المزيد من الأخبار






المقاومة في المسرح الأمازيغي بالريف


المقاومة في المسرح الأمازيغي بالريف
الدكتور جمال الدين الخضيري

المدخل

كان المسرح منذ بداياته الأولى مرتبطا بمحيطه وإفرازا طبيعيا لواقعه. فجاء معبرا عن قضاياه، ومُفصحا عن همومه وأماله كباقي الفنون التعبيرية الأخرى. ولعل أهم ما يميز فن المسرح هو الصراع المتحكم فيه بشكل كبير، حتى غدا هذا المكون عنصرا أساسيا في الخطاب المسرحي. فلابد من قوات متصارعة، ولا مندوحة عن رؤى مختلفة تجاه العالم، وثنائيات ضدية مجسدة لتعارض الشخصيات واختلاف المواقف. وهذا الصراع كفيل بأن ينتج لنا صداما وتشابكا يتخذ مستويات عدة. ويعج الريبرتوار العالمي بمسرحيات من هذا النوع تعبر عن هذا الصراع في شكل حروب ومواجهات ونضال ومقاومة. بل يمكن أن نعتبر المسرح منذ فجره الأول سجلا وديوانا يوثق لوقائع وأحداث عرفتها المجتمعات التي ظهر فيها. ولا غرابة أن نجد المسرحيات الغربية الأولى التي وصلت إلينا تنحو هذا المنحى. فمسرحية "الفرس" التي ألفها إيشيل في القرن الرابع قبل الميلاد، والتي تصف الحروب الميدية الدائرة رحاها بين الفرس واليونان طيلة سنوات عديدة تنتمي إلى أدب المقاومة، إذ مجد الشاعر اليوناني ايشيل في مسرحيته نضال بلاده وانتصارات أبطالها. فمن الطبيعي إذن أن يكون المسرح منبرا ملائما للحديث عن المقاومة وعن سجلات أبطالها وعن قضايا تاريخية وتراثية مختلفة، لما يكتسيه هذا المنبر من أهمية وجدوى، ولكونه مؤسسة سوسيوثقافية مؤثرة في المجتمع، ويستقطب الجماهير ويتواصل معهم بشكل مباشر، كما أن طبيعة هذا الفن وتركيبته المتسمة بالصراع والتوتر والسيرورة يبدو قالبا ملائما لهذه التيمة. والحق أننا عندما نتحدث عن أدب المقاومة ودوره الكبير في الدفاع عن مقومات الوطن، نستحضر المسرح بشكل أساس ومتميز. لذا نرى مجموعة من رجال المقاومة الذين وقفوا في وجه الاستعمار مارسوا المسرح واهتموا به وكتبوا نصوصا مسرحية تبرز خصوصية الذات المغربية وتدعو إلى مقاومة الاستعمار، وهذا "ما يفسر أن يكون عبد الخالق الطريس زعيما ومناضلا وخطيبا ومسرحيا. وهذا أيضا ما يفسر لأن يكون المهدي بنبركة رجل مسرح ورجل سياسة ورجل خطابة، نفس الشيء يمكن أن نقوله بالنسبة لمحمد القري الذي دفع حياته من أجل دوره النضالي والمسرحي، وهما دوران متلازمان ومتحدان سواء قبل الاستقلال أو بعده"(1). وفي هذا السياق أذكر حادثة طريفة، تبين الدور الخطير الذي اضطلعت به الفرجات ومختلف الفنون التعبيرية في تبليغ الرسائل والتأثير على المتلقي، سيما في وقت قَلَّتْ فيه وسائل الاتصال، وعرفت فيه البلاد أحداثا جساما ووقائع خطيرة تحتاج إلى منابر وأبواق لترويجها وإيصالها لمختلف التخوم والأنحاء. وهذه الحادثة تتعلق بتمثيل شخصية الجيلالي بن عبد السلام بن إدريس اليوسي الزرهوني المعروف ب(بوحمارة) في كرنفال بمدينة مليلية كما هو وارد في جريدة )لوبوتي جورنال Le Petit Journal) (2) الفرنسية الصادرة في 27 ماي 1906 . وكما هو معلوم فإن بوحمارة حاول أن يظهر بصورة الممثل للسلطة المغربية والمقاوم للاستعمار الأجنبي، والمُفاوض الرسمي على الشأن المغربي، ولقد سعى إلى تلميع صورته بشتى الوسائل مستعملا الفن نفسه لهذا الغرض فلجأ إلى الشعراء والمغنين للإشادة به والترويج لمشاريعه. لكن المثير أنه تم تقويض صورته والسخرية منه بواسطة الفن أيضا، كما أشارت إلى ذلك الجريدة الفرنسية السالفة الذكر بعد أن عمد مواطن يدعى (بلقادر بن عمار) وهو مترجم قاطن بمليلية، وكان معتادا على مخالطة الفئات المرحة بالمدينة، "وبمناسبة احتفالات الكرنفال المقامة من قبل الجالية الاسبانية، جال موكب فرسان مليلية مشخصا أنصار السلطان عبد العزيز من جانب وأنصار المطالب بالعرش من جانب آخر. وضمن الموكب الساخر كلف بلقادر بتقمص شخصية المطالب بالعرش، وهو ما فعله لتسلية المتفرجين. وفي الواقع، فإنه جسد المطالب بالعرش بشكل كاريكاتوري، كما قام بكثير من الحركات البهلوانية الممتعة جدا"(3). والظاهر أن لهذه الفرجة وقعا قويا في نفسية بوحمارة، إذ أقسم بأغلظ الأيمان أن ينتقم من الرجل الذي سخر منه وشوه صورته أمام الإسبان، وهو الذي سعى جاهدا أن يبدو رجلا مطاعا وقويا ومحترما في مغرب مضطرب ومنفلت. وبالفعل، لقد تربص بالمترجم والممثل الكرنفالي الساخر حتى اجتاز أبواب مليلية لزيارة أصدقائه وتم أخذه إلى معسكر بوحمارة، "هناك، وبدون محاكمة، ورغم مقاومته، تم غلّ الرجل إلى فوهة مدفع أُلقم أمامه. وبعدها، وبأوامر من الزعيم، أطلقت كرة المدفع لتتناثر أشلاء جسد المسكين في الهواء"(4). وفي اعتقادنا أن بلقادر يعتبر صريع الفرجة الشعبية في الريف إبان الفترة الحديثة، ومن الذين جنى عليهم فنهم وزج به في أتون مدفع.
وعلاقة بهذا الموضوع المتمثل في الفرجات ذات الطابع الكرنفالي والتي تستغل أحداثا سياسية أو تحاول أن تكرس فعل المقاومة سواء بالإشادة بها إذا كان الأمر يتعلق بالذات، أو استهجانها والسخرية منها إذا كانت صادرة من العدو، وارتباطا دائما بالمقاومة الأمازيغية للمحتل الإسباني وهذه المناوشات المتبادلة بين الطرفين، وحالات الكر والفر السائدة بينهما يذكر لنا خوسي بوادا إرومو José Boada y Romeu في كتابه: (Allende al estrecho ; viajes por Marruecos 1889-1894) الاحتفالات المتعلقة بأعياد الميلاد ، إذ كانت تدور أحداثها ليلا، ويصف لنا بالتحديد فرجة كرنفالية أقيمت في إحدى الليالي من أواخر ديسمبر بمدينة مليلية المحتلة، وابتدأت من الساعة العاشرة ليلا، تخللتها أضواء منتشرة، وأنغام قيثارات، أغاني بمختلف اللهجات تسمع في كل اتجاه (Los cantos en todos los dialictos oianse por doquier). وهذه الفرجة عبارة عن مواكب ساخرة (Las compansas ) تتكون من جنود متنكرين في زي مغاربة ريفيين، أو ما يفضل الكاتب إطلاق عليه (المورو) بواسطة أغطية رقيقة (Soldados disfrazndos de moros con sabanas) ساخرين من (المولى عرفة) شقيق سلطان المغرب والمبعوث من قبله، القادم إلى مليلية قصد التفاوض مع القائمين عليها حول الاعتداءات المتكررة من قبل الإسبان على الأهالي واستباحتهم لأراضيهم، وإمكانية الدخول معهم في هدنة. وهكذا نجد من يتقمص دور المولى عرفة وهو يمتطي جحشا من جانب ، ومن جانب آخر نجد موكبا متكونا من عدة أفراد من المورو حاملين المشاعل، وعندما يصلون إلى خيمة الجنرال مرتنيس كامبوس Martinez Campos يقدم ممتطي الجحش نفسه أنه يتقمص دور المولى عرفة ومن ثم يرغب في مقابلة الجنرال والتفاوض معه. يخرج الجنرال من الخيمة ضاحكا وتاركا الجندي كي يسترسل في تمثيله بمكر وهو يقول: لا تخف يا جنرال، لن تكون هناك حرب، لقد قطعت رؤوس كثير من الثوار No tengas miedo, general, no habra guerra. !yo cortar muchas cabezas de rebeldes !.
يضحك الجنرال ويأمر بتوزيع الحلويات والسيجار الهافاني على الجنود(5).
فليس غريبا أن تأتي هذه الفرجات سواء كانت في مليلية أو في باقي مناطق الريف حاملة لطابع المواجهة وسخرية كل طرف ببعضه الآخر. فالعلاقة السائدة بينهما في الثغور هي علاقة مواجهة وإقبال وإدبار ومناوشات متكررة ودموية.

انتقام بوحمارة من الممثل الذي استهزأ به كما صورته الجريدة الفرنسية

المقاومة والأشكال الفرجوية الأمازيغية

تكاد تكون المقاومة وكل ما تقتضيه من ارتباط بالأرض ودفاع عن قيم الحرية والنبل سلوكا يوميا لدى الأمازيغ، وطقسا ممارسا في مختلف المظاهر الاحتفالية واللعبية والفرجوية. فالإنسان الأمازيغي مرتبط ارتباطا كبيرا بأرضه. فالأرض لا تكمن قيمتها فيما هو مادي أو اقتصادي بحرثها واستغلالها، أو حتى بيعها. إنها تعادل الشرف والكينونة وتعطي معنى لوجود هذا الإنسان La terre est source de tout honneur(6). فالأرض عند الأمازيغ حسب رايمون جاموس ليس حيزا جغرافيا ينتمي للطبيعة، لكنها ذات بعد اجتماعي( un objet social) لذلك فهي تصل إلى درجة التقديس، والدفاع عنها بالغالي والنفيس، ولعل هذا ما يرسخ المقولة الشهيرة لدى الأمازيغ سكان قلعية حسب جاموس دائما بأنهم يتشابكون فيما بينهم عندما يتعلق الأمر بالأرض والنساء : Les Iqar’iyan disent qu’ils s’affrontent entre eux pour des questions de femmes et de terre. وأكيد أن التشابك مع المحتل الغازي هو أفتك وأشد ضراوة، ويضطلع به الجميع. ولعل في تاريخ المقاومة الأمازيغية عبر التاريخ خير دليل على ذلك. واللافت للانتباه أن الأشكال التعبيرية والفنية الأمازيغية جاءت حاملة ومعبرة عن قضية المقاومة والدفاع عن الذات والهوية.

فرجة الحرب أو لعبة البارود

من أهم الفرجات التي كانت سائدة في عدة مناطق من الريف خصوصا عند بني سعيد، وتمسمان، وقلعية، وبني ورغايل، فرجة الحرب أو التي يطلق عليها بالأمازيغية "أباروضيين". وكانت تقام هذه الفرجات بمناسبة الأعراس، والعقيقة، والختان، والوعدة. وهي عبارة ألعاب للمناورة والتدرب على العراك من قبل الفرسان وأفراد القبيلة دون استعمال للجياد. يتم فيها إطلاق النار في الهواء. لكن تختلف اختلافا كبيرا عن ألعاب الفانتازيا العربية التي تستعمل فيها الجياد والتي تسمى في المغرب ب"التبوريدة". ولقد تنبه إلى ذلك الاثنوغرافي الأمريكي دافيد هارد قائلا في وصفه لهذه الفرجة "ولم يكن هؤلاء يستعملون الجياد، كما هو الحال بالنسبة للطريقة العربية التقليدية التي تسمى لعب البارود والتي أعطاها الفرنسيون ترجمة ناقصة هي الفنطازيا والتي لازالت تمارس إلى يومنا هذا في مناطق أخرى من المغرب ... وصف لنا الريفيون رقص إباروضين كتمثيل متقن للمناورات الحربية، بينما الطريقة العربية للعب البارود فوق الجياد، أو كما أصبحت في الوقت الحاضر على الأقل، مجرد سلسلة من الرهانات تؤديها مجموعة من الفرق المتبارية يتم اختيارها بشكل ارتجالي من أجل جوائز مالية، وذلك خلال مناسبات احتفالية"(7). وهذه الفرجة هي عبارة عن احتفال، إذ تذبح الذبائح، وتولم الولائم، وعرضها يكون في الخلاء والأفضية المفتوحة، لذا فهي تستوجب "مكانا ملائما خارج القرية هو عبارة عن حقل للمناورة، يسمح للمتعاركين بالتحرك كما يشاؤون"(8).
قبل الخوض في الحركات الاستعراضية الدالة على القتال تقرع الطبول، وتعزف نغمات الناي، وينشد الموسيقيون أشعارهم التحفيزية، كما تتولى النساء نظم أهازيجهن الريفية تُرتجل لهذه المناسبة. ويشير مولييراس إلى أن هناك تعاقبا بين العزف الموسيقي وبين الإنشاد الشعري لينتهي الأمر إلى تشابك المحاربين وتقدّم بعضهم تجاه البعض الآخر في فرقتين متقابلتين ملتقين في مركز الدائرة وهم يصيحون بحماس:
( Aouith ithid ! Aouith ithid ! a afrakh : احملوه.. احملوه يا صغار)
يكون هذا مرفوقا بطلقات نار بندقياتهم. ويتابع المشهد جمهور كبير مشكل بالإضافة إلى الكبار من الأطفال والنساء(9).
إن هذه الفرجة تحمل أكثر من معنى، وترسخ روح الدفاع عن القبيلة والأرض، والاستعداد للقتال والمقاومة في أي لحظة. إنه نوع من الخلق لمعركة افتراضية، لكن بصيغة احتفالية يشارك فيها الجميع. وما الاحتفال إلا نابع من خصوصية المكان والزمان. ففي عمق الملهاة نؤسس لكينونتنا، ونرسخ جديتنا، ونؤرخ واقعنا ونستشرف مستقبلنا، ونصوغ ذاكرتنا الماضية والآنية، فبقدر أجواء الحرب السائدة فيه، تبرز فيه بشكل متوازن قيم الحب والتغني بالمرأة وبث قصائد الغزل. فلا لعب اعتباطي خارج شروطه التي تنتجه. فالفرجة/ اللعب هنا استعادة للتاريخ، ولغبار معارك منصرمة، وفي الوقت نفسه استباق للآتي واستعداد له بإصرار وإثبات ذات بكل ما تحمله هذه الذات من خصوصية وغنى. ويكفي أن نذكر هنا ما سجله إيميليو بلانكو وهو يرصد هذه الفرجة بإعجاب كبير، وهو الذي كان مقيما عسكريا، ورساما، وباحثا إثنوغرفيا، لمدة طويلة بالريف، في كتابه القيم las danzas refinas الرقصات الريفية، إذ يقول: "ويصبح هذا العرض في هذا البلد الشجاع ليس كوسيلة للتسلية لأفراد القبيلة فحسب، بل أيضا كمدرسة طبيعية رائعة تتعلم فيها الأجيال الجديدة من الكبار وتحافظ على روحهم المحلية والقبلية وتعززها بشكل فعال"(10). والظاهر أن هذه الفرجة انقرضت كباقي الأشكال الفرجوية الأخرى، والسبب في ذلك يعود إلى كون الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي قد منعها حفاظا على البارود المستعمل فيها، حتى يوفره لحربه ضد الاستعمار الإسباني، وتفرغا للجهاد ولقضية الريف السامية.

إحدى الصور الملتقطة لريفيين يمارسون لعبة البارود

وفي السياق نفسه يذكر لنا الكاتب الإسباني بسينتي موغا روميرو متحدثا عن أبحاث وأرشيف إيمليو بلانكو المرقون وإسهاماته في مجال رصد مجموعة من الفرجات ذات الطابع القتالي والمجسدة لفعل المقاومة لاسيما طقوس الصيد الجماعي والاحتفالات المتعلقة به (la caceria) مشيرا بالتحديد إل قبيلة بقوية وممارستها لهذا الطقس والذي يتزعمه المُسمّى عبد السلام محمد صدّيق. ولقد كان فعلا إلزاميا لكافة القادرين عليه في القبيلة لدرجة أنه يغرم كل من تخلف على ذلك. وكان يُخصّص يومان في الأسبوع (الإثنين والسبت) لممارسة الصيد واللعب المرفق به. ويخلص الباحث إلى أن هذا الصيد فرجة غريبة بحيث يمتاز باصطدام العصي في الهواء، وهي إشارة إلى الحَجْلة المنتوفة الريش التي تم قنصها
(un espictaculo unico, el choque de garrotas en el aire, cinendose a la perdiz desplumada)
وتُحترم في هذا الطقس المنازل المنعزلة وأملاك الغير لدرجة أنه أثناء قنص فريسة ما في حقل تابع لأحد أفراد القبيلة تُرمى داخل فنائه، ويتم حظر القنص قرب المقابر والزوايا والمساجد، والابتعاد عن البيادر أثناء موسم الدرس(11). وهو ما يؤكد أن مجموعة من الأعراف والقوانين كانت تخضع لها هذه الممارسة المنظمة، سيما وأنها كانت واجبا جماعيا تقترب إلى نداء الحرب.

فرجة الحرب الريفية بريشة الاثنوغرافي الإسباني إيميليو بلانكو

وإذا ما انتقلنا إلى المسرحيات المكتوبة بأمازيغية الريف نلقى تيمة المقاومة وما يرتبط بها من هوية وتاريخ وعادات وتقاليد تكاد تكون السمة البارزة لهذا المسرح، لدرجة أن بعض العروض المسرحية تبدو مثقلة بما يسمى بالفيض التراثي واستدعاء الشخصيات التاريخية والرموز الثقافية سواء على مستوى التيمات أم على مستوى الرؤية الإخراجية، فكثير من المسرحيات الأمازيغية تنزع إلى تأثيث عروضها بمكونات تراثية تبدو أحيانا معرقلة وفائضة عن الحاجة. وسنكتفي هنا بتسليط الضوء فقط على العرض المسرحي (أرياز ن وارغ: رجل من ذهب)، لأنه تفرغ لتيمة المقاومة الريفية، وفاز بجوائز عديدة. وتجدر الإشارة إلى أن نص هذه المسرحية تمت معالجته دراميا برؤيتين إخراجيتين: إخراج فخر الدين العمراني، ثم بعد ذلك تناوله المخرج فاروق أزنابط بمنظور فني آخر. وسنقتصر على عرض المخرج أزنابط في هذه المقاربة.

المسرحية الأمازيغية: رجل من ذهب ثنائية الحب والمقاومة

تتناول مسرحية رجل من ذهب، والتي هي من تأليف محمد زاهد، وإخراج فاروق أزنابط، وقد شخصتها نخبة من ألمع ممثلي الريف مرحلة حرجة من تاريخ المقاومة المغربية، مقاومة سكان الريف للاحتلال الاسباني، وهي مقاومة كانت بمثابة الشرارة الأولى التي ألهبت حماس باقي المقاومين شرقا وغربا. فالريف كان سباقا إلى رفض الاحتلال في بداية القرن الماضي بجميع أشكاله وخاض سكانه حربا ضروسا ضد الاحتلال، وتكبد فجائع عديدة انتهت باستعمال أسلحة محرمة ضده وغارات سامة مازال يعاني من تبعاتها إلى حدود اليوم. وفي المقابل بَصَم صفحة النضال الوطني بمداد من الفخر وحقق انتصارات مدوية أذهلت العالم.
فالمسرحية تحيلنا من خلال عنوانها (أرياز ن وارغ) إلى الزعيم الريفي محمد بن عبد الكريم الخطابي رمز المقاومة ومهندسها وصانع انتصاراتها بمعية باقي المجاهدين. إنه بحق من طينة ذهبية. وتبدأ أحداث المسرحية منذ الوهلة الأولى بمشهد لأسرة أمازيغية بزيها المحلي المميز وبعاداتها وطقوسها اليومية المرتبطة أساسا بالأرض من قبيل طحن الزرع في المهراس وتنفية الحبوب وتنخيلها في وسط الفناء. ويسود بين الأسرة المكونة من ثلاث نساء حديث حول الشأن المحلي تقوده الأم (الوازنة). ولخلق صراع مضاعف ومتنوع لجأت المسرحية منذ أنفاسها الأولى إلى الاعتماد على مقوم عاطفي تجلى في مشاهد حب بين شخصية (عمرو) وشخصية (خدوج) المنهمكة في ملء جرتها من البئر، وبمجرد أن يلوح عمرو يبادر إلى التغزل بها، وطلب يدها، وينخرطان بعد ذلك في تبادل عبارات الإعجاب. والآبار أو أماكن جلب المياه يشكل دائما في المجتمع الأمازيغي ملتقى للنساء، ومن ثم مصدرا للرجال قصد رؤية النساء والتودد إليهن، وخطبتهن لاحقا. وبشكل متواز نجد مقوما آخر هو مقوم الحرب والمواجهة. لذا فإن الدافع نحو الفوز بالحبيبة يستوجب توفير الأمن لها ومقاومة المحتل. فالدافع هنا دافع مركب مادام هناك تمسك بالحبيبة وتمسك بالأرض اللذين هما وجهان لعملة واحدة، وكل واحد منهما يحيل إلى الآخر. لكن العدو بدوره عدو مركب ومضاعف. فمن جهة نجد الجنود الإسبان، ومن جهة ثانية نجد أذناب الاستعمار وعيونه المبثوثين في الريف، و يجسدهما في المسرحية كل من (أقرقاش) و(بويوزان). وأمام عزيمة المقاومة كما هو متجل في المسرحية فإن الانتصار أو الاحتفال كان مضاعفا بدوره. احتفال بالانتصار الساحق في معركة "أدهار أبران" واحتفال بزواج عمرو من خدوج. وهما فعلان متزامنان وجريا في وقت واحد. إذاً ، فإننا نجد أنفسنا مع سلسلة من الأحداث المضاعفة والمركبة والتي استوجبت بدورها ردودا مضاعفة، وهو ما أعطى للمسرحية شحنة قوية وصراعا مركبا، وسيرورة في وقائعها، وجمعت بين التراجيدي والاحتفالي.
وما يلفت انتباهنا في هذه المسرحية أن الفضاء الدرامي المتعلق بالمعركة (معركة دهار أبران) فضاء متخيل يحيل إليه صوت أحد الممثلين من وراء الكواليس، مناديا في الوهلة الأولى، ومخبرا عن غزو الجنود الإسبان ووصولهم إلى موقع المعركة، وحاثا السكان على توخي الحذر والاختباء، ويستمر في ندائه كاشفا عن أسماء الشهداء الريفيين. وفي الوهلة الثانية يبشر الناس بالانتصار الساحق الذي أحرزه المجاهدون في المعركة. فتصوير أجواء المعركة يتم عن طريق التلفظ فقط، وليس عن طريق التشخيص الذي يتطلب اشتباكا ورؤية إخراجية تقسم الخشبة وتؤثثها وتملؤها بما يجب من شخوص وديكورات، وما يرافق ذلك من مؤثرات صوتية وإضاءة. والحقيقة أنه في الحرب الحديثة لا يتم الالتجاء إلى الالتحام المباشر وإلى البطولات الفردية المفعمة بالفروسية، فغالبا ما يتم اللجوء إلى وسائل تكنولوجية متطورة، لذا فإن المسرح الحديث بدوره لا يسعى إلى تجسيد المعارك وتشخيصها في تفاصيلها، وإنما يحيل إليها بطرائق مختلفة، من قبيل المسرح التسجيلي المعتمد أساسا على تقنية السينما والاستعانة بالشاشة، أو الصور الوثائقية، أو مختلف المؤثرات الصوتية عن طرق البلاي باك، أو الحكي، والالتجاء إلى تقنية السرد بواسطة الراوي. فتدخل الراوي في المسرحية واصفا ومعلقا على الأحداث كان بمثابة البؤرة التي اختصرت أحداث المسرحية وأبرزت بنيتها العميقة. وحتى نأخذ فكرة واضحة عن ذلك نسرد تلفظه فوق الخشبة، وهو تصور يشير إلى ما بعد المعركة ويختزل مآل المقاومة الريفية وسيرورتها في محيطها والمؤثرات التي أثرت فيها، وذلك بلغة موحية ورمزية جميلة، إذ يقول الراوي ملتحفا ببرنس، تََسلَّط عليه إضاءة زرقاء حالمة، مخاطبا الجمهور: "صراخ النساء والأطفال، الزغاريد، البنادق، البارود، القنابل، جموح الخيل.. لقد هبت الريح. ريح هذا الزمان عوراء لا تعرف اتجاهها، صمّاء. ريح هذا الزمان نزعت الأب عن ابنه، المرأة عن زوجها. ريح هذا الزمان سرقت الابتسامة من أفواه جميع الناس.. لقد خرج المستعمر الإسباني من (دهار أبران) وخلف وراءه: هذا جنرال، وذاك قبطان، وهؤلاء جنود، وهذا جاسوس. ترك وراءه أذانه وعيونه ووجهه، آملا في الرجوع من جديد.. يُحَلّق في السماء مع الغربان، ويهيئ نفسه للعودة.. هذه هي حكاية دهار أبران". المسرحية تكشف أن أطماع الاستعمار لا تتوقفن رغم انهزاماته وانتكاساته، فهي متجددة في الزمان والمكان وبوسائل مختلفة، ولعل الأمازيغ لهم تجربة مريرة مع الأطماع والتدخلات الأجنبية المتعاقبة على البلاد، ووفقا لهذا فالمقاومة لا تتوقف ومتجددة أيضا . ومن أهم أشكال المقاومة التي لا يعتريها البلى ولا الاضمحلال، والتي تضمن كينونة واستمرارية هذا الإنسان هو التشبث بالهوية والتقاليد والغنى الحضاري المتوارث والتّليد. لذا نجد في هذه المسرحية وفي المسرح الأمازيغي عموما هذا البعد بارزا بقوة. ففي الوقت الذي لجأت فيه المسرحية إلى تصوير المستعمر كقوة وجيش نظامي، وتجلّى ذلك في الجنود بزيهم العسكري، والضباط، وغرف التحقيق، وإصدار البيانان، ...، لجأت كذلك إلى إبراز المقومات الحربية الأمازيعية المستعملة في هذه المسرحية، والتي هي غير ظاهرة وغير مادية، إذ أنها عبارة عن (تراث لامادي) يكرس الهوية وغارق في المحلية. بل تم اللجوء إلى سلاح الجنون الذي ادعاه عمرو حتى لا يلفت أنظار العدو إليه. وهو نوع من التمويه، أي أنه خدعة حرب. وعمرو هو منسق أساسي للمجاهدين، ومكلف بتزويدهم بالأسلحة، وإيداعها في أماكن سرية، لذلك في نهاية المسرحية يتم اعتقاله بعد كشف أمره، واستنطاقه، وموته تحت جحيم التنكيل والتعذيب. ومن مقومات المقاومة الأمازيغية سطوة وسحر المكان. فالمكان بدوره غير محايد ومنحاز للمجاهدين، فهم أدرى بجغرافيته، وخير دليل على ذلك جبل (أبران). فقد لجأت المسرحية إلى توظيف أنشودة المقاومة المعروفة بملحمة أدهار أبران التي تتغنى بهذه الانتصارات، وهي بمثابة سجل تاريخي يحكي مجريات الأحداث الحربية، ويعكس جزءا من ذاكرتنا الجماعية المنسوجة في هذا الديوان المشترك والشفهي. والظاهر أن هذه الأنشودة كشفت عن نفسها في أول بيت شعري من خلال ذكر المكان والإشارة إلى الأرض، باعتبارها قطب الرحى. ولقد تطرقنا من قبل إلى ثنائية الأرض والمرأة باعتبارهما يمثلان النبل والشرف، وهما يستوجبان المقاومة. فيقول مطلع الأنشودة/ الملحمة المُغناة:
أيَا أدْهَارْ أُبَرَّانْ أيَا اسُّوسْ أنْ يَخْسَانْ
وي ازّايَكْ إيغَارّنْ أَزَّاْيْس إيغَارْ أَزْمَانْ
وترجمتها(12):
أيا جبل أبران أيا سوسة العظام
من غرر بك يغرر به الزمان
فالزمان يساند المكان هنا وينافح عنه، وجبل أبران منيع ومحمي حسب الشاعر المفترض، ولا بد من تدخل قوى أخرى لمناصرته. وهو ما يعطي ثقلا للمقاومة ويطبعها بطابع غيبي، ويعطي في الوقت نفسه هالة للإنسان الأمازيغي وإرثه الحضاري الوثيق الصلة بمحيطه. وهو بهذا "يرتبط بالمجال وثيق الارتباط، بل يجعل هذا المجال طاقة خاصة في المعارك ويحدد مصائرها، المجال هو قوة لوجيستيكية يعرف الشاعر جيدا مساهمتها الحادة في النصر"(13). وطبيعي جدا أن تسعى المسرحية إلى الاعتماد على مكان ثابت وديكور لا تحول فيه. فاللوحة المثبتة في فوندو الخشبة تشير إلى جغرافية الريف ذات الطابع القروي. كما نجد سكنا ريفيا بفنائه الواسع وما يحيط به من بئر وشجر. وهذا الفناء ظل المكان الذي دارت فيه أحداث المسرحية رغم تغير المواقف، وتطور الوقائع. فهو مكان للحياة العادية واليومية للريفيين، ومكان للاحتفال، ومكان للاستنطاق والاقتحام. مكان للحب ومكان للحرب. فثمة متتاليات مستمرة في فضاء واحد. ومعلوم أن الأفضية المفتوحة مثل الساحات والأسواق والفناءات عكس الأفضية الداخلية، أمكنة لا حميمية فيها ولا أسرار، بل تنصب فيها المحاكمات وتعقد فيها المجالس والاحتفالات والاشتباكات. وتعتبر ساحة العرض المسرحي المفتوحة من قبل جوليان هلتون(14) بمثابة مكان للإفشاء وإباحة الأسرار وكشف الحقائق، وفيها يتم احتواء مجموعة من الأمكنة الافتراضية الأخرى التي لا تحضر وقائعها على الخشبة. وهذا ما حصل في هذه المسرحية فلم تَسْع قط إلى اختزال ساحة القتال فوق الخشبة، وفي بضعة أمتار، فالحرب والمقاومة تجسدهما أسس ثقافية في الدرجة الأولى، وهو ما يشكل المناعة والوقود الفعال للمضي قدما والحفاظ على الذات والوطن، وتحقيق الانتصارات الميدانية.
وهكذا استطاع المسرح المغربي والأمازيغي بالريف خاصة، وكذا العديد من الفرجات والأشكال التعبيرية الدرامية الأمازيغية أن يجسد المقاومة المغربية للمحتل الأجنبي خير تجسيد، وان يساهم في كتابة تاريخ المقاومة، وإبراز خصائصها، وهوية الإنسان الأمازيغي وسيكولوجيته.

مشهد من مسرحية رجل من ذهب

خاتمة:

إن أدب المقاومة عموما يرصد زمن المحن والتحديات، والمسرح باعتباره مؤسسة مؤثرة في المجتمع، ووسيلة فعالة لمعرفة الذات عن طريق الاطلاع على الماضي، و خلق فرص للتجمع والحوار، قد انخرط بدوره في مهمة التوعية وتكريس ثقافة المقاومة والحث على النضال مدافعا بذلك على قيم الحرية والبذل والتضحية. ويبدو أن المقاومة تتميز في المغرب بطابع شعبي، وتجلت مظاهرها في الفن عموما وفي الفرجات الشعبية ومختلف الأشكال التعبيرية المرتبطة بالطقوس اليومية والممارسات الاعتيادية. والثابت أن حديث المسرح عن تيمة المقاومة يستدعي بالضرورة الحديث عن قضايا أخرى محايثة من قبيل البطولة، والتاريخ، والهوية، والدين، واللغة، والحرية... مما يجعل رصد هذه التيمة استقصاء لخصوصية الشعب المقاوم، وغوصا في سيكولوجيته. وتبعا لهذا فإن المقاومة المغربية قديمة قدم الإنسان نفسه، فالمغرب كان على الدوام منطقة عبور وجغرافيته منفتحة على واجهات عدة، فمن الطبيعي أن تتكالب عليه القوى الاستعمارية، ومن اللازم أن يتصدى للمعتدين، وهذا ما تشير إليه مصادر تاريخية شتى. ولقد اتخذت المقاومة المغربية أشكالا عدة، من مقاومة عسكرية، وثقافية، ونفسية. وجاء أدب المقاومة من خلال فن المسرح سجلا وذاكرة فردية وجماعية تؤرخ للحظات الخالدة والملاحم المبهرة التي صنعها الإنسان المغربي، وتصور الويلات التي عانها في سبيل الحفاظ على أرضه وإرثه الحضاري.

المراجع المعتمدة

(1) المقاومة في المسرح المغربي، عبد الرحمان بن زيدان، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، 1985، ص:14-15.
(2) لقد ترجم نص المقال الوارد في الجريدة الباحث سعيد عاهد وهو متضمن في كتابه: الفتان، محكيات من سيرة الروكي بوحمارة لصحفيين وكتاب غربيين معاصرين له، منشورات جريدة الاتحاد الاشتراكي، مطبعة دار النشر المغربية، الدار البيضاء، ط1، 2013، ص:101-102
(3) الفتان: محكيات من سيرة الروكي بوحمارة لصحفيين وكتاب غربيين معاصرين له، سعيد عاهد، مرجع سابق، ص:101.
(4)المرجع نفسه، ص:102.
(5) Allende el Estrecho :Viajes por Marruecos (1889-1894) ,Jose Boade y Romeu, Concejeria de Cultura, Melilla,1999, P: 472-473.
(6) ينظر في هذا الإطار كتاب رامون جاموس لا سيما في الفصلين الأول والثاني:
Honneur et Baraka : Les structures socials tradicionnelles dans le Rif, Raymond JAMOUS, Cambridge University Press et Maison des Science de l’Homme, Paris, 1981
(7) أيث ورياغر قبيلة من الريف المغربي: دراسة إثنوغرافية وتاريخية، دافيد مونتكمري هارت، ترجمة محمد أونيا- عبد المجيد عزوزي- عبد الحميد الرايس، ج1، أقواس للنشر، هولاندا، ط1، 2007، ص:253.
(8) المغرب المجهول: اكتشاف الريف، أوجست مولييراس، ترجمة عز الدين الخطابي، ج1، دار النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 2007، ص: 143.
(9)المرجع نفسه، ص:143.
(10) نقلا عن: أيث ورياغر قبيلة من الريف المغربي: دراسة إثنوغرافية وتاريخية، دافيد مونتكمري هارت، مرجع سابق، ص:255.
(11)El Rif de Emilio Blanco Izaga: Trayectoria militar, arquitectonica y etnografica en el Protectorado de España en Marruecos, Vicente Moga Romero,Edicions Bellaterra, UNED, Melilla, 2009, P:261
(12) الترجمة مأخوذة من كتاب: ملحمة أدهار أبران أنشودة المقاومة الريفية، محمد أقضاض ومحمد الوالي، مطبعة المناهل، الرباط، 2007، ص:227.
(13) ملحمة أدهار أبران أنشودة المقاومة الريفية، مرجع سابق، ص:60-61.
(14) نظرية العرض المسرحي، جوليان هلتون، ترجمة نهاد صليحة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1994، ص: 126.


تعليق جديد

التعليقات المنشورة لا تعبر بأي حال عن رأي الموقع وسياسته التحريرية
شكرا لالتزام الموضوعية وعدم الإساءة والتجريح