المزيد من الأخبار






الريف والجهوية المتقدمة


الريف والجهوية المتقدمة
ناظورسيتي: بخرو رضوان

أصبحت الجهوية تشكل البعد الاستراتيجي للتنمية الاقتصادية، الاجتماعية، والثقافية،... ذلك أن السياسات الاقتصادية الحديثة، أصبحت تعتمد أكثر التنظيم الجهوي لتحقيق التنمية باعتباره الإطار الأنسب والأمثل لكل استراتيجيه تنموية ولكل تخطيط تنموي شامل.

فالجهوية المتقدمة تعني خلق تنافس مجدي في مجال التنمية المندمجة بين مخلف الجهات، وفسح المجال أمام النخب الجهوية ومكونات المجتمع المدني لإبراز مؤهلاتهم وكفاءاتهم للإسهام في إظهار الوجه التنموي لجهتهم أمام باقي الجهات1.

فإذا كان الدافع الاقتصادي والتنموي هو الحافز الأساسي لإقرار سياسة جهوية هادفة بعدما تبين من خلال التجارب السابقة عجز الدولة عن القضاء على التمايزات المجالية والفوارق الاجتماعية بين مختلف المناطق والجهات وأفرادها، فإن الأمر يتطلب اعتماد تقطيع جهوي يراعي الخصوصيات الجهوية والمحلية بهدف خلق جهات متجانسة ومتكاملة جغرافيا، اجتماعيا، وثقافيا على اعتماد مقاربة فعلية ديمقراطية و تشاركية، التي تشترط تجاوز الهواجس السياسيةـ الأمنية التي ظلت على مدى عقود خلت حجر الزاوية في أي تقسيم ترابي بالمغرب.

يمكن القول بأن السياسة التنموية الهادفة إلى الرفع من المستوى الجهوي، هي التي تهدف إلى جعل الجهة القاعدة الأساسية للتنمية وقطب إشعاعي اقتصادي واجتماعي، وهذا لن يتأتى إلا عن طريق توزيع عادل للسلطات على المستوى الجهوي بين الدولة وسلطات عدم التمركز الإداري واللامركزية الجهوية والتي تترجم مبدأ الديمقراطية الحقيقية2، إذ تقدم منطقة الريف مؤهلات طبيعية كبيرة تتمثل، في المقام الأول، في مواردها المتنوعة التي تشمل موروثا طبيعيا واقتصاديا وثقافيا موسوما بالغنى والثراء، بمستطاعه أن يشكل قاعدة صلبة لتطوير مختلف قطاعات الأنشطة الاقتصادية، ويرفع من مستوى التنمية المحلية، ولا شك أن الرأسمال البشري للجهة يعد بحق موردا رمزيا وجب الاهتمام به ومنحه العناية اللازمة، وذلك عبر تثمينه واعتباره عنصرا مركزيا في العملية التنموية.

إذا كانت الجهوية أداة لتنمية الجهة وترسيخ الديموقراطية، فإن هذه الجهوية، كما هي مطبقة على جهة الريف، تسير ضد تنمية هذه الجهة، بل هي مخطط لقتلها بتفتيتها إلى مناطق ملحقة بجهات أخرى، فالجهوية الحقيقية هي التي تقوم على الوحدة الجغرافية والتاريخية والاقتصادية والثقافية واللغوية للجهة. وهذه المعايير متوفرة بشكل مثالي في حالة جهة الريف3. الجهوية المتقدمة في جوهرها الحقيقي والمتعارف عليه يجب أن تكون شكلا من أشكال المصالحة بين ما هو وطني وما هو محلي، وتحقيق بعض التوازن بين ما كان يعرف بالمغرب النافع و الجهات الهامشية للمغرب، أو ما يسمى بالمغرب العميق.

1ـ الخصوصيات المحلية

تعتبر الخصوصيات المحلية شرطا أساسيا في أي مشروع ترابي يكون هدفه الأساسي هو تنمية الإنسان داخل مجاله الجغرافي المحدد، للحفاظ على توازن الجهات أو ما يسمى " الشخصية الجهوية" وحمايتها من الذوبان داخل ثقافة الجهات الأخرى4، وكذلك يكمن الهدف من إعادة الاعتبار للخصوصيات الجهوية والمحلية في تعميق الإنتماء بالنسبة لسكان الجهات ما يحفزهم أكثر على صيانة خصوصياتهم وتنمية مناطقهم أكثر ما يمكن وبالتالي خلق جهات منسجمة على مستوى الذاكرة الجماعية والثقافة المشتركة، وهذا الأمر أثبت نجاعته في جل البلدان ذات التنوع الإثني واللغوي والثقافي لبنياتها الاجتماعية كاسبانيا، وبلجيكا... والتي وجدت في الجهوية آلية فعالة في استغلال هذا التنوع واستثماره بشكل مجدي يقدم صورة عن الفسيفساء الثقافي لبلدانها.

أـ البعد التاريخي.

من النظرة الأولى للتقسيم الترابي الجديد نكتشف عدم انسجام الأقاليم المكونة للجهات المستحدثة في إطار ما سمي بالجهوية المتقدمة، فلا شيء يجمع بين مكونات أغلب الجهات سواء على المستوى الطبيعي، الاقتصادي، الاجتماعي، اللغوي، أو الثقافي...ولهذا فلا بد من تعديل بعض الأعطاب التي سقط فيها القيمين على إعداد مشروع الجهوية المتقدمة بالمغرب، فبالنسبة لأقاليم الريف يجب إعادة النظر فيها لغياب المعيار الطبيعي، التاريخي والثقافي واللغوي في جمع منطقة الريف مع وجدة ، وكذا إعادة الاعتبار لهذه المنطقة التي عرفت اضطهادا منذ الاستقلال وذلك بمنحها حدودا واقعية تستند إلى معايير جهوية حقيقية، هذا لكي نحصل في المغرب على جهات منسجمة ومتكاملة فيما بينها على مختلف المستويات حسب ما يروج في الخطاب العمومي الرسمي، هذا الانسجام الذي لا يتأتى إلا باحترام الخصوصيات المحلية لكل جهة على حدة، قبل أي تقطيع ترابي، وكذلك يجب الإشارة في أسماء الجهات إلى ما يميزها عن الأخرى مستندا إلى المجالات التي عرفت بطوبونيميتها التي تدل على العمق التاريخي الأنتربولوجي لكل جهة، وكذلك إلى الدلالة الحضارية، بحيث يجب أن تحمل الجهات أسماء دالة معبرة عن عمق تاريخي أو ثقافي أو جغرافي ليس كما هو الحال مع النموذج الحالي الذي يستوحي أسماء الجهات من المدن المكونة لهاته الجهات كما هو الشأن بالنسبة جهة فاس-بولمان، طنجة- تطوان، تازة- الحسيمة– تاونات،... ويجب أن تعبر عواصم الجهات على الصورة التسويقية ومميزات الجهة بالإضافة إلى تكييف وأقلمة سياسات إعداد التراب مع طبيعة وخصوصيات كل فضاء جهوي على حدة والتمايزات داخل الفضاء والمجال الواحد5 . هذه المعايير التي يراها البعض من الزاوية الضيقة كما لو أنها ثانوية وهامشية، في الواقع نجد أنها قد تقلب وتخلط الحسابات والأوراق في أي تخطيط لأي مشروع جهوي .

ب ـ البعد الهوياتي والثقافي .

لا بد من استحضار البعد الهوياتي والمعطيات التي تشكل هوية الجهات في السياسات الجهوية، دون إغفال الأبعاد المجالية والاقتصادية والاجتماعية والمزاوجة فيما بينها، فبالنسبة للبعد الهوياتي يجب مراعاته في التقسيم الجهوي، سواء في الحدود الترابية للجهات، وفي أسمائها، والذي يعبر عن تاريخ الجهة وتراثها6، على اعتبار أن الجهوية وسيلة للتدبير الديمقراطي للتعدد و الاختلاف في إطار الدولة الوطنية، هذا الأمر سبق للملك أن أشار إليه في خطاب 03 يناير 2010 حيث دعا إلى "إيجاد نموذج مغربي- مغربي للجهوية، نابع من خصوصيات بلدنا"، وبناء على ذلك يجب تجاوز السياسات والأنظمة الجهوية التي توضع على مستوى القمة ليتم تطبيقه على المستويات المحلية، والبحث عن نظام ينبثق من الممارسات المحلية يستجيب لتطلعات وحاجيات السكان المحليين، ويجب العلم أنه بدون تشخيص للواقع الجهوي ومعرفة دقيقة بواقع الجهة لا يمكن معه وضع خطط دقيقة وناجحة.

كما أنه لا يجب الفهم أن التنوع الثقافي عامل معرقل لوضع الخطط، بل العكس خصوصا إذا تم تصنيف وتخصيص كل فئة وكل ثقافة بما تستحقه من عناية واستجابة لمطالبها، والعمل على إذابة الفوارق والاختلالات المجالية وتحقيق توازن اقتصادي ومجالي والتجانس بين الجهات وفقا لخصوصياتها التاريخية، الطبيعية والثقافية. وهو ما سيمكنها من تطوير هياكلها وتدبير شؤونها من أجل تنمية محلية نابعة من القاعدة وتراعي حاجيات السكان ومتطلباتهم وفق وحدات متجانسة تنتمي إلى طبيعة جغرافية وإرث تاريخي وثقافي مشترك، ولها شعور بالانتماء للوحدات التي تندرج ضمنها، ومن التفاعل وفق جماعة تتقاسم معها نفس التصور والهموم الشيء الذي يعمق الإحساس بالإنتماء لدى الإنسان بالمجال الذي يعيش فوقه مما سيدفع هذا الأخير(أي الإنسان) إلى العمل على خدمة ترابه وتطويره بغية خلق قطب تنموي قوي ينافس به الأقطاب الجهوية الأخرى، وهناك الجهات الشمالية التي لها خصوصياتها المتميزة لعدة عوامل، فمن الضروري أن تحدث إلى جانب منطقة الحكم الذاتي بالصحراء المغربية جهات اعتبارا لوضعها وخاصياتها7. بهدف تحقيق تنمية مندمجة على المستويين المحلي والجهوي، وبالتالي الرفع من مستوى التنمية البشرية بالبلاد ككل، الشيء الذي سيمكننا من تسلق المراتب في تصنيفات الأمم المتحدة التي تهم التنمية بمفهومها الواسع. وهذا هو النموذج الذي يتطلع إليه المغاربة بمختلف شرائحهم، حيث أعطى هذا النموذج نتائج مرضية في مختلف الدول المتقدمة التي أضحت مرجعا وقدوة في التجارب الجهوية كاسبانيا وايطاليا وبلجيكا...

إن الجهوية المتقدمة كي تؤدي مهامها التنموية يجب أن تبنى على أسس علمية سليمة، تتخذ من التنمية الجهوية محورا لها، وتحترم كل المعايير التاريخية والسوسيوثقافية إلى جانب العناصر الطبيعية بطبيعة الحال، لإعادة الأمل لدى سكان الجهات في استثمار مؤهلاتهم المختلفة في تنمية مجالاتهم الترابية، وإنصاف بعض الجهات التي تملك كل مقومات بناء إقتصاد محلي متين ، إلا أنها تعيش في ظروف قاسية جراء غياب سياسة جهوية متوازنة، تحسن تدبير موارد كل جهة وفق بيئتها الخاصة، و ما يتماشى مع طبيعة أفرادها. حيث أن اللاتمركز الحقيقي والفعال يقتضي أن لا تقتصر الجهات على تنفيذ التعليمات والتوجيهات، والقرارات الصادرة من المركز، وإنما أن تقوم المصالح الترابية المحلية بأدوار مهمة في مجال التنمية الجهوية.

هذا التقسيم الذي فكك ومزق الريف التاريخي إلى أجزاء متناثرة نال حصة الأسد من الانتقادات حيناً والرفض أحياناًً من مختلف الباحثين، وفاعلي المجتمع المدني وخاصة مناضلي الحركة الأمازيغية الذين رأوا في هذه الخطوة ضربا لهوية الريف وذاكرته الجماعية المشتركة وزعزعة في بنيته السوسيولوجية . حيث دائما ما كانوا يطالبون بجهة الريف الموحدة، هذه الجهة التي تستمد شرعيتها ومشروعيتها من معطيات واقعية كالتاريخ المشترك، واللغة المشتركة، البنية الاجتماعية المشتركة، الثقافة المشتركة، الهوية المشتركة، والدعوة إلى الاعتماد على الهوية الثقافية كعامل وحدة وتماسك للمجتمع يجب أن تقوم على أساس القبول بالتنوع اللغوي والثقافي الذي يميز مختلف مكوناته8، هذه المقومات كلها ستجعل لا محالة من الريف قطبا اقتصاديا قويا ليس في المغرب فحسب بل في الفضاء الأورومتوسطي برمته بالنظر لموقعه الجيواستراتيجي المهم.

لكن هناك جهات لا تريد للريف أن يتبوأ المكانة التي يستحقها والتي دافع عنها الأجداد وضحوا بالغالي والنفيس من أجل عيش كريم وعدالة اجتماعية فوق تراب الريف، فهنا يقف الأستاذ محمد بودهان ليطرح أسئلة استنكارية وتعجبية بخصوص تقسيم الريف لجهات متعددة وتفتيت لحمته ضدا على كل العناصر الجامعة لهذا التراب حيث يقول يتساءل مستغرباًً : لماذا إذن لا يتم التعامل مع الريف، كما هو، أي كجهة واحدة موحدة، كما كان دائما وكما هو في الواقع؟ لماذا تقسيم جهة الريف إلى مناطق تلحق بجهات أخرى لمنع قيام وحدة جهوية بالريف؟9.

1ـ عبد العزيز أشرقي(2011): الجهوية الموسعة بالمغرب نمط جديد للحكامة الترابية والتنمية المندمجة. مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء ص: 150.
2ـ عبد العزيز أشرقي(2011): ن.م، ص:48.
3ـ محمد بودهان.:الجهوية القاتلة للجهة. جريدة ثاويزا العدد77، سنة 2003، ص: 2.
4ـ la région au Maroc(1990) :Faculté de lettres et science humaines Fes.p113.
5ـ ميمون خراط: تحديات الجهوية الموسعة على ضوء الخطاب الملكي. مقال منشور على موقع العلوم القانونية الأنترنت.
6ـ François MANCEBO(2011) : Le développement durable 1ere Edition P : 85
7ـ مجموعة من الباحثين(2010): الجهوية الموسعة بالمغرب (أي نموذج مغربي على ضوء التجارب المقارنة). ص:192.
8ـ جمال خلوق (2009):التدبير الترابي بالمغرب واقع الحال ومطلب التنمية. مكتبة الرشاد- سطات ص : .87
9ـ محمد بودهان، مرجع سابق.


تعليق جديد

التعليقات المنشورة لا تعبر بأي حال عن رأي الموقع وسياسته التحريرية
شكرا لالتزام الموضوعية وعدم الإساءة والتجريح