المزيد من الأخبار






الجهوية المتقدمة في المغرب: اصلاح ترابي لا يخدم الهوية الجهوية


الجهوية المتقدمة في المغرب: اصلاح ترابي لا يخدم الهوية الجهوية
رضا زيرك

منذ السنوات الأولى لتولي الملك محمد السادس مقاليد الحكم أعلن عن «الجهوية المتقدمة»، وقال إنها تهدف إلى «تعزيز الصرح الديمقراطي» باعتبارها «قوام الدولة العصرية، التي نرسي دعائمها». وفي سنة 2010 أعطى الإنطلاقة لهذا المشروع بتعيين اللجنة الاستشارية للجهوية، التي اقترحت مشروعا للتقطيع الجهوي وإطاراً مؤسساتياً للجهوية الجديدة، بعد أن أجرت مشاورات مع الأحزاب السياسية والنقابات والسلطات المحلية والخبراء والمنظمات غير الحكومية.
وبالنظر إلى نتائج التقرير الذي أعدته اللجنة الاستشارية للجهوية سنة 2010، فإن مسودة التقطيع الجهوي التي اقترحتها وزارة الداخلية سنة 2014 لم تأت بأي جديد على مستوى التقطيع المقترح. تلقت الوزارة ملاحظات الأحزاب السياسية وأدخلت تغييرات على المشروع، وبعد ذلك تمت المصادقة عليه في المجلس الحكومي في الخامس من فبراير 2015، ليدخل حيز التنفيذ في غشت 2015، ويكون بذلك ثالث تقطيع جهوي في المغرب في أقل من 50 سنة.

استجابة لعملية التمدن السريعة

ضرورة الإصلاح ليست وليدة اليوم بل فرضت نفسها على السلطة العمومية منذ وقت مبكر. ورغم أن التقطيع الجهوي الذي اعتمد خلال التسعينات حقق بعض التقدم الإيجابي، فقد فشل في الاستجابة للتغيرات الكبرى التي عرفها المغرب، بما ذلك التوسع الحضري السريع الذي رافقه نمو غير متكافئ للجهات، والهجرة القروية العصية على الاحتواء، وظهور منظمات غير حكومية وشبكات جمعوية محلية تغطي أحيانا بأنشطتها على غياب الدولة، بالإضافة إلى العولمة ـ التي تستدعي المراهنة على جهات أكثر تنافسية ـ ودعوات المنظمات الدولية التي تحفز الدولة على الحد من مجالات تدخلها، دون أن ننسى الوصاية الثقيلة للدولة على الجهات، ومحدودية الموارد المالية المخصصة لها في ظل لامركزية محتشمة، كلها عوامل أثرت سلباً على استدامة تلك التجربة.
لقد ظلت الدولة في المغرب مركزية منذ القدم، وعندما ارتأت الحاجة إلى إعادة تصميم إدارتها الجهوية، طرحت الجهوية المتقدمة في ساحة النقاش قبل حوالي عشر سنوات. ولأن هذا النقاش كان متقطعا وغير مستمر، فقد كانت فترات «البوار» التي مر منها تفسح المجال أمام التكهنات حول مدى فعلية الإصلاح. الآن، بالتوازي مع انسحاب الدولة من تدبير الجماعات المحلية، أصبحت المجالس الجهوية تتمتع بصلاحيات وسلطات أوسع. وحسب اللجنة الاستشارية للجهوية، فإن تفعيل هذه الإستقلالية يجب أن يتم بشكل تدريجي يتوافق مع أداء وقدرة الفاعلين السياسيين على إدارة الشؤون المحلية.
بتعزيز الخيار الجهوي والسماح بظهور سلطات جهوية ــ أجريت الانتخابات الجهوية في المغرب للمرة الأولى يوم 4 سبتمبر الماضي ــ يكون المخزن قد دشن تغييرا عميقا. وهذا ينم عن تطور في تصوره للجهات، التي فرضت نفسها كفضاء لتعبئة وانخراط السكان. كما ينم عن تطور في تصوره للعلاقة التي تربطه بترابه بشكل عام، إذ طالما اتهمت الدولة بدعم تنمية غير متكافئة للجهات، وتفضيل «المغرب النافع»، التي يشمل الساحل والسهول، على حساب «المغرب غير النافع» (باقي المناطق)، وها هي اليوم تخطط لصرف ما بين 128 و215 مليار درهم لدعم الجهات ضمن برنامج يمتد على مدى عشر سنوات.
تقطيع «وظيفي وبراغماتي»

من أجل ترجمة الإصلاح الجهوي على أرض الواقع تم إحداث تقطيع جديد يضم 12 جهة بدلا من 16 التي حددها التقطيع السابق الذي تم اعتماده منذ سنة 1997. وإذا كان هذا الأخير يعطي الأولوية لجهات الصحراء الغربية في البناء الجهوي، إذ كان يبدأ من الجنوب إلى الشمال، فإن التقطيع الجديد اعتمد صيغة «تنازلية» من الشمال إلى الجنوب. وهو اختيار رمزي بكل تأكيد، ولكنه أيضا يحمل من الدلالة ما يكفي أن صناع القرار يطمحون إلى اشراك الجهة في المبادلات الدولية.

ولأن الأصل في تسمية الجهات يتغير بتغير أهداف ومنطق الإصلاحات الجهوية، فقد عرفت هي الأخرى تعديلات جذرية. ذلك أن أسماء الجهات الجديدة حددت اعتمادا على أقطاب حضرية كبرى يمتد إشعاعها على مجالات من التنمية الاقتصادية، باستثناء ثلاث جهات، وهي درعة ـ تافيلالت وسوس ـ ماسة والجهة الشرقية. ويعزى هذا الاختيار، وفقا لللجنة الإستشارية للجهوية، إلى حاجة هذه الجهات إلى دعم قوي من حيث التضامن الوطني، وعليها بالتالي أن تستفيد من ميزانيات الدعم الجهوي. كذلك الشأن بالنسبة للجهة الشرقية، التي تضم تضم مجموعة من المناطق المتباينة والمتفاوتة من حيث المؤهلات، ولا تجمعها عناصر موحدة بارزة، ومن هنا جاءت تسميتها محددة بموقعها الجغرافي. إن اختفاء المرجعية القبلية أو الإثنية التي تم اعتمادها في تقطيع سنة 1997، والاستعاضة عنها بالإعتماد على الأقطاب الحضرية والمدن الكبرى، يعكس بجلاء أهداف التنمية الاقتصادية المرتقبة باعتماد هذا التقطيع.

حسب اللجنة الإستشارية للجهوية فإن هذا التقطيع « لم ينبن إلا على اعتبارات موضوعية مثل الوظائف الاقتصادية وأقطاب التنمية المندمجة والعلاقات والتفاعلات الحيوية الآنية والمستقبلية بين السكان المعنيين. ولم يكن لهذا التقطيع أن يعاني من مثبطات تاريخية صعبة التجاوز ولا من إكراهات أو نعرات مخلة بالنهج العقلاني والوظيفي المنشود». ولقطع الطريق أمام الإنتقادات التي تعتبر أن التقطيع له دوافع سياسية أو أمنية بالدرجة الأولى، شددت اللجنة أن «المشروع لم يفرضه توفيق ما، بين نعرات إثنية أو ثقافية أو عقائدية تزيد أو تنقص غلوّا». عكس تقطيع 1997، الذي قيل أن اعتماده تم بعيدا عن أي اعتبارات هوياتية، مع أن الذين أشرفوا على صياغته عملوا على محاصرتها والتهيئ لها، وفي بعض الحالات على حساب العقلانية الاقتصادية المنشودة. ولعل الحالات الأكثر دلالة هي تقطيع الريف، الذي ظلت تربطه علاقة متوترة مع المخزن، حيث وزعت أقاليمه على ثلاث جهات. وكذلك فاس ومكناس اللتان فرقتا على جهتين مختلفتين، مع أنهما مدينتان متكاملتان، وذلك لأن لكل منهما، حسب صناع القرار السياسي، شرعية تاريخية ورمزية تخول لها الحق في ترؤس الجهة.
اعتراف متناقض

أحد الأهداف الرئيسية المعلنة للجهوية المتقدمة أنها «تعطي الفرصة للهوية الجهوية، التي غالبا ما تكون قوية جدا وتشعر بالتهميش، أن تحظى بالشرعية والاعتراف في سياق الإنسجام الوطني». ومع أن المنطق يقتضي أن تكون العناصر المكونة للهويات الجهوية في صميم المعايير المعتمدة في رسم الخريطة الجهوية الجديدة، فإن الجوانب السوسيوثقافية والترابية، التي تتحكم بشكل كبير في التنظيم الاجتماعي، لم تدرسها اللجنة بشكل كاف. وفي هذا الصدد يرى المحلل السياسي أحمد البوهالي أن «تداخل هذه العوامل في عملية إثبات الهوية الجهوية، هو السبب الذي حذا ببعض الدراسات إلى تهميش متغيرات مهمة كتلك التي تخص الانتماء الجمعي (كومونوتير)، تفاديا لإحياء النعرات الإثنية»، مبرزا أنه لا يوجد في «التعريف الذي أورده مشروع اللجنة الإستشارية للجهوية لعملية التقطيع ما يحيل على التركيبة والمكونات السوسيو ـ إثنية لسكان المنطقة. واكتفى بالاشارة إلى الجغرافيا الاقتصادية والفضاء الترابي دون أي اعتبارات أخرى»، مع أن السكان هم الذين بيدهم مفتاح نجاح أي نظام للتقطيع الجهوي. والمثير للإستغراب أنهم لم «يشركوا بما فيه الكفاية، ناهيك أنهم لم يستشاروا بشكل مباشر قبل التقطيع، ولو من خلال استطلاعات الرأي».

هذا «الاحتراز من إحياء النعرات الإثنية» التي تعتبرها الدولة المركزية من الأخطار التي تهدد وحدتها الترابية، يمكن أن يعزى كذلك إلى تنامي الإحتجاجات الأمازيغية بشكل ملحوظ؛ إذا كانت زعاماتها تدافع عن مطالب هوياتية وثقافية ــ الاعتراف باللغة الأمازيغية وإدراج البعد الأمازيغي كأحد مقومات الهوية الوطنية ـ فإن الجمعيات الأمازيغية باتت تحمل مطالب جديدة ذات طابع ترابي، على غرار الكف عن مصادرة الأراضي القبلية وتهميش المناطق الجبلية، وإعداد بنى تحتية أساسية كفيلة بتحسين الظروف المعيشية لسكان هذه المناطق الجبلية، وغالبيتهم أمازيغ.

وعوض أن تقدم لها السلطة إجابة تجمع بين الإعتراف بالخصوصية الهوياتية والثقافية للمناطق المهمشة وحقها في التنمية، فضلت أن تنسف هذه المطالب، وتعالجها على مستويين منفصلين. الأول دستوري، يجسده الاعتراف باللغة والثقافة الأمازيغيتين باعتبارهما مكونين للهوية الوطنية. والثاني سوسيوقتصادي، يتمثل في إطلاق مشاريع للتنمية في المناطق الجبلية. وهكذا تكون الدولة قد تعاملت مع تلك المطالب بمعزل عن بعضها البعض، وكسرت الرابط الذي يجمع بينها، وجردت المطلب السوسيوقتصادي من طابعه السياسي، واستأصلت الحاضنة الترابية لبعده الهوياتي والثقافي.

إن الاعتراف الدستوري بالبعد الأمازيغي كعنصر من عناصر الهوية الوطنية هو أيضا طريقة لجعلها ملكا مشتركا لجميع المغاربة، وبالتالي انصهارها في التراب الوطني، ما يضمن للدولة أنه لا يمكن أن تكون هناك منطقة خاصة بالأمازيغ.

مجرد خصوصيات؟

اللجنة الإستشارية للجهوية بنت توجهها المنهجي تماشيا مع هذا النمط في التدبير، الذي يفصل بين الهوية والثقافة والتراب، حيث قالت إنها لا تختزل مكوناته في مجرد «نعرات إثنية أو ثقافية أو عقائدية تزيد أو تنقص غلوّا» أو «تصورات ومعتقدات ذاتية»، مؤكدة انه «لا مناص من التخفيف من حدة مفهوم القرب، بصفة كونه إجراء تركيبيا يحتوي مختلف مقومات تحديد المجال الجهوي من حيث التاريخ والاقتصاد والثقافة والإطار الطبيعي وما إلى ذلك». وتبرر هذا بكون «مجالات الزيجات عبر التراب الوطني تبين، من خلال بحث استطلاعي، حركة قوية من الانصهار الدالة على علو درجة الاندماج على الصعيد الوطني».

إلا أن ديناميكية الانصهار لا تقلل من أهمية الرابط الجهوي. وهذا ما خلص إليه تحقيق واسع أنجزه المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية سنة 2012 حول الرابط الاجتماعي، إذ ويؤكد أن المشاركين «إذا كانوا يعبرون عن شعور قوي بالانتماء إلى الإسلام والوطن، فإن الإنتماء إلى التركيبات الصغرى مثل الدوار والقبيلة ما زالت غالبة على تركيبات الدولة الحديثة مثل الجماعة والإقليم والجهة».

ورغم أن سلطات الحماية، وبعدها المخزن، عملوا على إضعاف القبيلة ونسف ركائزها، فإن الإرتباط بها ما يزال قويا. لا شك أن القبيلة والدوار، كما يؤكد ذلك المعهد الملكي للدراسة الإستراتيجية، لم يعودا يلعبان أي دور سياسي أو إداري، لأن السلطات أوكلت هذه الصلاحيات إلى الجماعات، التي«تشكل، في جهات كثيرة من المغرب، بنيات أحدثت رسميا بهدف تأطير إداري للسكان، أو بالأحرى تقطيع مناهض للقبيلة». ولكن عمليات إعادة التشكيل الترابي، التي غالبا ما ركزت على المراكز وهمشت الضواحي، عززت دور القبيلة كفضاء للتضامن وإثبات الهوية.

إن التقطيع الجديد أعاد تكرار الخطأ الذي ارتكبه سابقوه، حيث تعاملوا مع التراب بوصفه «نتاجا لللسياسة العمومية، باعتبارها أداة للتنمية الاقتصادية يتم التحكم فيها حسب الإرادة، وليس بوصفه صيرورة مجالية للعبة اجتماعية أكثر تعقيداً». ومع ذلك، فإن حصيلة عمليات إعادة التشكيل الترابي المتعددة التي عرفها المغرب، خير دليل على أن الفصل بين الهويات والثقافات والتراب يجعل من الصعب إفراز هويات جهوية كفيلة بأن تجعل من الجهة إطاراً للإنخراط والتعبئة بالشكل الذي تطمح اليه السلطة.

- المصدر "اوريون 21"


تعليق جديد

التعليقات المنشورة لا تعبر بأي حال عن رأي الموقع وسياسته التحريرية
شكرا لالتزام الموضوعية وعدم الإساءة والتجريح