المزيد من الأخبار






في الفرق بين شعاري الشعب يريد إسقاط النظام والشعب يريد إسقاط الدولة


في الفرق بين شعاري الشعب يريد إسقاط النظام والشعب يريد إسقاط الدولة
عماد لبوز: باحث في الدراسات القانونية


لقد رفع شعار الشعب يريد إسقاط النظام في مختلف بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إبان مختلف مراحل الحراك الشعب الذي عرفته ومازالت تعرفه بلدان هذه المناطق (تونس، مصر، ليبيا، المغرب، سوريا)، بعد استشراء الفساد في مختلف مؤسسات الدول (الفساد الإداري)، والسياسات الاجتماعية والاقتصادية التي أغرقت مجتمعات هذه الدول في الفقر والتهميش والإقصاء، ما حذا بالعديد من الفئات المجتمعية والإدارات المدنية إلى اعتباره وفق واقع الأمر بسياسات مقصودة، هدفها الرئيسي استمرار الاستبداد من خلال سياسات تعليمية فاشلة لا تستجيب للدينامية المجتمعية والتطور الذي تعرفه معظم الدول، ومن خلال كذلك السياسات الاقتصادية التي تقوض الحرية الاقتصادية وحرية المنافسة، وتكرس من اقتصاد الريع بمختلف أنواعه، وإهمال الحقوق اللغوية والثقافية.

ومع ارتفاع صبيب بؤس السلوكات والممارسات السياسية كنتاج لفعل سياسي أحادي مفروض على مختلف المكونات السياسية والمدنية، ومع تراجع القيم والأفكار العليا وشيوع القيم المحافظة، وتدهور المدرسة والجامعة، ومع غياب دور المثقف في تتبع وتقييم الأسس والميكانيزمات الممنهجة في تدبير الشأن العام والمشاركة فيه، بالإضافة إلى تفاقم البطالة وضعف مردودية ونجاعة مختلف القطاعات الأساسية، واستمرار الفوارق المجالية، واستمرار قمع الحريات، التي تعتبر كلها عوامل تجعل الشارع المغربي ينتفض ويحتج كتعبير عن رفضه لهذه الأوضاع.

عادت مختلف الشرائح المجتمعية بالمغرب لتتسائل حول إمكانية وجود إرادة حقيقية من طرف صناع القرار الفعليين للتغيير وبناء دولة ديمقراطية حداثية ومؤسساتية، وتفعيل عملي للمنظومة القانونية على قدم المساواة بين كل المواطنين، من خلال الاحتجاجات التي أصبحت تعم مختلف بروع البلاد من شمالها لجنوبها، إيمانا منها بأن الاحتجاج حق من حقوق الإنسان ويدخل ضمن حرية الرأي والتعبير و منصوص عليها في الميثاق العالمي لحقوق الإنسان المؤرخ في 10 دجنبر 1948 بالمادة 19، و التي جاء فيها " لكل شخص حق التمتع بحرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حريته في اعتناق الآراء دون مضايقة، وفي التماس الأنباء والأفكار، ونقلها إلى الآخرين بأية وسيلة ودونما اعتبار للحدود".

وتفاعلا مع النقاش العمومي الذي تزامن بالخصوص مع حادثة قتل شهيد "الحكرة" (الاحتقار)، شهيد لقمة العيش محسن فكري بالحسيمة، وبالاتهامات الموجهة لسكان منطقة الريف، ولكل المغاربة الذين خرجوا في أشكال احتجاجية تنديدا بهذه الممارسة المنتمية للزمن ما قبل الحداثي، وبالشطط في استعمال السلطة، وتغول مختلف أجهزة الدولة في تعاملها مع المواطنين والمواطنات، باستهداف استقرار الدولة، وبمحاولة نشر الفتنة داخل المجتمع، هذا بغض النظر عمن ينشرون هذا الخطابات ويدافعون عنها، لأن توظيف الدين في السياسية ركن أساسي في دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وبالتالي فلابد من محاولة التمييز بين مفهوم إسقاط النظام وبين إسقاط الدولة، و تقديم تعريفات عامة وإيضاحات لفهم معانيها وأسسها من جهة، وحتى لا يساء من جهة أخرى فهم هذه الشعارات على أساس نشر الفوضى داخل المجتمع.

ما المقصود بالنظام؟

تاريخيا مفهوم أو مصطلح النظام له علاقة بالثورة الفرنسية، وجاء كرد فعل (بالمعنى العقلاني ولا بالمعني الديناميكي لأنه رد فعل مدروس تزامن مع الثورة الفكرية التي عاشتها فرنسا) على رفض النظام القديم الذي ساد بفرنسا المشخص في الملكية المطلقة التي سادت إلى غاية نهاية القرن الثامن عشر، وأطلقت أيضا على مختلف ملكيات القارة الأوروبية التي كانت في ذلك الوقت، والتي تتفاوت درجات استبدادها وتسلطها من دولة لأخرى. وبالتالي فالأساس السياسي لاستعمال كلمة 'النظام" كان يشير للملكيات المستبدة في ذلك الوقت، مما مهد لبزوغ نقيض اعتبر في تلك المرحلة أكثر جذرية بالمقارنة مع هذا النظام (الملكي المستبد) هو الجمهورية كمحاولة للتميز بين الديكتاتورية (الأنظمة الملكية) والديمقراطية (الجمهورية).

يلاحظ في الأنظمة الديمقراطية غياب تداول مفهوم النظام، وهنا يمكن القول أن مفهوم النظام له طابع ازدواجي ففي اللغة العربية مثلا ليس هناك أي مرادف آخر لمفهوم النظام، بينما في اللغة الفرنسية هناك مفاهيم متعددة مثل Système و Régime، وبالتالي فالسلوكات والحالات التي تتمظهر فيها الديكتاتورية يعبر عنها في غالب الأحيان بالنظام.

فالنظام السياسي يشير إلى نشاطات وعمل المؤسسات التي تمثل مكوناته، وتمثل نشاطات تلك المؤسسات وآليات عمل النظام السياسي، ومن خلالها تتحدد أسس صنع السياسات وكيفية التوصل إلى القرار بصيغته النهائية ومن خلال التوافق بين المؤسسات، وكلما كان هناك توازن وتفاعل بين مؤسسات النظام السياسي كلما كان القرار السياسي أكثر قدرة على النجاح وأكثر قابلية للتطبيق وأكثر تقبل من عموم المجتمع، وآلية عمل النظام السياسي تتجلى بالخصوص من خلال المؤسسات المختلفة هي التي تشكل السياسة العامة للدولة، فالسياسة العامة تمثل أداء وفاعلية النظام السياسي ونشاطات مؤسساته، فهي تمثل مخرجا من مخرجات النظام السياسي، لذلك عرف النظام السياسي بأنه "مجموعة المؤسسات التي تتوزع بينهما آلية التقرير السياسي" (1).

يعرف الفصل الأول من الدستور المغربي لسنة 2011 النظام ب أنه "ملكية دستورية، ديمقراطية برلمانية واجتماعية". ومن المفترض في النظام السياسي أن يرتكز على فصل السلطات والتوازن والتعاون فيما بينها، إضافة إلى المواطن والديمقراطية التشاركية. ولكن يجدر التشديد على أنّ مفهوم الملكية الدستورية في المغرب مختلف جدا عن الملكية البريطانية، وأن لاصلة لها أبدا بمفهوم الملكية البرلمانية التي عرفها الدستور الإسباني لعام .1978 فبموجب الدستور المغربي، فإن الملك يملك ويحكم وسلطاته ليست رمزية فحسب.

ولقد لاحظ الدكتور "عبد اللطيف أكنوش" أن نظام الحكم بالمغرب هو نظام خلافي فالدستور المغربي يتكون من طبقتين الأولى يحتوي على المشروعية الدينية المؤسسة لنظام الخلافة والمبنية على البيعة أما الطبقة الثانية فهو مجرد تقنيات لتسيير الحكومة والبرلمان. فرغم أن هذه النظرية أساسها يرتبط بقواعد ملموسة لكن يجب الإشارة إلى أنه يجب التمييز في علاقة الدين بالدولة في المغرب بين مستويين، مستوى أول ويمثل في أساسه المشروعية) التبرير) والثاني مرتبط بالشرعنة أو)التدبير) و يستمد أساسه من الدين الإسلامي المنصوص عليه في الفصل 1 والفصل 3. أما المستوى الثاني فهو مبني على القانون الوضعي. فالقوانين المعمول بها في المغرب هي قوانين مستمدة من القانون المدني والجنائي لنابليون (2).

ما مفهوم الدولة؟

هناك عدة تعاريف لمفهوم الدولة، فهناك تعاريف وتفسيرات نابعة من الحقل الفلسفي الصرف، وهناك تعاريف وتفسيرات نابعة من حقل الفلسفة السياسية، و هناك تعريفات أخرى للمفهوم مرتبطة بالخصوص بالعلوم الاجتماعية، وهي القريبة نوعا ما إلى تفكيك مفهوم الدولة لارتباطها بواقع هذه الجماعات التي تعيش في هذه الدولة. فليست المهمة الوظيفية من تحدد مفهوم الدولة، بل التموقع الجغرافي وثقافة هذه الجماعات والتكتلات البشرية التي تدخل في إطار ما يسمى بالدولة هي من تحدد مفهوم الدولة.

وتتكون الدولة من عدة أجهزة، لكن كلها تنتمي إلى حقلين رئيسيين:

أولا: حقل الأجهزة المسلحة التي تضم الجيش والذي يقوم بمهمة الأمن الداخلي، أي جهاز ذو وظيفة عسكرية تتمثل بالأخص في حماية الدولة).

ثانيا: حقل الأجهزة المدنية البيروقراطية التي تهتم بشؤون الإدارة وتختلف من دولة لأخرى، لكن حسب مؤسسي علم الاجتماع الحديث كابن خلدون وماركس وماكس فيبر هنالك نقطة التقاء مشتركة بينها تتمثل في الوظيفة الرئيسية للدولة وهي القمع والعنف المسلح، كما هناك العديد من الوظائف الأخرى قامت بها مختلف الدول في معظم التاريخ البشري قبل أن تستقر في هذين الحقلين الرئيسيين.

ولهذه الأجهزة وظيفة إرساء وتثبيت السلطة، والسلطة هنا تمتلكها فئة حاكمة تتمثل في العائلات النافذة، أو جماعات ضغط أو اللوبيات، فالأوصاف والتسميات تختلف، لكن الجوهر يبقى واحد واحد وهو امتلاكها للقرارات السياسية والإدارية بمعنى امتلاكها لمعظم مقاليد السلطة.

يعتبر ماكس فيبر من مؤسسي علم الاجتماع الحديث / المعاصر، وفي خضم تحليله وتفسيره لمفهوم الدولة وسعيه لتطوير المفهوم، ركز على وظيفة أخرى للدولة وهي دولة المؤسسات أو ما يصطلح عليها بالدولة الحديثة L’Etat moderne، وهي التي تقوم على الفصل بين الأجهزة وبين اللذين يمارسون السلطة أي تحديد الفرق بين المؤسسات وبين موظفي هذه المؤسسات، وذلك من خلال ضرورة وجود ترسانة قانونية وتنظيمية جد دقيقة وواضحة، تضمن للموظفين تسيير هذه المؤسسات والسهر على أن تؤدي مهامها الخدماتية والاجتماعية والاقتصادية، وتضمن أيضا للمواطنين الاستفادة من خدمات هذه المؤسسات على قدم المساواة.

أي أن الذين يتولون الحكم في نطاق هذه الدول لهم وضع قانوني خاص، يحدد مدة تسييرهم لمختلف الأجهزة الإدارية التابعة للدولة، وصلاحياتهم محددة ومحدودة في الآن نفسها. وهذا الفهم الحديث للدولة، هو نقيض لمفهوم دولة النظام القديم، أو الدولة الميراثية L’État héritiraire التي يملكها الطاقم الحاكم، وتملكها السلالات والجماعات وتتعامل مع الدولة كملكية خاصة لها وتورثها من جيل لآخرى، أو ما يسمى بالانتقال الميراثي للسلطة Le transfert héréditaire du pouvoir.

ترتكز في دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا العديد من الدول الميراثية إن لم نقل معظمها، فالبرغم من وجود حوالي ثماني ملكيات مطلقة كمرادف حقيقي لدول النظام القديم (انطلاقا من تحليل سلطات حكامها الرمزية و الدستورية) كنواة لنظام قديم ذو وظائف تقليدية من حيث المبدأ لأنها عبارة عن جماعات استولت على هذه الدول كملك خاص لها مما جعلها تمهد للانتقال الميراثي للسلطة، و وجود أيضا جمهوريات حولت نفسها إلى دول ميراثية قبل بدء الحراك الشعبي الذي عرفتها هذه الدول في 2011 بعشرات السنين، وهو ما جعل شعوبها تنعتها بتسميات حكامها كنظام بنعلي في تونس، نظام القدافي في ليبيا، نظام بشار الأسد في سوريا، نظام مبارك في مصر والنظام المخزني بالمغرب نسبة إلى المخزن الذي يمثل تلك الفئة القليلة التي تكدس تنهب الثروات وتكدسها لتصبح تحت تصرفها فقط (3).

ومع مرور الوقت حاولت هذه الدول المذكورة أن تنزع غطاء تسلطها واستبدادها تماشيا مع الضغط المجتمعي الساعي إلى إرساء دولة الحق والقانون وتوزيع عادل للثروة الوطنية، وتغيير جذري في البنية الإدارية والسياسية بما يسمح بتداول عادل للسلطة، وكذا مع الضغط الدولي الذي يحتم على هذه الأنظمة الوفاء بالتزامات الاتفاقيات الموقع عليها، خصوصا تلك المرتبطة بحقوق الإنسان، لتبدع مزيجا من كلتا الدولتين، أي الدولة الحديثة ودولة النظام القديم، ليطلق عليها دولا نيوميراثية Etats néo-héréditaires .

لكن المميز في هذه الدول أن معظم الحكام كانوا حريصين على بناء أجهزة موالية لهم، أجهزة ضمن الأجهزة، وكمثال: الحرس الجمهوري في الجمهوريات هو بديل للحرس الملكي في الملكيات ولهم نفس الوظيفية، أي وظيفة مرتبطة عضويا بالمالك الفعلي للسلطة وبالتالي فهذا الجهاز تحت تصرفها شأن الحرس الملكي الذي يعتبر تحت تصرف الملك، مما يتنافى قطعا مع مبادئ دولة المؤسسات. أي أن هذه الدول النيوميراثية حالة تقع بين المنزلتين، فلا هي دول ميراثية ولا هي دول حديثة بالمعنى القانوني، وتتميز باستمرارية تاريخية ولا يقوم الحاكم المورث له العرش بتغييره.

ويمكن الخلص من خلال ما سبق إلى أن مفهوم الدولة في المقاربة الديمقراطية، يعني أن شرعية الدولة لا تكتمل إلا من حيث الأداء والفعالية والنجاعة في مختلف أفعالها وسياساتها، خصوصا تلك الموجهة للإجابة عن مطالب المجتمع وحاجياته، وهي وحدها من تحتكر وسائل العنف الشرعي، من جيش يدافع عن حدود الوطن، وشرطة تنظم من جهة السير العادي للحياة العامة وتحقق الأمن والطمأنينة من جهة أخرى، وقضاء ومؤسسات دستورية منتخبة، وهي تمارس نوعين من السيطرة؛ السيطرة على المحكومين لمنع الفوضى والتسيب (من السيبة)، والسيطرة على نفسها لتكون دولة الحق والقانون، مثل هذه الدول لا يمتلك أي مواطن شريف إلا خدمتها والدفاع عنها وحمايتها.

أما الدولة التي تكتفي بالسيطرة على المحكومين والتحكم في حرية تفكيرهم وآرائهم ووجهات نظرهم، وتفتح المجال لسلطاتها وصلاحياتها لتكون فوق القانون والمحاسبة، فهذه ليست بدولة، بل شبيهة بالغابة التي يفترس فيها القوي الضعيف، وتكون مرتعا لمختلف الوحوش والمفترسين، تنتظر فقط فرصة الانقضاض على فريستها، وبالتالي ضمان استمراريتها وقوتها وتحكمها في مختلف مفاصل هذه الغابة، ولا تستحق شرف التقدير ولا الاحترام فبالأحرى الخدمة..

فالدولة، وتجسيدها المتمثل في الحكومة هما أبرز المؤسسات التي تتحكم بمصير الفرد الإنسانية، أو هي الأداة التي تتحكم بواسطتها المؤسسات القوية السطوة في تسيير الأفراد والشعوب، وذلك عن طريق المؤسسات السياسية والسياسات التي تتكفل هذه المؤسسات بتنفيذها عبر أنشطة إدارية مختلفة (4).

التشخيص الدقيق لبنية النظام السياسي القديم

إن أي حركة احتجاجية وجماهيرية في سعيها للبحث عن شرعيتها الجماهيرية والسياسية، لا بد لها أن تمر بمرحلة التشخيص الدقيق والعلمي لطبيعة النظام السياسي في البلد الذي تحتج فيه، حتى تفهم جيدا آليات اشتغال ذلك النظام وأدوات ممارساته التسلطية، و لا يجب الانسياق دائما وراء أغلبية الجماهير، لأن الأغلبية أثناء اللحظات الحرجة التي يعرف فيها المجتمع احتقانا حادا، تكون الذات بصدد ردود أفعال نفسية لامفكر في عواقبها وتبعاتها.

كما أن هذه الأغلبية في نفس الوقت ليست على خطأ، خصوصا إن سبق لنفس المجتمع أن عرف وعاش فترات احتجاج وانتفاض في الماضي، لأن للتجربة دور مهم في توجيه مسار النضالات عن طريق السعي الميداني للتميز بين محاولات إسقاط الدولة (تخريب الممتلكات العامة والعمومية، تخريب وتدمير مصالح الدولة، الهجوم على موظفي هذه المصالح...الخ) وبين محاولة إيصال رسائل سياسية تعبر عن الرفض التام لطبيعة ذلك النظام السياسي الحاكم، ووجوب كف من يدعي خدمة الصالح العام عن حماية الأقلية الحاكمة.

وهذه الأمور بطبيعة الحال تستوجب النضج الفكري والسياسي للفئة المثقفة داخل المجتمع، حتى تساهم بشكل أو بآخر في هندسة أشكال احتجاجية سلمية وراقية توحد مختلف القواعد الجماهيرية، وتعبر ضمنيا على أن رفض سياسات الحكم لا يعني كره الوطن، فالوطن هوية وتاريخ وثقافة ولغة يجمع الكل، لكن السياسات التفضلية والإقصائية تبين وجود خلل سياسي وإداري وجب إصلاحه بشكل جذري.

واقع المثقف المغربي والسلوك السياسي

هناك العديد من أنواع المثقفين، فهناك المثقف العضوي مثلا ينغرس في مآسي الفئات المجتمعية ويساهم في نشر الوعي والتحسيس بضرورة التغيير الحقيقي نحو الأحسن ولكافة أفراد المجتمع دون الانزياح نحو تفضيل فئة معينة دون أخرى، وعن ضرورة التعلم والتعليم كأسس لفهم واقع الفعل والسلوك السياسيين بالبلد. والمثقف المغربي يلامس أنه فوت عليه وللدولة عقودا من الزمن كان عليه استغلالها واستثمارها من أجل مدها بالأفكار والتصورات والرؤى التي قد تساهم في توجيه مسار التنمية نحو دولة الرعاية الاجتماعية والحرية الاقتصادية وضمان التنافسية وتكريس حقيقي وفعلي لمنظومة حقوق الإنسان في شموليتها.

وأما المثقف الذي يوصف أو يصف نفسه أكاديميا، فيظل بعيدا عن واقع المجتمع وعما يكابده المواطن من ظلم وقهر واحتقار ''حكرة"، ولا يتورّط في اتجاهات معينة، ويجتهد ما أمكن حتى لا يفقد مكانته العلمية والمجتمعية بدعوى أن هناك فئات أخرى مجتمعية تواكب الأحداث وتتفاعل معها، فمن هي هذه الفئات؟، لكن الوعي المجتمعي بدا يحس بمدى انتهازية هؤلاء النوع المثقفين، ووعوا بخوفهم من فقدان مناصبهم والمكانة النخبوية التي منحوها لأنفسهم، لأنهم تغافلوا هموم المجتمع، وأنكروا انتمائهم لهذا الأخير ولمختلف فئاته التي تعيش في مأساة يومية حقيقية، تحتاج لكل صوت مثقف يترافع من أجل مطالبهم العادلة والمشروعة بطرق مباشرة. وقد بيّنت العلوم الاجتماعية والنفسية أن المثقف على الرغم من تمتُّعه بقدرات فكرية ومعرفية مهمة، فهو أيضا له استراتيجياته الخاصة، فإذا ما نجح في الاندماج في السلطة، واختار نهائيا ولوج الحقل السياسي فإنه سيصبح غالبا ما سيصبح سياسيا محترفا.

كما أن بنية الأحزاب السياسية التنظيمية تهيمن عليها الثقافة العائلية واللوبية وخدمة مصالحها الضيقة ومصالح الفئة الحاكمة مما يحال دون أن يكون لهذا المثقف دور مهم في توجيه سلوك هذه الأحزاب، وقيادتها نحو بناء أفعال سياسية من شأنها أن تجيب عن معضلات المجتمع وعلى اعتبار المؤسسة الملكية فاعلا رسميا داخل المشهد السياسي، ومازال لا بموجب السلطة الرمزية ولا بموجب السلطات الدستورية مهندسا حقيقيا للسياسية الداخلية والخارجية، من خلال ترأسه للمجلس الوزاري كأعلى هيئة تقريرية في السياسات العامة للدولة ولا يمكن لهذا المجلس أن ينعقد حسب الفصل 48 من دستور 2011 إلا بمبادرة من الملك (فعل ذاتي مستقل) أو بطلب من رئيس الحكومة (فعل مقيد ومشروط) ، ومن خلال التوجيهات والتعليمات التي تضمها خطبه كخارطة طريق لمختلف السياسات العمومية والقطاعية مما يبعدنا أكثر فأكثر عن فصل حقيقي للسلط .

ضرورة تمييز النظام عن الدولة: في أسبقية الدولة عن الحاكم/ الحاكمين

إن الدعوة لإسقاط النظام ليس هو الدعوة لإسقاط الدولة وتخريبها لأنه شعار يعني إسقاط الحاكم وحاشيته، بمعنى تنحية الفئة التي تهيمن على مختلف أمور الدولة وفي نفس الوقت استمرار مختلف أجهزة هذه الدولة في أداء مهامها وأدوارها، وهنا نضيف أن محاولة إسقاط رأس هذا النظام (وهي جماعة وتكتل وليس فقط فردا واحدا) تؤدي دائما إلى صدام دموي، لأن هذه الفئة المسيطرة لا تقبل التنحي السلمي عن السلطة وستضحي بآخر جندي لديها حماية لاستمرارها، وحتى وإن أسقط الحاكم فسيعوضه بعد ذلك أحد من أفراد أسرته وبالتالي يتم إعادة نفس النمط من التسلط، وهو تجديد التسلط والاستبداد والعودة للنظام القديم، لأن حاشية الحاكم التي تمثل العمود الفقري لهذا النظام وأعمدته لم يتم الإطاحة بها، مما سيؤدي إلى تصادم من جديد قد يؤدي إلى انهيار الدولة كما حدث مثلا في ليبيا.

كما أن غياب أية إرادة في تحول جذري على المستوى سياسي، يساهم في تصحيح فعلي وعملي للتاريخ المرير الذي عاشه الشعب المغربي، ومن خلال إرساء وإحداث دعائم دستور ديمقراطي نابع من القواعد الجماهيرية والشعبية، وكذلك مشاريع اجتماعية واقتصادية حقيقية، فإن أي المجتمع سيعرف عاجلا أو آجلا صداما حادا إن لم نقل همجيا، ليس بين الشعب ومختلف أجهزة الدولة، وليس بين الشعب والشعب، بل بين الشعب والنظام السياسي الحاكم (5).

وتشكل أغلب الحركات الاحتجاجية بالمغرب قوى سياسية لها أسسها الفكرية وتصوراتها السياسية، وعلى الرغم من اختلافها فيما بينها بخصوص المرجعية والشرعية، إلا أنها تتلاقى في خط الإيمان بالكرامة والعدالة الاجتماعية والسياسية كأسس لا محيد عنها في سبيل بناء دولة قوية ومتماسكة، وبضرورة التوزيع العادل للثروة الوطنية، وبالقطع مع اقتصاد الريع ومع الممارسات البيروقراطية اللامنصفة للإدارة، فلم تعد الإدارة في خدمة المواطن والمجتمع، بل الإدارة كانت ومازالت خادمة للنظام السياسي، الذي يتشكل من أقلية شرعيتها تذوب شيئا فشيئا أثناء أي غضب شعبي و احتجاج جماهيري، هذا إن لم نقل أنها تفتقدها أصلا.

إن أي تفكير استراتيجي يتعلق بتغيير الأنظمة غير الديمقراطية، يستدعي قبل كل شيء فهم النظام المراد تغييره، من خلال الضبط المفاهيمي والدلالي لأدوات اشتغاله، لأن عدم الضبط الدلالي لأسس هذا النظام من مؤسسات ومنظمات موازية يحول دون تأسيس وتقعيد وعي حقيقي داخل المجتمع، و لا بد أن تضع في صلب تخطيطها التغيير السلمي والذكي لطبيعة النظام السياسي. وحتى تساهم في تغيير جذري للدولة، عليها أن تستوعب جيدا أن هذا التغيير يجب أن يمس ويشمل كل عناصر تلك الفئة القليلة التي تحتكر كل السلط والامتيازات، تجنبا للسقوط في فخ إعادة إنتاج نفس نمط الحكم القديم La reproduction de l’ancien régime ، ومن أجل أيضا توحيد القاعدة الاجتماعية بشكل سليم.

المراجع

(1) محمد فايز توهيل:"علم الاجتماع السياسي"، القاهرة، مكتبة الفلاح، 1999، ص: 167

(2)Abdellatif AGNOUCHE : "contribution à l'étude de la stratégie de légitimation du pouvoir" thèse de doctorat d'Etat soutenue en 1984 à la fac de droit de a l’université Hassan II de Casablanca, publiée sous titre"Histoire politique du Maroc: pouvoir, légitimités", Afrique Orient, Casablanca, 1987

(3) جلبير الأشقر: "الشعب يريد: بحث جذري في الانتفاضة العربية"، ترجمة عمر الشافعي، دار الساقي، بيروت -لبنان، ط1،2013 ، ص: 204-210

(4) محمد نصر مهنا: "في تاريخ الفكر السياسي وتنظير السلطة"، المكتب الجامعي الحديث، الأزاريطة – الإسكندرية، مصر، 1999، ص: 20-21

(5) Max Weber : Economy and society, 2 Vol, Berkeley, CA: University of California Press; 1978)


تعليق جديد

التعليقات المنشورة لا تعبر بأي حال عن رأي الموقع وسياسته التحريرية
شكرا لالتزام الموضوعية وعدم الإساءة والتجريح