المزيد من الأخبار






أسماء أوطاح: التقليد الأمازيغي ثْعانصارث‎


أسماء أوطاح: التقليد الأمازيغي ثْعانصارث‎
تقديم:

عندما نعاين شعوب العالم و هي تحيى تقاليدها و تحتفل بها دون انقطاع و نلاحط ما تضفيه هذه الاحتفالات على حياتها من فرح و معنى و ما تمنحه لثقافتها من قوة و حضور، نتذكر أنه كانت لنا تقاليدنا التي كنا نحتفل بها إلى عهد قريب و نحس بالحسرة على ضياعنا كما نستشعر حاجتنا الكبيرة للفرح الجماعي الذي سرق منا في غفلة أو يقظة. أحد هذه التقاليد التي لا زال البعض منا يتذكرها بالكثير من الحنين هي تقليد العنصرة الذي يحل يو م السابع من يوليوز من كل سنة. فما هو هذا التقليد؟ ما هي دلالاته؟ و كيف كان يحتفل به؟

الاسم و المكان:

هذا التقليد يحتفل به في جل بلدان شمال أفريقيا و يسمى في أغلبها بالعنصرة. في البعض الآخر، يسمى ب “ثاشعالث” من فعل الاشتعال. في الغالب، كلمة ثعانصارث هي من أصل عربي “العنصرة”. لا أحد يعلم بالتدقيق معناها عدا عن تأويلات مختلفة بعضها مبني على الأساطير. استفساري عن هذا التقليد و دلالاته يعودان لسنوات التسعينات. شمل الاستفسار ست نساء و رجلين من مناطق الرواضي، تلايوسف، ازمورن و ادسوليين ، كلها مناطق تنتمي لقبيلة ابقوين حيث لا تزال ذكرى هذا التقليد حاضرة بقوة بل لازال البعض يحييه. حول دلالة الاسم، حصلت على تفسيرين: – عيشة البوتزاغتي البالغة من العمر عند استفسارها 90 سنة أفادت أن الاسم أتى من فعل “اعنصر” بالأمازيغية الذي يعني النضج إحالة على نضج بعض الفواكه في تلك الفترة. – عمر أقندوش متوفى، كان عمره عند استفساره 80 سنة أفاد أن كلمة العنصرة أصلها عربي و هي تعني عين سارة و تشير إلى أسطورة مفادها أن امرأة تعتنق الديانة اليهودية اسمها سارة كانت ثاقبة البصر و قد أوصيت من قبل قومها بمراقبة قدوم العدو للبلدة لكنها خانت القوم و لم تقم بواجبها و تم إحراقها كعقاب لها. يعتقد أن إشعال النيران هو بمثابة إحياء لهذه المحرقة. تبقى هذه مجرد تأويلات تحتاج إلى الدراسة و التمحيص. لكن مهما يكن فما يهم في الأمر هو أن تقليد ثعانصارت تقليد تم إحياؤه في العديد من المناطق الأمازيغية و ليس بمنطقة معينة فقط. و هذا يعني أنه تقليد أمازيغي متوسطي تم توارثه و احترامه لقرون و شكل جزءا من حياة الإنسان الأمازيغي. تؤكد ذلك من جهة الدراسات و الأبحاث التي أجريت في هذا المجال و من جهة ثانية ، شهادات الساكنة التي تتذكر بشكل جيد هذا الاحتفال في جل ربوع تامزغا. جرد بسيط لعناوين بعض الكتب كفيل بالتدليل على ذلك: – “المجتمع المسلم في المغرب، السحر و الدين في شمال أفريقيا” لإدموند دوتي، كتاب يتحدث عن الطقوس المرتبطة بمعتقدات سكان شمال أفريقيا القديمة و من بينها الطقوس الممارسة في حفل العنصرة. – “العنصرة، نيران و طقوس انقلاب شمس الصيف في بلاد البربر” ألبير بيل. – ” أسماء و طقوس نيران الفرح لدى بربرالأطلس المتوسط و الكبير” لإميل لاؤوست. – ” أبواب السنة، طقوس و رموز. موقع الجزائر في التقاليد المتوسطية”. جان سيرفيي.

أبعاد و دلالات تقليد ثعانصارث:

منحت لطقوس العنصرة العديد من القراءات حول أبعادها و دلالاتها، هذه فقط بعضها. – أنه تقليد مرتبط بمعتقدات الإنسان الأمازيغي حول الأرض و الطبيعة و علاقته بهما . يقول دوتي في هذا الصدد: “هذه الحفلة […] مرتبطة بالتصورات القديمة للإنسانية حول سيرورة الأشياء الطبيعية” [1] . تصور مبني على احترام كبير للطبيعة و إبرام عقد غير معلن معها قائم على العطاء المتبادل. ينتج عن ذلك أن تعامل الناس مع الطبيعة لايتم دون طقوس. – احتفالات الأمازيغ قبل الدينية هي بشكل عام مرتبطة بفصول السنة. الانتقال من فصل لآخر لايتم في صمت بل يتم عبر طقوس معينة لاعتبار الاتتقال من فصل لآخر حدث هام لابد من الوقوف عنده و استجداء و سائل تحقيق مرور مرن و استرضاء مستقبل جيد. تأتي العنصرة في فترة الانقلاب الشمسي في الصيف و هذا الحدث يعتبر بمثابة بوابة تدخل الناس إلى فصل جديد هو فصل الصيف. كما يعتبر انقلاب الشمس في شهر دجنبر بمثالة بوابة تدخل الناس لفصل الشتاء. من هنا تسمية جان سيرفيى لاحتفالات يناير و العنصرة بمثابة بوابتي السنة في كتاب ” أبواب السنة، طقوس و رموز. موقع الجزائر في التقاليد المتوسطية”. – هذه الطقوس تأتي أيضا للإعلان عن انتهاء موسم فلاحي أو بداية موسم آخر. فثعانصارث تعلن عن قرب انتهاء موسم الحصاد و جمع محصول الأرض و هي بذلك تنتمي للجدول الفلاحي المعتمد عليه لحد الآن في التقويم من طرف ساكنة البوادي بشمال أفريقيا. سيرفيي يشرح لنا في كتابه هذا كيف أن كل فصل له أشغاله و تخوفاته و أن الفلاحين يحيطون هذه الأشغال بحركات رمزية من شأنها تسهيل مرور تلك الأشغال في سلام. (سيرفيي، 1966) نستنتج من هذا أننا بصدد تقليد سابق عن الديانات السماوية رغم أن هذه الأخيرة عملت على إدماج بعض هذه الطقوس في حفلات ذات طابع ديني كما هو الحال بالنسبة لعاشوراء و عيد الأضحى في شمال أفريقيا أو أضفت على الحفل بأكمله طابعا دينيا كما حدث للمسيحية مع حفل سان جان. ربما كان في الأصل طقسا شمسيا يحيل لعبادة الشمس، لكنه مع مرور الوقت اتخذ أبعادا أخرى مرتبطة أكثر بالأرض و فصول السنة. من المعروف أن طقوس الماء و النار تقام خلال فترات متعددة من السنة (يناير، عاشوراء، عيد الأضحى، …) و هذا حسب إميل لاووست ربما يدل على أن طقس النار لم يحافظ على دلالته البدائية.

.[2] كيف يحتفل بثعانصارث؟ هناك ثلاث عناصررئيسة تؤثث فضاء هذا التقليد الأمازيغي العريق: الماء و النار و الدخان وفق طقوس التطهير، الوقاية و الاسترضاء. – الماء: للماء في ثعانصارث قيمة كبرى لدى الناس فهو يمتلك قوة تطهيرية و استشفائية. لذلك يحرص الناس في هذا اليوم غلى الاغتسال بأي وسلة أتيحت لهم: في البحر، في الأنهار أو في السواقي و العيون. لكن يعطي للمياه الجوفية قيمة أكبر لأنها آتية من رحم الأرض.(دوتي، 1909). ماء ثعانصارث ماء مطهرة من كل ما هو سيئ. المرض، سوء الحظ، الشر، الخ. تحكي محجوبة أنهن كن يفقن في الصباح الباكر، يصطحبن الأطفال و البهائم و يذهبن للاغتسال في البحر. و أوردت حبيبة أوطاح خاصية أخرى للماء و هي إزالة الخوف: “أمان ن ثعانصارث تكسن ثوذايث” . عادة الاغتسال هذه ذكرها القديس أغوستين عن أمازيغ زوارة بليبيا خلال احتفالهم بأووسو و هو احتفال شبيه في طقس الماء هذا بثعانصارث رغم الاختلاف في التوتيق الزمني للحفلتين. يتساءل لويس و سيرا في دراسة لهما لتقليد أووسو إذا لم يكن هذا الأخير هو نفسه تقليد العنصرة و قد انتقل زمنيا بفعل ارتفاع درجة الحرارة في فترة ما يعرف بالصمايم.[3] – النار: من عادة الناس في هذا اليوم إشعال النيران في كل مكان سواء كان ذلك في البوادي أو في المدن. في كل زاوية و ساحة و حتى في البيادر. نار يقوم الناس بالقفز حولها طلبا للوقاية من كل عوادي الزمن. في بعض بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط، يلقي الناس بهذه النيران بكل ما يرمز بالنسبة لهم لسوء و يعبرون في الوقت ذاته عن متمنياتهم و هم يشاهدون السوء يحترق. أورد لاووست أن أهل ايدا أزدوت بدورهم يقومون بهذه هذه العملية برمي حجر في النار قائلين “غيفل كيم كولو ما ايترتن“. و يشرح لنا أيضا ما يقوم به سكان نتيفة في يوم ثعانصارث قائلا: “تشعل النيران على بعد خطوات من عتبة المنزل و لا تتجاوز طول رجل، يتم إطعامها بخشب العناب الجاف [..].يقوم الرجال بالقفز فوق النار ثلاث مرات قائلين – أنا أقفز هذه النار كما سأقفز نار السنة القادمة- أما النساء و الرجال و الشيوخ فيعبرونها عندما ينخفض ارتفاعها. تعبر النساء النار و هن يحملن أطفالهن بين ذراعيهن“[4]. كتلة النار هذه تسمى بالريف “ثافكيرث”[5] وهي كلمة آتية من اللاتينة[6] ، تم تداولها أيضا عند أمازيغ زمور حسب لاووست (لاووست، 1921). – الدخان: يقوم الناس أيضا في هذا اليوم باستعمال الدخان للاستشفاء و استرضاء الخير. سواء كان دخان النيران التي أشعلوها باستعمال الخشب كحطب أو الدخان الناتج عن إشعال الأعشاب المتوفرة في تلك الفترة و تبخير الأشجار و البهائم بها.” يعرض الناس أنفسهم للدخان و بعرضون لها بشكل خاص الأطفال، يدفعون بها نحو البساتين و المحاصيل و يقفزون حولها“[7] . حتى رماد النيران يتم التبرك به في مثل هذا اليوم، يخبرنا إدموند دوتي أن أهل الريف كانوا يطلون به ناصية الشعر التي كانوا يتركونها خلف الرأس.[8]. السيدة حبيبة أوطاح و الأخت ياسمين سمية بن السي علي (نقلا عن جدها) أكدتا هذه الممارسة المتعلقة بدخان الأعشاب. تقول ياسمين. “حكى لي جدي أنهم كانوا يشعلون النار في أعشاب الموسم و يستنشقون رحيقها و دخانها ملأ صدورهم كي يشفوا من جميع الأمراض و بحثا عن البركة“. يحدثنا لاووست عن تقليد الدخان قائلا: ” أهل زمور بالخميسات يسمون نار انقلاب الشمس ب تاشعالت، يحضرونها في زريبة الخرفان. يشعلونها عند المغيب و يطعمونها بخشب العناب، قضبان البروق، الفحم و النباتات البلسمية وفق عملية سائدة في كل شمال أفريقيا. الرعاة يقومون بتمرير خرفانهم حول الدخان. فهناك بالفعل بركة في الدخان. الناس المصابون بمرض العيون يعرضون أعينهم لهذا الدخان على أمل شفاء مرضهم“[9]. الأكلة المستهلكة خلا ل هذا اليوم في بدورها أكلة لها دلالتها إذ أنها متكونة من محصول السنة من حبوب “الأكلة الأولى من هذا المحصول” و قطاني مطبوخة في الماء، تسمى في الريف امشياخ أو ايمشيخن. و هي عادة سائدة في جل مناطق شمال إفريقيا. ربما العديد منا قد لاحظ الطريقة الغريبة التي يتذوق بها آباؤنا و أمهاتنا في ما يشبه الطقوس الفواكه الموسمية لأول مرة بالبسملة ومتمنيات الصحة و العافية “بسمي الله آن قاس ثونضيث ن جذيذ” . هذا يدل على أن علاقة الإنسان الأمازيغي بالأرض علاقة مميزة، هو عارف بقيمة ما تعطيه و لايستهين به أبدا بل يخاف فقدانه. يقول سيرفيي في هذا الصدد ” أطعمة الحياة اليومية ليست عنصرا سلبيا في دورة الحياة، إنها بمثابة مدلولات” لذلك يضيف أن لكل طقس متعلق بالحياة الفلاحية أكلاته الخاصة[10] يلخص دوتي دلالات هذه الطقوس في قوله. ” تصبح النار وسيلة للتواصل بين الشمس النافعة، الإنسان و المنتوج الفلاحي. لضمان استمرار هذا التواصل، يتعمد الإنسان استهلاك قسط من المنتوج الجديد و يدخل بذلك في تواصل حميمي مع النبات“[11]. و بصدد الحديث عن النبات تعد ثعانصارث مناسبة جيدة لتلقيح الأشجار كشجر التين “أسيكر ن الدوكار” و يعزز التلقيح برشها بتراب الأرض . أورد السيد عمر أقندوش دعاءا كانوا يقولونه بالمناسبة “اللهم صلي على سيدنا المختار، تراب العنصرة خير من الذكر“. عدا عن هذه الأبعاد المرتبطة بمعتقدات شعبية فإن الناس يستغلون هذه المناسبة لإضفاء أجواء الفرح الجماعي على حياتهم. ليس عبثا تسمية إميل لاؤوست لنيران ثعانصارث بنيران الفرح حيث يقول: ” حافظ برابرة المغرب على العادة القديمة المتمثلة في إشعال نيران الفرح و التي هي مماثلة للنيران المسماة بنيران سان جان التي لازال فلاحوا فرنسا و أوروبا يشعلونها بمناسبة انقلاب شمس الصيف“[12]. ما يميزها أنها تتم بشكل جماعي يحوم حولها الساكنة قفزا و فرحا و رقصا، يرافق ذلك عادات أخرى كإحراق عظم المشماش في جمر النار و تحويلها لكحل تزين به البنات عيونهن طلبا للشفاء و لحسن الحظ. خدوج التي تنتمي لجماعة الرواضي أخبرتنى أن شابات القرية في المساء و بعد الانتهاء من قفز النيران يلجأن لمنزل أحد أرامل القرية و يحيين معها أمسية الحفل لإضفاء البهجة على قلبها.

خاتمة:

هذا التقليد و غيره اختفى من محيطنا الثقافي الشعبي لعدة أسباب بعضها متعلق بالاستلاب الذي تعرضنا له على يد و سائل الإعلام عبر هيمنة و تأثير قتوات الإعلام على حياتنا، بعضها متعلق بحملة مضادة لمثل هذه التقاليد بدعوى أنها تعد شركا بالله في حين أنها مورست دائما من طرف نساء و رجال مؤمنين و مؤمنات لا يبتغون من و رائها سوى الخير و الفرح. كانت مهمة إشعال النار في العديد من المناطق تسند لطلاب العلوم الدينية و يشرف عليها فقيه القرية لمكانة هؤلاء بين الناس. كما أنها لم تساهم في إبعاد الناس عن دينهم أوفي زعزعة إيمانهم و بعضها مرتبط بالتهميش العام الذي طال التعبيراث الثقافية و الهوياتية للأمازيغ. عدم الاعتراف الطويل باللغة و الثقافة الأمازيغييتين أنتج إهمال هذه التقاليد و عرضها للاندثار. مع ذلك فبوسع أصحاب هذا الإرث الثقافي إحياءه من جدبد كما حصل و لو بشكل نسبي و عصري مع احتفالات رأس السنة الأمازيغية. شعوب العالم المتقدمة لازالت تحتفظ و تعتز بتقاليدها القديمة، عنوان عراقتها الحضارية و قوتها. لا ترى في ذلك تخلفا بل و تلجأ لتقاليد الشعوب الأخرى لإغناء مشهدها الثقافي و نحن نمتلك تراثا غنيا كان في الأمس القريب حاضرا بيننا و تخلينا عنه.

أسماء أوطاح

[1] “المجتمع المسلم في المغرب، السحر و الدين في شمال أفريقيا” لإدموند دوتي. ص، 566 [2]إميل لاووست أسماء و كقوس نيران الفرح لدى برابرة الأطلس الكبير و المتوسط، http://archive.org/stream/hesprisarchive01raba/hesprisarchive01raba_djvu.txt [3] Awussu, A. Louis et L. Serra. http://encyclopedieberbere.revues.org/… لاووست، نفس المصدر السابق[4] [5] tafggirt focarium [6] “المجتمع المسلم في المغرب، السحر و الدين في شمال أفريقيا” لإدموند دوتي، ص 566 [7] المصدر السابق[8] لاووست، نفس المصدر السابق [9] أبواب السنة، طقوس و رموز. موقع الجزائر في التقاليد المتوسطية. جان سيرفيي, باريز، روبير لافونت، 1962، ص.116[10] دوتي، المصدر السابق، ص. 572[11] لاووست، المصدر السابق[12]


تعليق جديد

التعليقات المنشورة لا تعبر بأي حال عن رأي الموقع وسياسته التحريرية
شكرا لالتزام الموضوعية وعدم الإساءة والتجريح