المزيد من الأخبار






مصطفى أينض يكتب.. حياة بوجهين لحياة لا وجه لها


مصطفى أينض يكتب.. حياة بوجهين  لحياة لا وجه لها
مصطفى أينض
من يشاهد الفيلم القصير الذي ألفه وأخرجه محمد بوزكو مؤخرا ، سيكتشف أن السينما الريفية فعلا قد انتقلت من الاهتمام الصوت والصورة إلى الاهتمام بالموضوع والفكرة . فجهور الفكرة يمكن أن يختزل قيم مجتمع بأكمله . وحينما تجد نفسك تعيد مشاهدة فيلم ما مرارا فذاك هو الدليل على أن الفيلم يتضمن فكرة جوهرية لا تكتفي بتحليلها واجترارها مرة واحدة .

يتحدث بوزكو في فيلمه القصير " وجهين لحياة واحدة " عن جوهر ازدواجية الشخصية في الانسان . إلى حدود الآن تبدو الفكرة عادية كونها قد تناولتها أفلاما كثيرة بل وتعتبر فكرة جوهرية في الدراسات النفسية للانسان . لكن الجرأة التي قدم بها المخرج هذه الفكرة هي الاهم من كل شئ كونه قفز من وراء جدار الصمت ليقدم لنا الوجه الحقيقي للحياة . الوجه الذي نرفض أن نضعه في الواجهة كونه يحمل جوهر كياننا ويمثلنا نحن الناس خير تمثيل لتقديمنا للعالم الخارجي كما يجب .

يتطرق الفيلم لحياة يومية لشخص مدمن على الكحول . هذا الشخص الذي تعكسه صورة أخرى تقدمه لنا كشخص صالح يهتم بهندامه ويسجد ويركع كغيره . وهنا تتشعب الطريق في اتجاهين مختلفين ويتركنا نحن في مفترق الطرق هذا حائرين ، باحثين عن الشخص الذي يمثلنا ويمثل قناعاتنا . ستحاول الجزم والاختيار ولكن ستفشل لتعود وتبدأ من جديد .هكذا وستجد نفسك في دوامة لا تنتهي . سيتعلق تفكيرك بسؤال جاف غير عادي . أين أنا من هذين الوجهين ؟. الاسوء من هذا كله هو أنك مرغم على الاختيار وكلما اخترت تجد نفسك أنك أسأت في اختيارك . ستجد أن الحياة لا وجه لها لانك فقط عاجز على ضبطه . . كلاهما يمثلان طريقا في الحياة ، كلاهما يتقمصان وجها من اوجه الحياة . الاول يحاول أن يكون السفير الامثل للحياة والثاني احترف الهروب أصلا من هذه الحياة ليعيش الحياة المناسبة له . هذه الحياة الغير المسجلة على سجل الممارسة العادية للحياة واستهلاك الوجود .كل اللقطات المصورة والازمنة تختزل في نضري وجها واحدا . إنه وجه الانسان الذي يسكننا. الوجه الذي يضبطنا ويتحكم فينا . يمثلنا رغما عن أنوفنا .لا يمكن الفرار من جاذبية الواقع المرير. لأن الفرار هذا سيوقعك حتما في نفس الدوامة التي تفر منها . الهروب الى العالم الافتراضي يخرجك في الفيلم هذا عن السكة ويعزلك عن باقي العالم ويقطع اواصرك حتى بذاتك .الهروب بهذا الشكل يفقدك هويتك ويلبسك حلة الوحدانية والضلام . ستعتقد أن الهروب بهذه الطريقة هي أقصر طريق سيخلصك من معاناتك بل هي في الحقيقة بداية طريق لمعانات لا تنتهي .

من النحية الفنية ، أعتقد أن بوزكو قد طور جرأته من خلال تطوره في اكتساب التجربة في ميدان الفن . فالكتابة عند بوزكو فن قديم وكلنا يعرف اسهاماته الادبية من شعر ونثر لكن ومن خلال الفيلم القصير هذا سيخطو بوزكو خطوة أطول مما فعله من قبل ليقدم اللغة التي تناسب الوضع المعاش في مجتمعنا . يبدو وكأن بوزكو قد ثار على الاساليب التعبيرية المفعمة بالنفاق والاحتشام والتهرب من الحقيقة ليقدم لنا نقدا ذاتيا صريحا لما يقال وكيف يمكن تقبل ما يجب أن يقال . الهروب من الواقع عبر الادمان على الكحول أو ماشابه ذلك ضاهرة اجتماعية ثابتة لا يمكن نكرانها ولكن اللغة المناسبة لهذا الوضع هي التي أضفت على هذا الفيلم جمالية رائعة .

من ناحية التصوير أيضا أعتقد أن بوزكو فعلا قد وضع آلة تصويره في مكانها المناسب بل ونقل إلينا صورا ربما كنا سنحتاج إلى عقود لصناعتها كونها غير قابلة للتكيف في مجتمع محافض ينخره النفاق . هذا النفاق الاجتماعي الذي منح للحياة وجهين في وقت نجد أن الحياة هذه في الواقع لا وجه لها .

كما أن انخراط الممثل القدير بنعيسى مستيري والممثل القدير رشيد أمعطوق لتجسيد عملية الهروب المهينة من واقعنا المهين هذا قد أضافا نكهة وجمال رائعا لهذا العمل الفني . فتجربة هذين الممثلين المسرحية والتلفزية والسينيمائية أهلتهما للاقتراب أكثر من تقمص ادوار الشخصيات إلى درجة تعتقد أن الواقع المعاش يمر أمام عينيك وأنت تشاهده .

ومن جانب الادوات والاكسيسوارات فأنت فعلا تشاهد جزء حقيقي من الحياة الذي يعبر عن جزء افتراضي آخر . فكل المحيط يخدم النص والفيلم بصفة عامة . فكروز كامبو وحزام السلام والسرقة والتسكع وغيرها مما تصادفه من خلال مشاهدتك للفيلم هي في الحقيقة كلها حلي لحياة بوجهين لحياة بلا وجه .

قد يستنتج القارئ فى ألاخير أنه غير معني بهذا الفيلم لانه غير مدمن ولاتشبهه تلك الشخصية بتاتا . لكن السؤال الذي سأعود إليه في الاخير هو : من تمثل هذه الشخصية . لا أعتقد أن القارء سيتعب في البحث عن الجواب لهذا السؤال .لان الجواب هو السؤال نفسه .

مصطفى أينض



تعليق جديد

التعليقات المنشورة لا تعبر بأي حال عن رأي الموقع وسياسته التحريرية
شكرا لالتزام الموضوعية وعدم الإساءة والتجريح