حمزة شيوب
ليست الهجرة السرية ظاهرة جديدة في الريف الأوسط الشمالي، غير أنها أخذت بالتسارع المتزايد في العقود الأخيرة لتصبح جزءا لا يتجزأ من مآسي هذه المنطقة المعزولة، وقبيلة ثمسمان تعتبر قبلة المقبلين على فعل الهجرة السرية أو هذا السفر الغريب كما سماها السوسيولوجي الجزائري عبد الملك الصياد، بحكم موقعها الجغرافي، واحتكاك أهل هذه المنطقة مع البحر، وبالتالي يكتسبون خبرة في مجابهة أمواجه..
ومن خلال معاينتنا الميدانية لهذه الظاهرة في قبيلة ثمسمان التي تنتمي إلى الريف الأوسط الشمالي تبين أن في الآونة الأخيرة سجل ارتفاع ملحوظ في نسبة المهاجرين السريين، وهذا راجع لعدة عوامل، ولعل العامل السياسي والاقتصادي كانا لهما دورا أكثر أهمية في تفاقم وانتشار الظاهرة، فأغلب الإجابات التي استقيناها من المجتمع المدروس حول سؤال الهجرة السرية كانت ذات حمولة سياسية واقتصادية، هنا يعبر أحد المبحوثين بأن الهجرة السرية هي حاجة ملحة من أجل الهروب من الواقع المتأزم سياسيا واقتصاديا، بالرغم من كون القيم الثقافية للمجتمع المدروس تعارض بشدة فكرة الهجرة سواء كانت سرية أو شرعية تماشيا مع المثل الشعبي القائل: (اللهم ثيشثي سوزرو ورا ثورا) “الضرب بقطعة التراب خير من الهروب” وبالتالي فالهجرة ظاهريا هي سلوك غير منسجم مع القيم الثقافية الشائعة في المجتمع الريفي وعلاقته بأرضه وتراثه.
غير أن الأحداث الأخيرة التي شهدتها المنطقة والريف بشكل عام (حركة 20 فبراير 2011، أحداث مارس 2013، وفي الأخير الحراك الشعبي الذي اندلع مع وفاة السماك “محسن فكري” في شاحنة النفايات ليلة 28 أكتوبر 2016 ودام لسبعة أشهر) كلها غيرت مجرى هذه القيّم فأصبحت الهجرة السرّية موضوعا متداولا بين الصغير والكبير وبين العاطل والذي يحصن قوت يومه، ومن سلوك مرفوض إلى حلم يرجوه أغلبية الشباب، أي أنها أصبحت ثقافة جديدة وحاجة ملحّة. يصف أحد المبحوثين الذي تمكن بنجاح من العبور إلى الضفة الأخرى بأن الدافع الاقتصادي لم يكن وحده سببا حاسما في اللجوء إلى الهجرة السرية، لكن المضايقات التي تتعرض لها المنطقة من حصار، قمع واستفزازات وكذلك الاعتقالات التي تعرض لها نشطاء الحراك الاجتماعي كلّها كانت دوافع جعلتني أركب في زورق صغير وأواجه خطر البحر وأًصارع أمواجه قصد الهروب فقط.
أغلب المقابلات التي أجريناها مع المبحوثين تبين بالملموس أن ارتفاع نسبة المهاجرين السريين لها علاقة بعدم استجابة الدولة للمطالب التي نادى بها الحراك الاجتماعي، حيثُ فقد الشباب ثقتهم في متخذي القرار، وبالتالي أصبحت الهجرة السرية وسيلة للهروب من واقع المنطقة والبحث عن البديل. إن ما بعد الانتفاضة أظهر أن هناك فعلا مخططا ما تبنته السلطة المركزية للتخلص من الخطر المستتر، فعوض أن تضع السلطات خططا للتنمية فتحت أبواب الهجرة على مصراعيها ليزداد النزيف ويستمر إلى اليوم على شكل قوارب الموت2. إذن فالعلاقة الجدلية بين الشباب الثمسماني والمركز (المخزن) عجل في تزايد وتفاقم الهجرة على هذا النحو السريع.
كما أن هناك ثلة من المبحوثين كانت إجابتهم مختلفة نسبيا، حيث عبر أحدهم: “كنتُ فلاح بسيط أساعد أبي في حرث الحقول وتربية المواشي، ونقوم بجمع المحصول وبيعه في الأسواق، لكن الفلاحة الآن لم تعد كافية لضمان مصدر عيشي وبه فإن حتى فكرة الزواج وتأسيس الأسرة تعتبر من الأمور المستعصية نظير الحالة الاجتماعية، ومن جيهٍ آخر ليس لي مصدر أضمن به مستقبلي بسبب غياب المعامل في المنطقة وانعدام تام لفرص الشغل، وحينما انقطعت بي السبل فعلتُ كما فعل أبناء مدشري، هاجرت في زورق صغير إلى أوروبا”. بالتالي فالفرد يتخذ من الهجرة السرية بابا للدخول في عالم آخر متمثلا في ذهنه أنه عالم خال من البطالة وتتوفر فيه فرص شغل كثيرة، فالمقبل عن الهجرة السرية يرى أوروبا فردوس الأرض، أي أن هناك تداخل بين عاملي الطرد والجذب..
وهذا التداخل شكل توافق وانسجام بين هذين العاملين، فحين يروج شفهيا ظروف الحياة بأوروبا التي تعتبر وجهة المهاجرين السرّيين من طرف المهاجرين القدامى، وكذلك عودتهم لقضاء العطلة الصيفية بسيارات فارهة وتغير بنيتهم الجسدية ومظهرهم، يخلف مفارقة في عقول الشباب بين واقعهم المعاش وواقع المهاجرين العائدين لقضاء عطلتهم. في هذا الصدد قال أحد المبحوثين: “قضيتُ عشر سنوات في العمل (مياوم البناء)، لم أستطع ادخار شيء، لا أملكُ منزلا ولا قطعة أرضية، في حين ابن حيينا الذي لم يمضِ عن هجرته أربع سنوات قام ببناء منزل يتكون من ثلاث طبقات، والآن قد انتقلت عائلته للسكن فيه. فانعدام وجود مناصب شغل في هذه المنطقة تضمن للشباب معاشهم أدى بدوره في انتشار هذه الظاهرة. فثقافة المجتمع المدروس تحتم على الأفراد مساعدة الأب في إعالة الأسرة، وبما أنه يعجز عن فعل ذلك في محيطه يتخذ من الهجرة السرية حلا لتحقيق مراده.
فانتشار البطالة وانخفاض مستوى المعيشة لا تساعد على توفير المتطلبات الضرورية للإنسان وأسرته، ولهذا يندفع الشباب إلى الخارج بحثا عن مورد رزق ليحقق غايته. إذن فالبيانات الخاصة بالحوافز الاقتصادية تبين لنا أنه في كثير من الأحوال تكون تلك الحوافز الاقتصادية هي الأمر القاطع والمسبب للهجرة، حيث أن التباين في الظروف المعيشية لسكان المجتمع المدروس من جانب، ودول المقصد من جانب آخر تكون هي العامل المشجع على تدفقات الهجرة السرية.
وختاما فإشكالية الهجرة السرية لا تقف فقط عند المجتمع المدروس وإنما هي مشكلة عالمية تتداخل ضمنه سيطرة الرأسمالية العالمية من خلال تحكم دول الشمال على دول الجنوب والسيطرة عليها اقتصاديا وسياسيا، أي السيطرة عن مدخراتها وعلى قرارها السياسي، وبالتالي تبقى دول الجنوب في الهامش متخلفة بحيث لا تستطيع النفاذ إلى اقتصادها الخاص ولا إلى قرارها السياسي أي أنها تبقى تبعية، وهذا ما يسبب في تنامي هذه الظاهرة لتشمل جل المناطق في دول الجنوب.
وعودة للمجتمع المدروس فإن توخي مؤسسات الدولة جملة من الإصلاحات الجوهرية فيما له علاقة بالحريات العامة والفردية وتوخي برامج تنموية تستثمر فيها المدّخرات الطبيعية الوطنية والثروة البشرية. ذلك أنه لا مجال للتنمية في أوضاع غير مستقرة سوسيواقتصديا وسياسيا.
ومن مقتضيات هذه التنمية أن يقع إستثمار الرأسمال الوطني داخل الحدود الجغرافية للوطن ككل. بحيث نجد إستنزافا يتمثل في هجرة الرأسمال الوطني خارج الحدود لاستثماره في دول أخرى، وهذا لا يكرس سوى إعادة إنتاج هذه الظاهرة بطرق مختلفة.
ليست الهجرة السرية ظاهرة جديدة في الريف الأوسط الشمالي، غير أنها أخذت بالتسارع المتزايد في العقود الأخيرة لتصبح جزءا لا يتجزأ من مآسي هذه المنطقة المعزولة، وقبيلة ثمسمان تعتبر قبلة المقبلين على فعل الهجرة السرية أو هذا السفر الغريب كما سماها السوسيولوجي الجزائري عبد الملك الصياد، بحكم موقعها الجغرافي، واحتكاك أهل هذه المنطقة مع البحر، وبالتالي يكتسبون خبرة في مجابهة أمواجه..
ومن خلال معاينتنا الميدانية لهذه الظاهرة في قبيلة ثمسمان التي تنتمي إلى الريف الأوسط الشمالي تبين أن في الآونة الأخيرة سجل ارتفاع ملحوظ في نسبة المهاجرين السريين، وهذا راجع لعدة عوامل، ولعل العامل السياسي والاقتصادي كانا لهما دورا أكثر أهمية في تفاقم وانتشار الظاهرة، فأغلب الإجابات التي استقيناها من المجتمع المدروس حول سؤال الهجرة السرية كانت ذات حمولة سياسية واقتصادية، هنا يعبر أحد المبحوثين بأن الهجرة السرية هي حاجة ملحة من أجل الهروب من الواقع المتأزم سياسيا واقتصاديا، بالرغم من كون القيم الثقافية للمجتمع المدروس تعارض بشدة فكرة الهجرة سواء كانت سرية أو شرعية تماشيا مع المثل الشعبي القائل: (اللهم ثيشثي سوزرو ورا ثورا) “الضرب بقطعة التراب خير من الهروب” وبالتالي فالهجرة ظاهريا هي سلوك غير منسجم مع القيم الثقافية الشائعة في المجتمع الريفي وعلاقته بأرضه وتراثه.
غير أن الأحداث الأخيرة التي شهدتها المنطقة والريف بشكل عام (حركة 20 فبراير 2011، أحداث مارس 2013، وفي الأخير الحراك الشعبي الذي اندلع مع وفاة السماك “محسن فكري” في شاحنة النفايات ليلة 28 أكتوبر 2016 ودام لسبعة أشهر) كلها غيرت مجرى هذه القيّم فأصبحت الهجرة السرّية موضوعا متداولا بين الصغير والكبير وبين العاطل والذي يحصن قوت يومه، ومن سلوك مرفوض إلى حلم يرجوه أغلبية الشباب، أي أنها أصبحت ثقافة جديدة وحاجة ملحّة. يصف أحد المبحوثين الذي تمكن بنجاح من العبور إلى الضفة الأخرى بأن الدافع الاقتصادي لم يكن وحده سببا حاسما في اللجوء إلى الهجرة السرية، لكن المضايقات التي تتعرض لها المنطقة من حصار، قمع واستفزازات وكذلك الاعتقالات التي تعرض لها نشطاء الحراك الاجتماعي كلّها كانت دوافع جعلتني أركب في زورق صغير وأواجه خطر البحر وأًصارع أمواجه قصد الهروب فقط.
أغلب المقابلات التي أجريناها مع المبحوثين تبين بالملموس أن ارتفاع نسبة المهاجرين السريين لها علاقة بعدم استجابة الدولة للمطالب التي نادى بها الحراك الاجتماعي، حيثُ فقد الشباب ثقتهم في متخذي القرار، وبالتالي أصبحت الهجرة السرية وسيلة للهروب من واقع المنطقة والبحث عن البديل. إن ما بعد الانتفاضة أظهر أن هناك فعلا مخططا ما تبنته السلطة المركزية للتخلص من الخطر المستتر، فعوض أن تضع السلطات خططا للتنمية فتحت أبواب الهجرة على مصراعيها ليزداد النزيف ويستمر إلى اليوم على شكل قوارب الموت2. إذن فالعلاقة الجدلية بين الشباب الثمسماني والمركز (المخزن) عجل في تزايد وتفاقم الهجرة على هذا النحو السريع.
كما أن هناك ثلة من المبحوثين كانت إجابتهم مختلفة نسبيا، حيث عبر أحدهم: “كنتُ فلاح بسيط أساعد أبي في حرث الحقول وتربية المواشي، ونقوم بجمع المحصول وبيعه في الأسواق، لكن الفلاحة الآن لم تعد كافية لضمان مصدر عيشي وبه فإن حتى فكرة الزواج وتأسيس الأسرة تعتبر من الأمور المستعصية نظير الحالة الاجتماعية، ومن جيهٍ آخر ليس لي مصدر أضمن به مستقبلي بسبب غياب المعامل في المنطقة وانعدام تام لفرص الشغل، وحينما انقطعت بي السبل فعلتُ كما فعل أبناء مدشري، هاجرت في زورق صغير إلى أوروبا”. بالتالي فالفرد يتخذ من الهجرة السرية بابا للدخول في عالم آخر متمثلا في ذهنه أنه عالم خال من البطالة وتتوفر فيه فرص شغل كثيرة، فالمقبل عن الهجرة السرية يرى أوروبا فردوس الأرض، أي أن هناك تداخل بين عاملي الطرد والجذب..
وهذا التداخل شكل توافق وانسجام بين هذين العاملين، فحين يروج شفهيا ظروف الحياة بأوروبا التي تعتبر وجهة المهاجرين السرّيين من طرف المهاجرين القدامى، وكذلك عودتهم لقضاء العطلة الصيفية بسيارات فارهة وتغير بنيتهم الجسدية ومظهرهم، يخلف مفارقة في عقول الشباب بين واقعهم المعاش وواقع المهاجرين العائدين لقضاء عطلتهم. في هذا الصدد قال أحد المبحوثين: “قضيتُ عشر سنوات في العمل (مياوم البناء)، لم أستطع ادخار شيء، لا أملكُ منزلا ولا قطعة أرضية، في حين ابن حيينا الذي لم يمضِ عن هجرته أربع سنوات قام ببناء منزل يتكون من ثلاث طبقات، والآن قد انتقلت عائلته للسكن فيه. فانعدام وجود مناصب شغل في هذه المنطقة تضمن للشباب معاشهم أدى بدوره في انتشار هذه الظاهرة. فثقافة المجتمع المدروس تحتم على الأفراد مساعدة الأب في إعالة الأسرة، وبما أنه يعجز عن فعل ذلك في محيطه يتخذ من الهجرة السرية حلا لتحقيق مراده.
فانتشار البطالة وانخفاض مستوى المعيشة لا تساعد على توفير المتطلبات الضرورية للإنسان وأسرته، ولهذا يندفع الشباب إلى الخارج بحثا عن مورد رزق ليحقق غايته. إذن فالبيانات الخاصة بالحوافز الاقتصادية تبين لنا أنه في كثير من الأحوال تكون تلك الحوافز الاقتصادية هي الأمر القاطع والمسبب للهجرة، حيث أن التباين في الظروف المعيشية لسكان المجتمع المدروس من جانب، ودول المقصد من جانب آخر تكون هي العامل المشجع على تدفقات الهجرة السرية.
وختاما فإشكالية الهجرة السرية لا تقف فقط عند المجتمع المدروس وإنما هي مشكلة عالمية تتداخل ضمنه سيطرة الرأسمالية العالمية من خلال تحكم دول الشمال على دول الجنوب والسيطرة عليها اقتصاديا وسياسيا، أي السيطرة عن مدخراتها وعلى قرارها السياسي، وبالتالي تبقى دول الجنوب في الهامش متخلفة بحيث لا تستطيع النفاذ إلى اقتصادها الخاص ولا إلى قرارها السياسي أي أنها تبقى تبعية، وهذا ما يسبب في تنامي هذه الظاهرة لتشمل جل المناطق في دول الجنوب.
وعودة للمجتمع المدروس فإن توخي مؤسسات الدولة جملة من الإصلاحات الجوهرية فيما له علاقة بالحريات العامة والفردية وتوخي برامج تنموية تستثمر فيها المدّخرات الطبيعية الوطنية والثروة البشرية. ذلك أنه لا مجال للتنمية في أوضاع غير مستقرة سوسيواقتصديا وسياسيا.
ومن مقتضيات هذه التنمية أن يقع إستثمار الرأسمال الوطني داخل الحدود الجغرافية للوطن ككل. بحيث نجد إستنزافا يتمثل في هجرة الرأسمال الوطني خارج الحدود لاستثماره في دول أخرى، وهذا لا يكرس سوى إعادة إنتاج هذه الظاهرة بطرق مختلفة.