المزيد من الأخبار






مباحثات "إيكس ليبان".. كواليس خمسة أيام انتهت باستقلال المغرب


مباحثات "إيكس ليبان".. كواليس خمسة أيام انتهت باستقلال المغرب
يوسف منصف

أورد الجابري ضمن سلسلة مذكراته «مواقف»، بأن فرنسا نجحت في أوائل الخمسينيات، عندما اشتد الكفاح الوطني السياسي من أجل الاستقلال بقيادة حزب الاستقلال وتجاوب تام من جانب الملك محمد الخامس، في تشكيل «قوة ثالثة» من القواد (حكام النواحي من زعماء القبائل وزعماء الطرقية وبعض الموظفين في الإدارة الاستعمارية إلى جانب بعض المتعاملين مع المصالح الاقتصادية الفرنسية). وقد بررت هذه «القوة الثالثة» –بإملاء من سلطات الحماية- بكون الملك محمد الخامس لم يعد ملك جميع المغاربة بتحالفه مع حزب الاستقلال، قائد حركة المطالبة بالاستقلال التام بدون قيد ولا شرط. وكان ذلك بمثابة الذريعة، التي ساقتها الحماية الفرنسية لعزل محمد الخامس وتنصيب محمد بن عرفة مكانه سنة 1953.

كان عزل السلطان الشرعي بن يوسف، هو السبب المباشر في قيام المقاومة المسلحة المغربية التي توجت بقيام جيش التحرير في جبال الأطلس والريف سنة 1955. وعندما رأت فرنسا أن تطور الأمور المتسارع، نحو تلاحم جيش التحرير المغربي مع جيش التحرير الجزائري، وبالتالي مع القوات الوطنية التونسية الحاملة للسلاح بدورها، قررت أن تمنح نوعا من الاستقلال لمحميتيها، المغرب وتونس، بهدف الاحتفاظ الدائم بمستعمرتها الجزائر كامتداد طبيعي لها.

هكذا، دخلت فرنسا مع الوطنيين المغاربة والتونسيين في مشاورات ثم «في مفاوضات». وبالنسبة للمغرب كانت إعادة محمد الخامس إلى عرشه من منفاه أمرا صعبا على الحكومة الفرنسية، لما فيه من اعتراف بالهزيمة، فاقترحت على الوطنيين المغاربة أن «يأخذوا» الاستقلال ويضعوا دستورا ويؤسسوا ديمقراطية، في انتظار نضج الأمور وترحيب الشعب بالملك المنفي. لكن الوطنيين الذين كان يربطهم مع محمد الخامس حلف وطني رفضوا الاقتراح وطالبوا بعودة محمد الخامس والاستقلال في آن وحد.

هنا سيظهر ما عبر عنه الجابري بـ «القوة الثالثة» كطرف بين فرنسا من جهة والملك محمد الخامس وحزب الاستقلال من جهة ثانية. فكان قبول فرنسا لإعادة محمد الخامس على حساب الاستقلال الذي يحققه ويتسلمه الوطنيون، وقد قبل الوطنيون ذلك لأنهم كانوا مؤمنين بأن الملك الذي كافح من قبل ضد الحماية الفرنسية وعملائها والذي تحالف معهم في أصعب الأوقات سيعمل الشيء نفسه، ولذلك اعتبروا عودته «ضمانة» للديمقراطية ولتحقيق الاستقلال الحقيقي. لقد كانت قوة-ثالثة- مصطنعة أريد بها تكسير تلك الوحدة الحميمة التي جمعت العرش والحركة الوطنية في صف واحد للكفاح من أجل الاستقلال.

حتى لا يدفن التاريخ في ذاكرة النسيان، وتحاصر ذكرى قامات الكفاح الوطني من أمثال عباس المساعدي والهاشمي الطود وحدو أقشيش... التي أصبحت مجرد أسماء تزين بعض الكتابات التاريخية، دون التساؤل مثلا عن حيثيات رحيلهم ومن يقف وراء ذلك الفعل الجبان، ومن يتحمل بمغرب الاستقلال مسؤولية القضاء على جيش التحرير، وعرقلة توحيد الحركات التحررية على مستوى شمال أفريقيا.

مباحثات "إيكس ليبان".. كواليس خمسة أيام انتهت باستقلال المغرب
تفاصيل مفاوضات «إكس ليبان» التي حددت مستقبل البلاد


كان استقلال المغرب سنة 1956، تتويجا لحركة المقاومة المسلحة في سنوات الخمسينيات، التي ظهرت كرد فعل عنيف مطبوع بالاستمرار والتنظيم، والذي تهيكل وتماسك مع الزمن، ليكتسي شكل مجموعات مسلحة بالمدن أساسا قبل الامتداد إلى القرى لاحقا. وتميز شكل العمل العنيف هذا عن أشكال النضالات السياسية التي طورتها الحركة الوطنية منذ سنوات 1930، من قبيل: العرائض، قراءة اللطيف، حملات دبلوماسية،...الخ)
كما لا يمكن مقارنة هذه المقاومة الحضرية بأشكال قديمة من معارضة المخزن، مثل «السيبة»، ولا بالمقاومة الأولى للقبائل، التي كانت تقودها جماعات فلاحية مسلحة عند بداية إرساء الحماية. وباستثناء التجربة بمنطقة الريف (عبد الكريم الخطابي)، التي كان لها طابع مميز، وعلى عكس أعمال المقاومة الأولى التي انتهت ب«تهدئة» البادية المغربية سنة 1934، بعد أن عملت جاهدة على وقف العدوان العسكري الاستعماري، ظهرت حركة المقاومة المسلحة بالمدن، ابتداء من سنة 1950 كتعبير عن التحولات البنيوية التي طالت المجتمع المغربي.

كان ينشط أعمال المقاومة المسلحة تلك، مناضلون واصلوا إعلان انتسابهم إلى أحزابهم السياسية الأصلية حتى الاستقلال(3) والذين استفادوا من تجربة متراكمة على الصعيدين السياسي والتنظيمي. بفضل العمل الذي قامت به مختلف مكونات الحركة الوطنية طيلة سنوات طويلة من النضال السياسي المنظم. كذلك ساهمت الحركة النقابية والحركة العمالية في النضال المسلح، عبر مجهودها الكبير في تسييس الفئات التي خاضت هذا النضال.

عرفت مرحلة النضال المسلح تحضيرا سياسيا، انبرى له أطر الحركة الوطنية، للمزج بين كل من الطور السياسي وطور النضال المسلح، في تلاحم وانسجام، وتمكن العمل المسلح، بفعل نتائجه العملية، من تحقيق ما عجز عنه العمل السياسي بمفرده طيلة عشرين سنة. حيث ساد اقتناع عميق –آنذاك- بأن الوسائل السياسية، التي تجاوزتها الأحداث، لم تعد كافية لفرض مطلب الاستقلال.
كانت الرغبة قوية لدى عدد كبير من مناضلي القواعد والأطر المتوسطة بالأحزاب الوطنية للتحرر من رتابة السياسة التقليدية، وأساليب العمل التقليدية. وذلك أمام تصعيد القمع- وسعار العسس الاستعماري الذي اتخذ حجما جديدا في مطلع سنوات 1950، مع سلسلة الاعتقالات اليومية والإعدامات. التي لم تثبط من عزيمة المقاومة، ولم تكن سبل «اللاعنف» التي لقنها القادة الوطنيون ترضي المغاربة، الذين تعرضوا يوميا لقمع السلطة الاستعمارية، استحالت معها كل مطالبة سلمية بالاستقلال والكرامة.

على هذا النحو كانت البيئة مهيأة لتقبل أي عمل عنيف أو مسلح. طبعا اكتست حركة المقاومة في البداية طابع أعمال فردية ومعزولة من قبيل محاولة محمد الحنصالي أو علال بن عبد الله بعد تنحية محمد الخامس. لكن أعمال المقاومة ستشهد تنظيما لاحقا عبر المجموعات والمنظمات المنغرسة في كافة مدن المنطقة السلطانية تقريبا.

ما خلا المنظمات الرئيسية للمقاومة، مثل المنظمة السرية والهلال الأسود، التي كانت لها بوجه عام فروع بأهم المدن، لم تكن باقي منظمات المقاومة تتجاوز إطار المدينة أو الموقع. يتعلق الأمر بمنظمات تضم عددا محدودا جدا من المناضلين لا يتعدى إطار خلية (4 إلى 5 أفراد). وغالبا ما كانت تحمل اسم المؤسس مثل حمان الفطواكي، أو الحاج بقال بمراكش، أو خلية بنشقرون بفاس، أو خلية الحاج معنينو في سلا. وكانت منظمات أخرى تحمل اسم شخصية إسلامية مثل منظمة أبو بكر الصديق، أو اسم السلطان المخلوع مثل « أنصار محمد الخامس». ويجدر تأكيد أهمية العامل الديني في التعبئة السياسية خلال تلك الحقبة، عبر بعث كل الجوهر الأسطوري للإمام الذي تجسد بقوة استثنائية في شخص محمد الخامس.


مباحثات "إيكس ليبان".. كواليس خمسة أيام انتهت باستقلال المغرب
إعلان سان سيل كلو.. تنظيم العلاقات المستقبلية الفرنسية-المغربية

في حوار له على كرسي اعتراف «المســاء» أشار مدحت بوريكات، (الثلاثاء 11 نونبر 2014 - العدد : 2525) إلى أن بيرجي الذي كان مكلفا بإنجاز تحقيق سري شامل عن الوضع في المغرب، وكان والده –بوريكات- ينظم له لقاءات مع الأعيان والتجار وزعماء الأحزاب... كما كان بيرجي يجالس الفرنسيين الأحرار أيضا (المساندين لاستقلال المغرب) ليكوِّن فكرة عامة عما كان يمور في المغرب حينها.

عندما كان بوريكات مقيما رفقة العائلة الملكية لأزيد من أسبوعين بفرنسا، قبل عودتها النهائية إلى المغرب، كان يلمح مسيو بيرجي يوميا في محيط قصر «Saint Germain En-Laye» وبرفقته هنري إيريسو، مدير ديوان وزير الخارجية الفرنسي أنطوان بيني. وقد كان بيرجي يوفر لمولاي الحسن (ولي العهد) ولأفراد العائلة الملكية ما يحتاجونه من مال وسيارات سوداء يقودها أفراد الشرطة الفرنسية.

كانت مفاوضات «إيكس ليبان» ما بين 22 و27 من غشت 1955، بينما لم يحل السلطان بن يوسف بسان جيرمان إلا يوم 30 أكتوبر من السنة نفسها، وغادرها يوم 16 نونبر إلى المغرب. وخلال هذه المدة تم توقيع إعلان «سيل سان كلو»، الذي صادف يوم 6 نونبر 1955. يتابع بوريكات روايته على كرسي الاعتراف قائلا: « وكنت قد ذهبت إلى هناك مرتين، وحين رأيت في المرة الثانية العلم المغربي يرفع فهمت أن الطرفين وصلا إلى اتفاق وأن عودة السلطان إلى عرشه أصبحت وشيكة، خصوصا وأنني يومها لاحظت أن المشاركين المغاربة كانوا في كامل أناقتهم، ورأيت أن امبارك البكاي غير لباسه العصري بآخر تقليدي: جلباب وسلهام.. وعندما خرج السلطان رفقة وزير الخارجية الفرنسي أنطوان بيني، ظهرت الدراجات النارية التي لم تكن قبلها تتقدم موكب السلطان بن يوسف. وعندما عدنا إلى سان جرمان وجدنا أن الأمور قد تغيرت، حيث أصبح هناك العديد من رجال البوليس والدرك يحيطون بقصر «Saint Germain En-Laye»، ولا يسمحون لأي كان بالاقتراب من محيط السلطان؛ وبعد أن كان كل من هب ودب، من الفرنسيين والمغاربة على حد سواء، يتقدم للسلام عليه، أصبح لقاء الملك يخضع للبروتوكول..»
نص برتوكول الملحق بإعلان «سان سيل كلو» 2 مارس 1956 على أن الفترة الفاصلة بين التاريخين، مرحلة أنجز من خلالها المغرب تقدما، لم تعد معه معاهدة الحماية (1912) صالحة لتنظيم العلاقات الفرنسية المغربية. وكما جاء في نص الإعلان المشترك بأن مفاوضات ستجمع في باريس بين المغرب وفرنسا هدفها توقيع اتفاقيات جديدة لتنظيم العلاقات بين البلدين في مجالات المصلحة المشتركة أساسا: الدفاع، العلاقات الخارجية، الاقتصادية، والثقافية، والتي تضمن حقوق وحريات الفرنسيين المقيمين في المغرب والمغاربة المقيمين في فرنسا. كما أضاف الإعلان المشترك، على أنه في انتظار توقيع الاتفاقيات الجديدة بين الطرفين وبناء المؤسسات الجديدة، لن يتم المس بوضعية الجيش الفرنسي، وأن الجيش الذي سيتوفر عليه سلطان المغرب سيتم تشكيله برعاية فرنسية. أما الفقرة الأولى من البروتوكول الملحق فقد تم من خلالها فرض الإطلاع على جميع مشاريع الظهائر والمراسيم من طرف ممثل فرنسا بالمغرب لأجل وضع ملاحظاته على النصوص، سيما فيما يتعلق بالمس بمصالح فرنسا والفرنسيين أو الأجانب خلال الفترة الانتقالية.

مباحثات "إيكس ليبان".. كواليس خمسة أيام انتهت باستقلال المغرب
بوطالب: مؤتمر «إكس ليبان» انتهى قبل أن يبدأ

يروي عبد الهادي بوطالب الذي كان ضمن الوفد المغربي عن حزب الشورى والاستقلال، بلقاءات «إكس ليبان»، واصفا الهدف منها الذي كان «يراد منه أن يكون مؤتمر حوار مغربي ـ مغربي، أي بين التقليديين والوطنيين ليصلوا إلى وفاق بينهم في موضوع العرش على أرضية مشتركة يمكن أن يستقر عليها الطرفان بالتراضي. وبكلمة جامعة: كان المنظرون من دهاقنة الاستعمار الفرنسي لمشروع التقاء الفرقاء «المتشاكسين» (أو الإخوة الأعداء) من المغاربة في تجمع كبير «لغسل وسخهم» ...»
يتابع روايته، «لما وصلنا إلى «إكس ليبان» يوم 22 غشت 1955 قيل لنا إن الباشا التهامي الكلاوي والقواد الآخرين موجودون بالمدينة. فامتنعنا عن لقائهم وقلنا: «نرفض هؤلاء، فهم ليسوا معنيين بالأمر. هم عملاء للإقامة العامة..».

أفهم وفد الوطنيين المغاربة أعضاء الحكومة الفرنسية، الموفدة إلى «إكس ليبان» بأن إقامتها العامة في المغرب تخدعها وتكذب عليها. واضطر الفرنسيون بعد تلكؤ ثم بإمعان النظر إلى القبول بوجهة نظر الوفد المغربي، فأرجعوا في نهاية الأمر القواد الموالين للإقامة العامة إلى المغرب. ولذلك فإن مؤتمر «إكس ليبان» الذي يتحدث عنه التاريخ-بحسب بوطالب- لم يكن مؤتمرا لأنه لم يجتمع قط. وقد سبق أن كتب هذا في الثمانينيات في «موسوعة ذاكرة المغرب» باللغة الفرنسية بعنوان «المؤتمر الذي لم ينعقد»، ..» لأننا لم نجتمع مع أولئك العملاء. واضطر الوزراء الفرنسيون الذين جاءوا إلى»إكس ليبان» لاستدعائهم-من بعد- وحدهم فاجتمعوا بهم منفردين، وصرفوهم فرجعوا إلى المغرب من حيث أتوا، واستدعونا نحن واجتمعوا بنا وحدنا، فأطلعناهم على وجهة نظرنا ووضعنا الأمور في نصابها. إن مؤتمر «إكس ليبان» انتهى ـ كما قلت ـ قبل أن يبدأ، وبالتالي لم يدخل قط التاريخ...».

لقد انقطعت الاتصالات بين الوطنيين وبين السلطان محمد بن يوسف لأن الحصار كان مضروبا عليه بمنفاه. ولكن مع توالي الأيام وانتهاء معركة ما سمي بــ«خدعة إكس ليبان» تبين لفرنسا أنه لا حل للأزمة المغربية إلا بالدخول في محاورة مباشرة مع الوطنيين في جبهة العمل الوطني، مستبعدة الحوار مع نفسها -أي بواسطة القواد والباشوات والعملاء التقليديين-. وأنشأت فرنسا داخل الحكومة الفرنسية وزارة خاصة باسم وزارة الشؤون المغربية والتونسية، كان يشرف عليها الوزير «بيير جولي».

يواصل عبد الهادي بوطالب، قائلا: « بينما كان وفد الجبهة بقاعة الانتظار كان الوزير يستقبل المقيم العام الفرنسي بالمغرب الجنرال «بْوَيّي دُولاتُور»، دخل علينا الكومندان محمد أوفقير ليأخذ معطف المقيم العام، وبيده عصا الجنرال فسلم علينا وقدم نفسه لنا على أنه الضابط المرافق للجنرال المقيم العام. ثم قال لنا: «أهنئكم بنجاحكم، فالقضية التي دافعتم عنها أصبحت ناضجة». وتظاهر بأنه يغالب بكاء الفرح الذي لا أستطيع وصفه. وكانت هذه أول مرة ألتقي فيها الضابط أوفقير. وبعد مرور دقيقة خرج المقيم العام من مكتب الوزير فحياه أوفقير التحية العسكرية وألبسه معطفه وسلم إليه عصاه وانصرف وراءه. وكانت هذه أول مرة أرى فيها وجه أوفقير وأمد يدي لمصافحته.

وكان الفرنسيون يرغبون في تشكيل حكومة رشحوا لرئاستها أحد المعتدلين التقليديين هو الفاطمي بن سليمان الذي كان وزيرا للمعارف في حكومة المخزن ورئيسا للمحكمة العليا بالرباط قبل أن يذهب السلطان إلى المنفى. ثم انفصل عن الحكومة المخزنية وظل على ولائه للسلطان محمد بن يوسف، وذلك عندما شرع الموالون للحماية الفرنسية بالانفضاض من حولها. وأمام تصميم وفد الوطنيين المغاربة. اضطرت الحكومة الفرنسية لمجاراتهم. وتهييئ الأجواء بقصد التقائهم في غياب الإعلام، للاتصال بالسلطان في المنفى. وسافر بوطالب فعلا، ضمن الوفد الوطني إلى مدينة أنتسرابي في جزيرة مدغشقر. وضم الوفد كلا من عمر بن عبد الجليل، وعبد الرحيم بوعبيد من حزب الاستقلال، وعبد القادر بن جلون، وعبد الهادي بوطالب من حزب الشورى والاستقلال. عبر طائرة خاصة أقلتهم في التاسع من شتنبر 1955 دون اجتياز الحواجز الأمنية والجمركية من مطار خاص في باريس على الساعة الحادية عشرة صباحا. ولم يُعلَن عن سفر الوفد المغربي للقاء السلطان إلا بعد رجوعه. وتم قطع الرحلة من باريس إلى «تناناريف» عاصمة مدغشقر في ظرف 36 ساعة، توقفت خلالها الطائرة في عشرة مطارات. بسبب التوقف الدائم للطائرة لأجل تزودها بالوقود كل 400 كلم. قبل أن تحط في مطار «تناناريف». ثم إكمال الرحلة، على متن السيارة إلى مدينة «أنتسيرابي» في رحلة استغرقت أربع ساعات. حيث كان السلطان يقيم في الفندق الكبير «لي تيرم» بجوار حامة معدنية كان يحل بها من يرغبون في الاستشفاء، ويأتي إليها السياح للاستجمام أو شرب مياهها للعلاج. وكانوا قبل وصول السلطان يقيمون في ذلك الفندق الكبير الذي تم إخلاؤه ليقيم فيه السلطان وأسرته.


مباحثات "إيكس ليبان".. كواليس خمسة أيام انتهت باستقلال المغرب
عندما صرخ المهدي المنجرة: «إنها خيانة»


في اليوم الذي تم فيه «طبخ» مفاوضات «إكس ليبان» صرح الدكتور المهدي المنجرة قائلا إنها «خيانة»، وشاءت الأقدار أن يصرح بذلك، في مكان غير بعيد عن جامعة السوربون. وبعد الاستقلال أكد المنجرة الكلام نفسه في برنامج إذاعي شارك فيه ثلة من المغاربة، منهم عبد الهادي بوطالب، إلا أن السلطات فضلت عدم بث فحواه على الهواء وحجبته عن المستمعين.
لقد تحدى الراحل المهدي المنجرة في حياته، أيا كان يقول بأن «إكس ليبان» كانت مفاوضات دارت حول استقلال المغرب. فمن وجهة نظره، كان يعتبر دائما بأن معاهدة « إيكس ليبان» من أكبر «الخيانات»، وكانت مجرد تسوية بين زعماء سياسيين والمستعمر الفرنسي، حيث كان المتفاوضون عن الجانب المغربي، يسعون نظير مناصب سياسية ومواقع النفوذ بعد الاستقلال. واعتقد المنجرة أنه لو استمر جيش التحرير في سياسته التحريرية ونجح في استمرار تحالفه، مع الحركة التحريرية بالجزائر وتونس لتم الوصول إلى مغرب عربي كبير وحر، إلا أن تسوية «إكس ليبان» كانت ضربة قاضية فوتت على بلدان المغرب العربي شروط إقلاع اقتصادي واجتماعي مهم.

لقد عاش المنجرة في قلب الأحداث التي سبقت مفاوضات «إكس ليبان»، وذلك بحكم دراسته بالولايات المتحدة الأمريكية، إذ جعلته إقامته في عمق العمل الوطني من أجل القضية المغربية وقضايا المغرب العربي والعالم بشكل عام. ففي سنة 1951 التحقت عائلة محمد الغزاوي بعائلة المهدي حيث يوجد بيتها على بعد مائة كيلومتر من نيويورك. هذان البيتان كانا عند نهاية كل أسبوع ملتقى لممثلي مختلف الدول لدى هيئة الأمم المتحدة، وقد احتضن هذا الملتقى في تلك الفترة مسؤولي حركة التحرير التونسية ومن بينهم السي الباهي الأدغم. أما مكتب الحركة الوطنية المغربية فقد افتتح بواشنطن من طرف الدكتور المهدي بنعبود سنة 1951، وقد التحق به المرحومان عبد الرحمن بنعبد العالي وعبد الرحمان أنكاي والمهدي بنونة الذين افتتحوا في سنة 1952 مكتب نيويورك. كان المهدي قد أدرك أن مكتب واشنطن افتتح في السنة نفسها التي عرفت نشوب أزمة خطيرة بين المغفور له السلطان محمد الخامس والمقيم العام الجنرال جوان، وهي الأزمة التي لم تترك أي خيار سوى اللجوء إلى المجتمع الدولي. بعد أن طلب جلالته أثناء زيارته لفرنسا في أكتوبر 1950 مراجعة عقد الحماية عبر منح المغرب الاستقلال، ولم يتوقف محمد الخامس عن التأكيد على هذا المطلب الذي اعتقل من أجله العديد من الوطنيين في سنة 1951.

كانت تفاصيل من حياة المهدي المنجرة خلال هذه الفترة بصمات دالة في مسار تكوينه وارتباطه بالعمل الوطني. ومن اللحظات التي كانت راسخة في ذهنه، اليوم الذي تناول فيه الغداء ببيتهم وجوه ذات حضور تاريخي كبير، وقادته الصدفة أن يوصل بعضهم بالسيارة إلى البيت كعلال الفاسي وبلحسن الوزاني وأحمد بن سودة والمكي الناصري الذين جاؤوا حينها بقصد إبرام ميثاق وطني من أجل العمل على استقلال المغرب، وكان من الحاضرين يومها إضافة إلى والد المهدي، محمد الغزاوي عبد الرحمن بنعبد العالي وعبد الرحمان أنكاي والمهدي بنونة ولوفان كيشيان أحد كبار الصحفيين الذي تطوع ليخصص جزءا هاما من وقته للدفاع عن القضية المغربية، كما حضر في تلك المناسبة أفراد من عائلة المهدي. وأصدر المكتب المغربي –على إثر ذلك- أول بلاغ صحفي في نونبر 1951 حول خرق فرنسا لحقوق الإنسان والحريات العامة بالمغرب. وهي المبادرة التي تعززت في 13 أكتوبر من سنة 1952 بإصدار العدد الأول من «نشرة الاتصال». كانت سنة 1952 أكبر منعطف في تاريخ القضية المغربية ضد الاستعمار الفرنسي حيث قبلت هيئة الأمم المتحدة مناقشة الملف المغربي، وهي السنة نفسها التي نشر فيها المهدي المنجرة أول مقال له في الصحافة، وذلك بتاريخ 24 أكتوبر يوم الاحتفال بذكرى تأسيس الأمم المتحدة، وكانت قد نشرته «كورنيل دايلي سان» (أكثر من 5 آلاف نسخة) وهي الصحيفة اليومية التي كانت تصدرها الجامعة التي كان يدرس بها المهدي.


قام المهدي رفقة الوطنيين المغاربة بـ «مكتب نيويورك» بعمل جبار بعد نفي المغفور له محمد الخامس في 20 غشت 1953، من أجل أن يكون للقضية الوطنية مكان في جدول أعمال مجلس الأمن، واشتغل مكتب نيويورك رفقة المهدي المنجرة حينها ليل نهار من أجل تهييئ ملف في الموضوع يحظى بدعم خمس عشرة دولة، وكان قد وصل الحاج أحمد بلافريج إلى نيويورك في 29 غشت 1953 تاريخ اجتماع مجلس الأمن، ليتابع الجلسة كعضو من الوفد الباكستاني، وهو ما أثار اعتراض رئيس الوفد الفرنسي هنري هوبنو الذي طالب بانسحاب بلافريج من القاعة، ليخرج الأخير من جيبه جواز سفر باكستاني مكنه من متابعة الاجتماع. وكانت أصداء هذا الاجتماع عالقة بذهن المهدي بالنظر، إلى مستوى المندوبين وطبيعة النقاش. بحضور (شارك مالك من لبنان، ظفر الله خان من الباكستان، قسار بكين من الاتحاد السوفياتي، أوروسيا من كولومبيا، وواد وورث من الولايات الأمريكية وتسيانغ من الصين) .

معروف دفالي *: مجلس الوصاية على العرش ولد ميتا.. !
في معرض تعليقه على لحظة «إكس ليبان» المفصلية، أكد المؤرخ معروف دفالي بأن السياق العام لهذه المشاورات بين كل من فرنسا والوطنيين المغاربة، ارتهن بالنظرة الكونية الجديدة للاستعمار بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ودعم الأمم المتحدة لحركات التحرر.

بالمغرب، ظهرت الارهاصات الأولى لاستقلاله، منذ سنة 1947 التي اتسمت بتوتر العلاقات بين الحماية والقصر، وكذا تصعيد أعمال المقاومة المسلحة. ثم توالت الأحداث سريعا بنفي السلطان بن يوسف، ومحاولة السلطات الفرنسية تصفية الحركة الوطنية المغربية، بملاحقة أقطابها والزج بهم في السجون والمنافي...
تكون الوفد المفاوض المغربي بـ»إكس ليبان»، من تشكيلات سياسية واجتماعية، جد متنوعة حالت دون وحدة وانسجام الوفد المغربي، مما حدا بالمفاوض الفرنسي إلى تمرير إحداث مجلس الوصاية على العرش، الذي تصارع حول عضويته العديد من الأسماء التاريخية، ولم يدم إلا أياما قليلة، ويمكن القول إن هذه الهيئة التي نصبت بمقتضى مشاورات «إكس ليبان» قد ولدت ميتة، ولم يكن لها أدنى دور تاريخي في معرض الأحداث اللاحقة.

محمد شقير : مفاوضات «إكس ليبان» كانت عبارة عن صفقة سياسية بين كل من سلطات الحماية الفرنسية والقصر والحركة الوطنية


- ما هي ملامح السياق العام الذي أطر لحظة «إكس ليبان» ؟
هناك مستويين بهذا الصدد، ويتجلى أولاها في الإطار الدولي الذي ساهم بدوره في نضج تلك اللحظة التاريخية، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية التي أسفرت نتائجها على قوتين كبيرتين وهما الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأمريكية، وتراجع الهيبة العسكرية لكل من فرنسا وإنجلترا. فاسحة المجال أمام ظهور حركات التحرر بالمستعمرات، التي كان المغرب جزءا منها تحت الاحتلال الفرنسي والإسباني.

تنضاف كذلك الهزيمة المدوية للجيش الفرنسي بتيان فو (الهند الصينية) سنة 1954. أما ثانيها فيهم السياق الوطني والإقليمي، مثل حرب التحرير الجزائرية التي أثرت بدورها على مجريات الأمور بالمغرب، خاصة بعد مواجهات جيش التحرير للقوات الاستعمارية، التي تميزت بالتنسيق العملي على المستوى المغاربي، لمواجهة الاستعمار في كافة دول المغارب.

- ما هو دور الحركة الوطنية المغربية في ظل كل هذا المخاض؟

كانت الحركة الوطنية الحاضرة بـ»إكس ليبان»، ممثلة بكل من أحزاب الشورى والاستقلال والاستقلال، إلى جانب الحزب الشيوعي المغربي. التي سبق أن عقدت تحالفا بينها وبين القصر، منذ 1930 لمواجهة الحماية الفرنسية. حيث ستتطور الأحداث وصولا إلى مؤامرة نفي محمد الخامس والأسرة الملكية إلى جزيرة مدغشقر سنة1953.

- مم تشكل الوفد المغربي في مفاوضات «إكس ليبان» ؟

لعبت فرنسا دورا كبيرا في تنويع المفاوضين بــ«إكس ليبان»، فالوفد المغربي تكون حينها، من ممثلين عن الأحزاب «المتحزبين» وممثلين عن القياد، مما ترك المجال فسيحا أمام المفاوض الفرنسي، لأنه كان يعي أنه أمام كتلة غير متجانسة من المفاوضين، مما جعله يمرر مقترح إحداث مجلس الوصاية على العرش، الذي لم يدم كثيرا في مضمار هذه الفترة التاريخية.

- بعد «إكس ليبان» في غشت 1955، تم توقيع إعلان «سان سيل كلو» بفرنسا، بم جاء هذا الإعلان المشترك بين الوفدين المغربي والفرنسي؟

لقد شكل هذا الإعلان المشترك الموقع في 2 نونبر من سنة 1955، مجرد بداية نحو الاستقلال، وهو الذي تم تحديد مضامينه في البرتوكول الملحق بهذا الإعلان الذي تم توقيعه في 2 مارس سنة 1956، وحدد طبيعة العلاقات التي ستنتظم لاحقا بين كل من فرنسا والمغرب بالتفصيل داخل بنود البروتوكول الملحق.

وتميزت الفترة الفاصلة بين توقيع الإعلان المشترك وبروتوكوله الملحق، بعودة محمد الخامس من المنفى، وهو الأمر الذي اعتبره الوطنيون المغاربة بمثابة الإعلان الحقيقي عن استقلال المغرب، نظرا للتلاحم الذي برز بين العرش والوطنيين في ملحمة شعبية تاريخية، تجسدت في الاستقبال الحاشد لعودته في18 نونبر سنة 1955.

- كيف تطورت العلاقات الفرنسية - المغربية بعد مخاض الاستقلال؟

للتذكير فإن أغلب الدارسين للمرحلة، أكدوا على أن مفاوضات «إكس ليبان»، كانت عبارة عن صفقة سياسية بين كل من سلطات الحماية الفرنسية من جهة، والقصر والحركة والوطنية من جهة أخرى. هدف كل طرف الحفاظ على مصالحه. وبالطبع فرنسا حافظت على مصالحها، وحتى المقيمون الفرنسيون بالمغرب، لم يتم طردهم مثلا..فقد استقروا بمساكنهم حيث ممتلكاتهم لسنوات لاحقة. وكذا العلاقات الاقتصادية المتميزة التي استمرت بين كل من المغرب وفرنسا، كذلك حافظت فرنسا على كل ترسانتها الأمنية والعسكرية والدبلوماسية بالمغرب حتى منتصف الستينيات، مع سياسة المغربة.

بالمقابل، احتفظ المغرب بطبيعة خاصة لخروجه من نير الاستعمار عكس باقي البلدان المستعمرة، حيث لم ينل استقلاله وسيادته على أراضيه دفعة واحدة، بل امتدت تلك العملية لعقود، بدءا باسترجاع المنطقة الخليفية (شمال لمغرب) ثم سيدي إفني وطرفاية والصحراء سنة 1975، وبعدها إقليم وادي الذهب سنة 1979. وذلك راجع إلى طبيعة المفاوضات التي قادت لهذه الصيغة التي مازال المغرب يعاني من تبعاتها إلى اليوم، في إطار استكمال وحدته الترابية... فجل أقطاب الحركة الوطنية المغربية مثل علال الفاسي، وعبد الرحيم بوعبيد والمهدي بن بركة لم يكونوا راضين عن تلك المفاوضات (إكس ليبان). بحكم أن رهانات المقاومة كانت تدور على تحرير جميع أقطار المغرب العربي، التي وحدت كفاحها ضد المستعمر الفرنسي، في إطار عمل مكتب المغرب العربي ونشاطه بين تلك البلدان، ومختلف المنابر العربية والدولية بهدف تحقيق الاستقلال لشعوبها. فلو فاوض المغرب مثلا في ظل وحدة مطلبية لجميع دول المغارب، لكان بإمكان المغرب أن يفرض شروطه على فرنسا، عوضا عن وضعية التشرذم التي عرفها الوفد المفاوض لفرنسا، وأدت لما اعتبره البعض «خيانة» للقضية الوطنية، وفريق آخر اعتبرها كذلك، بمثابة»استقلال ناقص»، بحكم المشاكل التي يعاني منها المغرب -إلى اليوم- في إطار استكمال وحدته الترابية أمام الجزائر وغيرها...

- إضافة لمشكل استكمال الوحدة الترابية، عرف المغرب في فجر الاستقلال صراعات سياسية فوتت عليه الالتحاق بالدول المتقدمة، وأجلت الديمقراطية لأجل غير معلوم، ألا ترون بأن هذه الوضعية، تعد كذلك من نتائج «إكس ليبان»؟

أظن أن هذا كان من بين البنود -السرية- للصفقة السياسية التي تمت بـ»إكس ليبان»، فلو استمر جيش التحرير في كفاحه، وكذلك تواصلت أعمال المقاومة المسلحة بالمدن لكان ذلك دافعا لفرنسا في تغيير البنية السوسيو اقتصادية والسياسية التي خلفتها أربعة عقود من الحماية قبل مغادرتها.

- هل صحيح أن المهدي بن بركة طالب قادة جيش التحرير بإلقاء السلاح؟

هذا كان موقف حزب الاستقلال ككل، إذ كان يرغب في تهيئة شروط سليمة للمفاوضات حول عودة السلطان الشرعي بن يوسف، واستقلال المغرب. وبالفعل فقد شارك المهدي بن بركة في محاولات إقناع أعضاء جيش التحرير بالالتحاق بالعملية السياسية التي كان الوطنيون بصددها مع فرنسا. إذ كان أعضاء الحركة الوطنية أو ما عرف ب »المتحزبين» يوظفون سلاح جيش التحرير فقط، كورقة للضغط على الحماية الفرنسية، ولم تكن المقاومة المسلحة هدفا في حد ذاته واستراتيجية، وهي النقطة التي طالما ظلت عالقة بين حزب الاستقلال وزعماء الحركة المسلحة، مما حدا بالوطنيين المتحزبين إلى محاولة إجهاض جيش التحرير والتخلص منه، حتى لا يفسد الصفقة السياسية...


تعليق جديد

التعليقات المنشورة لا تعبر بأي حال عن رأي الموقع وسياسته التحريرية
شكرا لالتزام الموضوعية وعدم الإساءة والتجريح