المزيد من الأخبار






رسالتي إلى العالم: كيف اغتالت الإسلاموفوبيا أمي وأبي


رسالتي إلى العالم: كيف اغتالت الإسلاموفوبيا أمي وأبي
ترجمة: كعواس حميد

كنزة إسناسني، شابة مغربية تنحدر أصولها من الريف، وناشطة في المجال الإنساني و قضايا حقوق الإنسان، اشتهرت بالدفاع عن القيم الإنسانية، وارتبط اسمها بالدفاع عن القضية الفلسطينية، خصوصا بعد مشاركتها في "أسطول الحرية" عام 2010 لكسر الحصار الإسرائيلي على غزة وإيصال المساعدات إلى سكان القطاع، وكانت كنزة على متن سفينة "مافي مرمرة" التركية التي تعرضت للهجوم من قبل القوات الإسرائيلية، وتمكنت كنزة من النجاة بأعجوبة من الرصاص الإسرائيلي، وقضت ثلاثة أيام في سجون إسرائيل.

شاركت كنزة في عدة مشاريع وبعثات المراقبة في الفلبين وفلسطين و برامج عديدة لتعليم الأطفال في المناطق القروية في المغرب بما فيها منطقة الريف التي تنحدر منه. كما تعتبر مناضلة بارزة في مجال الحفاظ على البيئة.

وتتابع حاليا دراستها في سلك الماجستير في "العلاقات الدولية والدبلوماسية" وتتخصص في موضوع "السلام ودراسة النزاعات" بجامعة الأخوين بافران. كما تلقت تكوينا خلال الدورة الصيفية، في جامعة بيركلي العريقة.

وبعد الجريمة العنصرية التي عرفتها مؤخرا الولايات المتحدية الأمريكية، عندما أقدم مسلح أمريكي على قتل ثلاثة طلاب مسلمين أمريكيين بالرصاص، عادت كنزة إسناسني لتكتب رسالة مؤثرة إلى العالم تحكي فيها قصتها التراجيدية بعدما اغتالت الاسلاموفوبيا والديها، وتحكي كيف انبعثت من تحت رماد الحزن بفضل إيمانها القوي بالقيم الإنسانية التي يمثلها الإسلام، و نددت في رسالتها باستمرار أعمال العنف والكراهية وكررت دعوتها إلى بناء عالم تسُودُ فيه قيم الاحترام والتضامن والإخاء التي تمثل القيم الحقيقية التي تربطنا وتوحدُنا جميعا، عالم نعيش فيه بسلام وينبذ العنف بكل أشكاله.


وإليكم نص الرسالة المترجم:



إسْمِي كنْزَة، وُلِدتُ فِي بَلْجيكَا عَام 1983. وتنحَدرُ أصُولي من المَغرب، ويمكنني اليَوم أن أقول بكل فخر واعتزَاز بأنني بَلجيكية، ومَغربية أنحَدر من منطقة الريف، ومُسْلمَة ولكن قبلَ كلّ شيء أنا إنسَانة مُشْرَبة من عدّة ثقافاتٍ وتجَارب في العَالم. وكلّ هذا جعلني أكونُ ما أنا عليه اليوم.

نشَأت في مدينَة برُوكْسِل، في كنَف أسْرَة متحَابّة. تلقّيْت ترْبيّة تستجيبُ لمَنظُومَة من القيّم التي يَقومُ عَليها دينُ الإسلام. كنّا نَعيش في وسَط يَسودُه التواضُع، والبَساطة والمَحَبّة والإخَاء واحترَام الآخر.. نشَأت في برُوكسِل، وهنَاكَ تشكّلت ذاتي كموَاطنَة.. هناك ترَعْرَعْتُ في مُجْتمَعٍ مُتعَدّد الألوَان، مُتمَيّز بثرَائه الثقافي.

عِندَما كنتُ صَبيّة، لمْ أتوَقف عَن طرْح الأسئلة. وكنتُ شَديدَة الفُضُول لاكتشَاف كل الأشيَاء من حَولي.. عندمَا كنتُ صَبيّة، كنتُ أحْلمُ بأن أصبحَ فتاة بالغة وأحصُل على وظيفة تمكّنُني من توْفير المَوارد اللازمَة لأجْل مسَاعَدة المُحتاجين في جميع أنحَاء العَالم.. عندَمَا كنتُ صَبيّة، كانَ لي دفتر مذكرَات صَغير، أدوّن فيهِ كلّ الأشيَاء التي سَأنجزها عندَمَا أكبُر، كَي لا أنسَاهَا.. عندَمَا كنتُ صَبيّة، كانَت غُرفتي الصّغيرَة بمثابَة كوْني و عَالَمِي، حَيثُ كنتُ أكتبُ وأتخيّلُ دُونَ توَقّفٍ وانقطاعٍ كل الأفكَار التي رَغِبتُ في تحقيقها عندَمَا أكبُر. عِشتُ طفولتي وكلّي إحسَاسٌ عَميقٌ بأن أكونُ دَائماً محَاطة بأهلي لحمَايتي، ومحبوبة، حتى أمتلك بعد ذلك أجنحة تمكنني من التحْليق بحرية.

لكن وللأسَف، سَاءت الأَحوَال وتَدَهورت البيئَة التي كُنتُ أَعيشُ فيها بسَلامٍ، بسُرعةٍ فائقةٍ. وأصبَحت العَلاقات بينَ النَّاس متوَتّرَة للغايَة، يَسُودُهَا العَداء والْخِلاَفُ وَالْخِصَامُ. وامتدَّت آثار الهُجوم على مركَز التجارَة العالمِي في الولايات المتّحِدة عام 2001، وبلَغ تأَثِيرُه إلى أورُوبا بسرعَة. وما رافق ذلك من صُعود لليمين المُتَطرّف وتَنامِي موجات الاسْلامُوفُوبيا. وأصبَح يُنظَر إلى المُسلِمين باعتبارهم إرهابيّين مُحتَملِين.وكان هذا المُناخ من التَوَتًَر قد بلَغ ذروتَه القصوَى.

لقد سَلبَنِي هذا المُناخ المُلَوّث بمَشاعِر الكرَاهية والعُنف من أعَزّ وأغلى شَيءٍ أملكُه في العالم. ففي السّابع من مايُو عام 2002، تمّ اغتيّال أبي وأمي على يَدِ رَجُلٍ مدفوع بالكرَاهية والحِقد ورَفض الآخر. لقدْ قُتِلَ وَالِدَايَ حَوالي السّاعَة الرّابعَة صَباحاً أثناء تأدِيتِهما صَلاة الفجر. وقام القاتِل أيضاً بإطلاق رصاصاتٍ ناريّةٍ على أشقّائِي الصِّغار، ياسين ووليد، اللّذين كان يَبلُغان من العمر حِينَئِذٍ سِتّ سَنوات، وإحدَى عشر سَنة. ما أدى إلى إصابتِهما إصاباتٍ بَليغَةٍ جداً، لكنّهُم تَمكّنُوا من البَقاءِ عَلى قيد الحياة والنّجاة من هذِه المجزَرة الرّهيبة.

وهكَذا قرر القاتل أن يُنهي حياة أسرَتي كُلها. وقرر أن يسلبنا من حقنا في الحياة. لقد دمر هذا الرّجُل أسرتي بوحشية لا مثيل لها، ولم يكُن ثمّة أدنى شك في أنها جريمة كراهية. لقد هاجمنا هذا الرّجُل لأنه اعتبرنا لا ننتمي إلى اللون المُناسب الذي يرُوقُه، ولا نعتنق الدين الصحيح، ولأننا لا ننتمي إلى الثقافة الصحيحة. وبعد هذه المجزرة، أقدم القاتل على الانتحار في لهيب النار التي قام بإضرامها بنفسه. أما أنا فقد نجوتُ من الموت بأعجُوبة بعد أن قام أيضا بإضرام النيران في غُرفتي. قبل أن يتمكن احد جيراننا، يُدعى "جيرار بويك" من إنقاذي، والذي سيظل دائما بطلي.

لقد كان السابع من مايُو عام 2002، أفظع يوم في حياتي. ففي ذلك اليوم، عصف بي الغم وبلغ بي الحزن مبلغاً عظيماً حتّى ظننتُ أنني لن أقدِر على قهره أبداً. ولم يكُن عُمري حينئذ يتجاوزُ ال 18 ربيعا عندما أصبحتُ يتيمة. وحُرمتُ إلى الأبد من الحُب والعطف الذي يُكنّه لي والداي. وبعد هذه المأساة، اجتاحت عقلي تساؤُلات عديدة. كيف يُمكنني الاستمرار في عيش حياة طبيعية بعد هذه الصدمة؟ و كيف يُمكنني العيش في عالم لا يوجد فيه والداي؟ وكيف يُمكنني التغلب على هذه المأساة؟

صليتُ لله بكُل ما أوتيتُ من قُوّة للحفاظ على إيمَاني بوُجُود إمكانيّة في عالمٍ بديلٍ يَخلو من العُنف والكراهيّة، وآمنتُ بأن السّلام يُمكن أن يكُون واقعاً إذا ساهم كُل واحدٍ منّا لتحقيق هذه الرّؤية المُشتركة.

في السّنوات التي تلًتْ مَقتل أمّي وأبي، حاولتُ أن أجدَ مكاناً لي داخل النّظام الطبيعي للعالم. وحاولتُ أن أفكّرَ فيما له معنًى بالنّسبة لي. كُنت مُقتنِعة بضرورة السّير على دَربِ الكِفاح والنّضَال من أجل تكريم ذِكرَى وَالدَاي. شعرتُ بأنّني أمَام مسؤوليّة إيصال قصّة أسْرَتِي إلى العالم.

أردتُ أن أجعلَ العالم يعرفُ بأن والدَايَ قد كانا ذات مرّة بَينَنا، وأنّهما سَاهَما في بنَاء مُجتمَعٍ عادلٍ ومُتسامح. كافحتُ من أجل ذكرَى والدَاي لكي لا تتكرّر مِثل هذه المأساة مرة أخرى. كافحتُ بكل ما أوتيتُ من قوّة لتكون هذه المَأسَاة دَرساً.

اضْطررتُ لمواجَهةِ الكثيرِ من الاحباطات، ولكن صادفْتُ أيضاً الكثير من الحُبّ والإخاء والتّضَامن والاستفادة من دُروسِ الحَياة. تعلّمتُ أن أكُون مُتواضِعة تُجاهَ الحياة لإعطائها معنًى. قمتُ بعِدّة رحلاتٍ إنسانيّةٍ في سبيل البحث عن الحقيقة. أردتُ أن أفهم كيف تحدثُ كُل هذه الصراعات في العالم، وكيف يُمكن لشخصٍ أن يَحمِل في يَده بُندقيّة ويَقوم بإطلاق النّار على إنسان آخر. تركتُ نفسي ترشُدني نحو ما يبدُو منطقياً بالنسبة لي. وكان التزَامي تجاه فلسطين أفضل درسٍ تعلمتُه في حياتي. ذهبتُ إلى فلسطين لأكُونَ قريبة من مُعاناتِهم وبالتالي فهم مُعاناتي الخاصة. لقد علمني الفلسطينيون أن أبقى كريمة على الرّغم من كُل المُعاناة والألم. وأنا مُمتنة كثيرا لهذا البلد، لأنهُ جعلني أقوى وأكثر عزماً وتصميماً في التزامي من أجل بناء عالم أفضل.

أدركتُ أيضاً أن العُثور على أجوبَة لأسئِلتي سوف يستغرقُ وقتاً طويلاً، وفوق كُل شيء توجّب عليّ مواصَلة الكِفاح من أجل إيجاد السّلام الدّاخلي ذات يوم. وأدركتُ أنني سأضطر لمواجهة لحظاتٍ من الشّكّ والإحْباط، لكنّني لم أستسلم بتاتاً، ولن أستسلم أبداً، من أجل بُلوغ الحقيقة، ومن أجل نشر رسالة الأمل الحقيقية التي توحّدُنا جميعاً. قد يبدُو الأمرُ غيرُ واقعيّ بالنّسبة لكثيرٍ من النّاس لأنّنا ما نزال نُواجه، وسنستمر نُواجه الكثير من العُنف. وإذا كُنتُ قد اخترتُ عدم الاستسلام، فليس فقط من أجل المقاومة ولكن أيضاً لأنّني أُدرِكُ جيداً أنهُ لا يُوجدُ أحدٌ في مَأمنٍ من مثيل هذه المأسَاة. انّه من غير المُطاق رُؤية اللامُبالاة والصّمت إزَاءَ استمرار أحداث العُنصريّة والعُنف التي تتصدّر العناوين الرئيسيّة. وإذا كنتُ، اليوم، قد اخترتُ عدم الغرق في الكراهية، فلأنّني مُقتنعة بأن الحُب الحقيقي والرّحمة والاحتِرام هي القيّم الوحيدة التي من شأنها أن تجعل السلام واقعا ممكناً للبشرية جمعاء.

يَقول غَانْدِي: "كُن أَنتَ التَّغيِير الَّذي تُرِيد أَنْ تَرَاه في العَالَم". لَقَد تَرَدَّد صَدَى هَذِه المَقُولَة كَثِيراً فِي ذِهْنِي. لِذَلك عُدت إِلى ذاتِي، لأَجْعَل مِن كَينُونَتي إنساناً، ومِن أجْل تعزيز قناعاتي، ومن ثم مُشاركتها مع كُل العالم .بقيتُ مُتمسكة بإيماني، وديني وقيم السلام والمحبة التي يُمثلانها. وبفضل هذا تمكنتُ من إيجاد السلام الداخلي. وعندما نشعرُ بهذه الطاقة الروحية، فلن نخاف أبدا، ولن يُكون هناك داع للخوف. وهذا هُو الوازع الذي يربطني بديني. وهذا هو المعنى الحقيقي للإسلام.

وما أحوجنا اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى التواصُل والحوار، ونُدرك أن ما يُوحدُنا جميعا هو إنسانيتُنا. ويجبُ أن نتعلم كيف نُكونُ قادرين على تقبل أنفسنا وبعضنا البعض كما نحن، مع اختلافاتنا وقيمنا. وهذه هي الرسالة التي أعيشُ لأجلها.

تحزنُ رُوحي كثيرا عندما أشاهد استمرار حُدوث جرائم الكراهية وتنامي الاسلامُوفُوبيا. وتحضُرُني أفكار خاصة تُجاه ضياء بركات، و يُسر ورزان أبو صالحة، هُم ثلاثة من الشباب الأميركيين المُسلمين الذين قُتلوا في ولاية كارُولينا. بعد هذا الحدث الرهيب، لم أقدر على الكلام وبقيتُ مصدومة لعدة أيام. وعادت جميع صُور المأساة التي عشتها مع عائلتي لتستحوذ على عقلي. شعرتُ وكأني أستعيدُ مأساة ذلك اليوم الذي دخل فيه المُجرمُ إلى شقتنا لقتل والداي. وهذا يعني أن هذه الجريمة يُمكن أن تحدُث لأي شخص آخر. وأن لا أحد في مأمن من هذه المأساة، فالحقائقُ تتحدثُ عن نفسها. ولهذا السبب على الجميع تحمل المسؤولية. سواء تم استهداف مسجد أو كنيسة أو معبد يهُودي، وصار لزاما علينا جميعا أن نغضب من كُل هذه الأفعال وندينها بنفس الحزم.

وها أنذا اليوم، أشاركُكُم تجربتي لأنني واثقة من أنه لكُل منّا دورٌ يقوم به. وأنا على يقين أن كُل واحد منا يُمكن أن يُساهم في بناء صرح هذا العالم الآخر الذي أؤمن به. في بناء عالم حيثُ تسُودُ قيم الاحترام والتضامن والإخاء التي تمثل القيم الحقيقية التي تربطنا وتوحدُنا جميعا.

أصبحت اليوم امرأة، لكنني تمكنتُ من أن أكون تلك الفتاة الصغيرة كما كُنت من ذي قبل. لقد أردتُ فقط أن أجد تلك البراءة مُجددا، ذلك الوجه الطفولي العجيب للأشياء الجميلة التي تهبُها لنا الحياة. لقد كُنتُ قلقة من أن يقهرني الحُزن فيما تبقى من أيامي. سيظل والداي حاضران دائما في صلواتي وأعمالي. وسأسعى لتكريم ذكراهما لبقية أيامي.










تعليق جديد

التعليقات المنشورة لا تعبر بأي حال عن رأي الموقع وسياسته التحريرية
شكرا لالتزام الموضوعية وعدم الإساءة والتجريح