجابي في تاريخنا السياسي المغربي لا القديم ولا الحديث ، وهي على العموم نوعان : الماضوية و التي ساهمت بشكل مباشر مع المخزن منذ ما يزيد عن 50 عاما في استنزاف ثروات المغاربة ... و الثانية حديثة العهد و هي الآن جزء لا يتجزأ من سياسة التحكم بحكم ولادتها غير الشرعية على الطريقة القيصرية. وأما الجامع بينهما فهو افساد و تخريب المشهد السياسي مع فارق مهم هو أن الثانية أو الأخيرة أرادت أن تجهز على ما تبقى من قيم الأصالة المغربية و تخدير عقول و صحة الشباب . فأي انعكاس يقصده في مقدمته بين ما هو دولي على ما هو وطني و محلي ، إنها مجرد أضغاث أحلام ، فشتان بين ليبرالية الغرب والإنسان الغربي الذي يقبل بالاختلاف و التعدد و بين الليبرالية المغربية و بالأحرى ليبرالية صاحب المقال الضالعة في التنميط والاستئصال و القذف و العويل ونفي الآخر.

أما و المقالة ليست علمية كما أراها ، فيبقى هناك خياران : إما أن نبكي معه حسرة وألما لأن ما يرغب فيه لم يتحقق ـ وليس كل ما يرغب فيه الانسان صحيحا ـ فنسايره في سب الزمان و المكان والإنسان و نستجدي عطف العباد على أن يغيروا من طريقة تفكيرهم المريضة و التي تعاطفت مع أولائك "المرضى السياسيين " ـ و يقصد بهم العدالة و التنميةـ الذين جاء بهم التاريخ و الزمان عنوة و عليهم أن يحاربوا هذا التاريخ الذي حاباهم و يقلبوا مجراه كما فعل ماركس مع هيجل ، وهكذا يظهر تناقضه صارخا في ختام مقالته عندما ساوى و ماثل بين التاريخ و الطبيعة على اعتبار ان ما يجمعهما قوانين خارج و فوق منطق البشر ، ومن جهة ثانية إلحاحه على الفاعلية الانسانية التي تدعو الى تغيير مجرى التاريخ و التصويت لأي كان باستثناء " أصحاب اللحى "، و إلا فصاحبنا سيحاسبهم أمام الله و أمام الوطن و أمام التاريخ نفسه! أي نوع من التنوير و من الليبرالية ومن تماسك الفكرة هذه ! قلت أما وهي ليست علمية كما ينبغي ، فيوجد خيار آخر و هو أن نتجاهل ما قيل و نحاول بدلا من ذلك أن نساهم في توضيح بعض المفاهيم التي ذكرها سواء يعي صاحبنا أهميتها أو يجهلها لعلنا ننتفع بها و ترقى بها أذهاننا و سنقتصر هنا على مفهومي الظلامية و الممانعة.

الفكر الظلامي :

الظلامية أو الفكر الظلامي هي من العبارات التي أطلقتها الحركات الفلسفية و الفكرية و العلمية التنويرية في القرن 18 عشر على كل فكر كهنوتي كنسي يحارب العقل ، و يؤمن بالخرافة ،و يسجن الحرية الفكرية و السياسية ،و يبيد الابداع الفني و الجمالي ، و يلغي الذات الانسانية ...و التاريخ الأوروبي عموما شهد تطورات فكرية عظيمة منذ ذلك الحين عبرت عنها التيارات الفلسفية المتنوعة و الثورات السياسية المختلفة لتنهي نزاع الصراع بين ما هو ديني و سياسي بانتصار فكرة العلمانية ، ومع بزوغ ما بعد الحداثة ،حيث اللاعقلانية و الفوضوية والتشويش التي هي سماتها الرئيسية والتي يعتبرها البعض كردة فعل محافظة ويائسة ضد التنوير ، كما هو الشأن عند هبرماس ، لم يعد الفكر الديني الغربي فكرا ظلاميا طالما أصبح يعرف حدوده و نمط اشتغاله و يلتزم أدواته الخاصة و عالمه الخاص ، بل أصبح بدلا من ذلك يلقى آذانا صاغية من قبل المثقفين أنفسهم و يساهم في حل إشكالات مطروحة على الساحة المجتمعية ؛ في حين أن من أخذ سمة الظلامية بعد ذلك ، هو كل فكر نهائي مطلق يعكس موقفا من العالم و الإنسان بشكل متحجر ، موثق بنفسه ثقة عمياء بدعوى المعرفة المطلقة و الشمولية ، و التي تفترض و تزعم أنها تمثل الواقع أو ستمثله خير تمثيل ، إنه انغلاق على الذات المغلفة ايدولوجيا والواهمة في الحقيقة. فالظلامية إذن أصبحت عكس الصيرورة و الحركية والتحول و مرادفة للثبات و الوثوقية ونكران الاخر.

المهم من كل هذا هو أن الفكر الغربي عموما بمفاهيمه كالتنوير و الظلامية ... مر بمراحل زمنية و تجربة خاصة مكانية يصعب استنساخها واستعمالها في حقلنا الفكري الخاص ، لأننا غالبا ما سنقع في قفصها من حيث ندري أو لا ندري كما فعل صاحبنا. وهذا ما يحيلنا الى مفهوم الممانعة و المقاومة كمسار للخروج من الاستنساخ و الاستلاب و الركوض وراء الآخر و مفاهيمه ، مع الاستفادة من كل نتاج مفيد للذات الثقافية.

الممانعة و المقاومة:

بيولوجيا تعني الممانعة تلك الخاصية الإيجابية المتوفرة في الذات الإنسانية الصحيحة و السليمة والتي لها كامل القدرة للدفاع عن النفس ضد أي فيروس أو مرض دخل بشكل من الأشكال إلى جسد الإنسان عبر منافذ مختلفة محاولا النيل من صحته و تخريب توازنه الداخلي ، فيخلق جراء ذلك ألما يختلف من حيث الدرجة والنوع ؛أما الجسد المنيع و المقاوم فهو يتوفر على المؤهلات الكافية والكبيرة ما يحصن بها ذات الشخص و يرد عنها كل مرض لحق بها في حدود المستطاع. لا تختلف الممانعة البيولوجية عن مثيلتها الثقافية و الفكرية ، فالمجتمعات التي تفتقد الى المناعة و المقاومة الذاتية سائرة الى الزوال و التفتت والموت المحقق.

إن ما يميزنا نحن البشر نزعتين أساسيتين:الأولى و هي تلك الرابطة و الوحدة الإنسانية والبشرية المشتركة مادام أصلنا واحد ، نتقاسم أرضا واحدة و مصيرا مشتركا ؛ وأما الثانية فهي التميز الحضاري و الثقافي . هكذا فنحن نعيش في عالم متعدد الهويات الحضارية تعبر كل حضارة عن نفسها بواسطة ما تحمل من ثوابت تشكل هويتها الحضارية كالدين والتاريخ واللغة و ...و هذه الثوابت هي التي تمنح الممانعة لكل حضارة من هذه الحضارات ، فمتى حافظت على مصادر مناعتها ضمنت البقاء والاستمرار و الصمود ، و متى فرطت فيها حكمت على نفسها بالزوال حيث تصبح تابعة لغيرها ، فتمسخها مسخا وتصبغها بصبغتها ، فتنال من كل قيمة كانت تتميز بها عن الآخرين ؛ والمحافظة مع مصادر المناعة لا يعني مطلقا الانغلاق على الذات الحضارية و غلق أبواب التواصل و الحوار والاستفادة من التجربة الانسانية ، بل الأمر ضروري و مؤكد و إلا أدى ذلك إلى التعصب و العداء و نزوع حروب . لذلك نجد فيلسوف العصر الفرنسي ادغار موران في كتابه " هل نسير الى الهاوية؟ " يؤكد على أن النصر سيعود للذين سيفلحون في الجمع بين الهوية الثقافية و المواطنة الكوكبية ( النزعة الانسانية العالمية) ، وحين يتحدث موران عن هويتنا الحضارية (الأنا الحضارية) يذكرنا بالإسلام كممثل أصيل لهوية هذه الأمة التي أنجبت أعظم حضارة عرفها العالم زمن الخلافة في بغداد، كما عرف الإسلام بتسامحه تجاه اليهود و المسيحيين في الأندلس و فترة الخلافة العثمانية حسب قوله ، إن عنصر مناعتنا حقا هو الإسلام الوسط الذي هو حق بين باطلين و عدل بين ظلمين ، الموازن بين الوحي و العقل ،و بين الواقع والفكر ، وبين الفرد والجماعة ، و بين الجسد والروح ، و بين الدين و الدنيا ، و بين الخصوصية والكونية ، ...ذلك هو سر مناعتنا و بقاءنا.

أما من يريد أن يسير الى الهاوية فالنور بالنسبة إليه ظلام ليس لأن النور يسطع ظلمة و لكن لأنه يرفض رؤيته. لذلك فبدل أن نلعن الظلام لنوقد شمعة كما كونفشيوس .


تعليق جديد

التعليقات المنشورة لا تعبر بأي حال عن رأي الموقع وسياسته التحريرية
شكرا لالتزام الموضوعية وعدم الإساءة والتجريح